السلام عليكم
تأبطوا شهاداتهم من شتى بلدان العروبة والإسلام، وذهبوا بالآلاف إلى اكتشاف عالم جديد وتجربة حياة عصرية جديدة، يحدوهم الأمل لنيل أعلى الشهادات وتحقيق طموحاتهم من خلال سنوات عديدة يقضونها في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما أتموا دراستهم لم تكن الفرحة مقتصرة في الحصول على الشهادات العليا، بل كانت فرحتهم أشد لمعرفتهم أساليب العيش على الطريقة الأمريكية! فرح بعضهم بمعرفته بالطرق المتنوعة لصنع وجبة الهامبورجر، وتفاخر آخر باحتسائه للكابتشينو، وتمايل غيرهم زهوًا وهم يرتدون البنطلون الجينز مع التيشيرت.
وشيئًا فشيئًا بدأ شبح التقاليد الأمريكية يتسلل إلى مجتمعاتنا عبر هؤلاء الرسل الجدد لأمريكا ممن أحبوا أساليب الحياة هناك، واكتشفوا أنه ليس شرطًا العيش هناك للسير بمقتضى الحياة على الطريقة الأمريكية فقاموا بواجبهم خير قيام، حيث نقلوا لمجتمعاتهم ما رأوه وعايشوه نقلاً دقيقًا، وسهلوا لمن لم يذهب التنفيذ الحرفي لكل ما تم استيراده.
ليست المشكلة في التقليد فقط، ولكنها أيضًا في الحب العارم لكل ما يصدر من أمريكا، فكم هو مؤسف أن نرى بعض أبناء وبنات مجتمعنا قد انساقوا بقوة وبكل حب لتطبيق بنود الحضارة الأمريكية الزائفة، ولم يتوقف الأمر عند حد الإعجاب فقط بل تعداه كثيرًا ليكون حبًا شديدًا لتلك الدولة وانسياقًا شديدًا للارتواء من ينابيع حضارتها، وقد يتجاوز بعضهم الحدود بكيل عبارات الثناء والتمجيد لتلك الدولة، وقد يقول بعضهم ما الضرر من ذلك الشعور عندما يكون موجهًا لدولة احتضنت شباب أمتنا وعلمتهم وقلدتهم أعلى الأوسمة والنياشين العلمية!!!
قبل فترة من الزمان كان من الممكن تقبل نظرات الإعجاب نحو أمريكا وحضارتها وتقدمها في مجالات شتى، ولكن تلك النظرات قد تولد الآن تناقضًا وحسرة في أعماق من أبدى إعجابه في يوم ما تجاه تلك الدولة، فمع نمو النصرانية المتطرفة في السنوات القليلة الماضية تنساق أمريكا برمتها نحوها، وتكشّر عن أنيابها لتضع حدًّا للخديعة التي انطلت على السذّج طوال هذه السنوات، فمتى أحبت اليهودية أو النصرانية الشعوب المسلمة؟ ومتى عملت إحداهما لخدمة أبناء العروبة والإسلام؟
سؤال حائر لكل من حصل على شهادة أو خبرة في أمريكا فوالاها وأحبها: ما رأيكم في الحرب الضروس التي تشنها أمريكا على الأقطار المسلمة الواحد تلو الآخر؟ وهل يستقيم هذا الحب لأمريكا وهي تقتل أطفالا مسلمين، وتزهق أرواحهم البريئة تحت أطنان من المتفجرات؟ بالأمس القريب رأينا أطفال أفغانستان تحت الأنقاض، واليوم أطفال العراق، ولا نعلم على من سيأتي الدور!!
سؤال لمن أبدوا إعجابهم في فترة سابقة بأمريكا: هل تستحق منكم أمريكا ذلك الإعجاب؟
وما شعوركم تجاهها لو كشفت لكم الأيام أنكم الضحية القادمة لجيشها وآلياتها؟!!
25/4/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة، رسالتك تثبت أن اللحظة الراهنة كاشفة بعمق، ومناسبة لفتح الملفات المختلفة، وأنت تفتحين ملفات كثيرة وقديمة، فمرحبًا بالذاكرة والمراجعة.
لا أميل معك أن تشخيص داء الولع بأمريكا يكمن في سذاجة من يحملون لواء القيم الأمريكية؛ فالمسألة أعمق وأبعد وأكثر تركيبًا من ذلك، ومن السهل إطلاق أحكام الإدانة وشعارات الشجب وشتائم التنديد، ولكن صفحتكم هذه عودتكم على غير ذلك، فنحن نحاول أن نفهم وأن نحلل، وتبدو تلك مهمة صعبة وسط التشويش والخلط الذي يسود حياتنا الفكرية والاجتماعية، ودعينا نتأمل فصول القصة.
كان الخروج إلى أمريكا والغرب عامة من المزايا التي لا يستطيعها إلا نفر محدود من الطبقات العليا حتى منتصف القرن العشرين، وكان هؤلاء النفر يذهبون على نفقة الأهل لمحاولة الحصول على تعليم أفضل، وكان تماسكهم الاقتصادي، وخلفيتهم الاجتماعية، وأهدافهم المحددة، وأخلاقهم الأرستقراطية تمنحهم القدرة على قدر من التمييز بين ما يصلح للنشر في أوطانهم، وما لا يصح المجاهرة به، وبالتالي فإنهم كانوا محدودي التأثير إلا في البلدان التي كانت محتلة بالأجانب، وحتى في هذه البلدان كانت دوائر حركتهم محدودة في طبقتهم والشرائح المتعاملة معهم، وظلت القيم الغربية في أنماط الحياة والعيش محصورة ومستهجنة وبخاصة مع تصاعد ظاهرة حركات الإحياء الإسلامي.
وظلت هذه الحالة تميل إلى المحافظة الاجتماعية والتقاليد المستندة إلى العادات أو روح الالتزام بالدين كما كان الناس يفهمونه وقتها، ولكن هذه الحالة تغيرت تمامًا مع قيام الأنظمة "الوطنية" التي تحررت من الاستعمار أو الاحتلال العسكري لتسقط غارقة في التغريب، وبالتحديد في الأمركة، ولعل محاولة الدوران في فلك الاشتراكية كانت طرحًا فاشلاً رغبت في تحدي التبعية للغرب الرأسمالي بالتبعية للغرب الشيوعي، وكلاهما ضياع وابتعاد عن الأصول التي أصبحت جامدة ومتحفية لغياب جهود إصلاحها وتجديدها حتى أصبحنا بالتدريج حائرين بين قديم جامد، وبين غريب وافد، وما زلنا نعاني من هذه الازدواجية.
ومع دخول أمتنا إلى عصر الإعلام الضخم بدءًا من التلفاز، وانتشار السينما والفيديو الذي دخل كل بيت ثم الكمبيوتر والأطباق اللاقطة، ولا يمكن التغافل عن التعليم الأجنبي الذي اتسع بحيث لم يعد هناك ضرورة كبيرة للذهاب إلى أمريكا أو أوروبا للحصول على شهادته؛ لأن فروع الجامعات الكبرى أصبحت في الخليج، وفي غيره، ومن قبله استقرت الجامعات غربية المنهج والأسلوب والقيم في بيروت والقاهرة وغيرهما... ولعبت السياحة دورًا ليس بالقليل في الاحتكاك بمن يحملون قيم مجتمعاتهم الغربية، وكانت هذه كلها بمثابة مضخات تعمل طوال الوقت في نشر الثقافة والحياة على الطريقة الأوروبية أو الأمريكية، وساهم في الترويج لهذه الثقافة والطريقة أننا تخلفنا فعلاً عن أن يكون لنا شخصيتنا الحضارية المستقلة اللهم إلا من بعض مظاهر شكلية، وبعض تقاليد اجتماعية بعضها سلبي، وبعضها إيجابي، ولكننا حاليًا بصدد مشهد مختلف.
لم يكن الاحتكاك الثقافي والحضاري بيننا وبين غيرنا شر كله، ونحن أو بعضنا قد تجاوز مرحلة الانبهار الطفولي، والتقليد الساذج الأعمى، والمحاكاة الخرقاء، وهذا التجاوز له أسبابه وروافده، ولا أريد أن أستطرد، ولكنني أقول لك بأن الظروف الآن مواتية لمسار جديد، وتصنيف أفضل، وصيغة أوفق في فهم العالم والتعامل معه، فهناك الملايين في كل العالم الآن تشعر بالرغبة في العيش كما تريد خارج النمط الأمريكي في الثقافة والعيش، وتحتفي بالتنوع والاختلاف الثقافي بين البشر، وتنحاز إلى العدل والحرية والمشاركة، وتدعم الاختيار الحر المفتوح لمن يحكم؟ وكيف؟ ولكل إنسان أن يعيش محترمًا –بفتح الراء-مهما كان دينه أو لونه أو ثقافته، وأن يعيش محترمًا –بكسر الراء- للآخرين كذلك.
هذه الملايين يعيش بعضها في أمريكا نفسها، ويعيش آخرون في كل أنحاء العالم، ويكرهون الوجه القبيح لسياسات الهيمنة الأمريكية ثقافيًّا وعسكريًّا التي تبدو أقسى ما تكون في منطقتنا، وأعتقد أن هذا واضح الآن لكل ذي عينين، ولكن اللحظة مواتية لندخل في مرحلة جديدة من علاقتنا بالغرب تتجاوز الرفض الساذج، أو الانقياد السالب، تتجاوز الولع بالحب أو الولع بالكراهية إلى التفاعل والفرز، وتذكري أن ضعف مقاومتنا، وفوضى حياتنا، واستبداد أنظمتنا الاجتماعية والسياسية، وتخلف منظومتنا التعليمية، وتهافت أدواتنا الإعلامية... هذه الأوضاع ستظل مقدمات نشعر معها بالعجز والنقص فيتطلع البعض إلى نموذج فلا يجد إلا جانب الأعداء، ولا يدري ساعتها ماذا يفعل أو يشعر؟!!
إذن أعتقد أن السؤال الآن ليس: لماذا يحب بعضنا أمريكا؟ أو هل تستحق أمريكا غير الكراهية؟!
السؤال الصحيح هو: كيف نقيم علاقة سليمة بالعالم من حولنا فنتواصل ونتفاعل مع من يريد العدل، ويدعو إلى الإنصاف والسلام، ويناهض الهيمنة والاستبداد الثقافي والسياسي، المحلي والعالمي؟! وكيف نقاوم القوى المناهضة للعدل والمشاركة والحرية محلية كانت أو دولية، بيننا كانت أو بعيدة عنا؟!
ينبغي ألا يوجد الآن شيء اسمه حب أمريكا أو كره أمريكا؛ لأن القيم الأمريكية المعتادة أصبحت على المحك، وما شاع من صورة عن حريات اجتماعية ومدنية، وانفتاح فكري وثقافي، ومساواة دون تمييز بين البشر... إلخ ، فكل هذه القيم والتقاليد التي كانت توصف بأنها مكونات ثابتة -مع غيرها- من المعالم الأمريكية أصبحت الآن محل تساؤل، ومهددة بل وملقاة على قارعة الطريق.
الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي وغيرها من الأساسيات –التي كانت الإمبراطورية الأمريكية تعتبر نفسها الداعية الأولى لها-أصبحت اليوم تبحث عمن يحترمها ويعيد الاعتبار لها؛ لأنها تذبح بسكين العصابة الحاكمة في أمريكا، وعشرات الآلاف من الأمريكيين يرفضون هذا في مواجهة ضغوط هائلة بعضها إداري وسياسي، وبعضها اتهامات بالتخوين وعدم الوطنية.
هل آن لنا أن نكف عن لعب دور المتفرج الضحية دائمًا، وأن ندخل في عمليات بناء حقيقي لقدراتنا، واجتهاد حقيقي لصياغة واقعنا على نحو يرضي الله، ويحترم البشر، ويعيد إلينا كرامتنا فضلاً عن ريادتنا بين الأمم؟!!
هل يمكن أن تستمر صحوتنا النسبية الحالية وتتطور لتصبح طاقة دافعة إلى تغيير أحوالنا، وفهمنا للعالم من حولنا، وتفاعلنا معه؟!! هل يمكن أن نؤمن بأهليتنا لاستحقاق حياة أفضل نصوغها بجهودنا دون انتظار لحكومات عاجزة، وقبل أن يأتي علينا الدور في الحملة الأمريكية لنشر "الديمقراطية" في المنطقة؟!!
إن العالم منقسم الآن لفريق العصابة الوقحة وأعوانهم والساكتين عليهم في طرف، وفريق مناهضي الظلم والوقاحة والقتل والتدمير في الطرف الآخر، وجمهور يتفرج على اللعبة فيتحمس أحيانًا، ويسخط أحيانًا أخرى، ففي أي هذه الأطراف الثلاثة يرى كل منا نفسه؟!، وتابعينا بأخبارك.
ويتبع>>>: المولعون بأمريكا: حضارة قوة أم أمة؟ مشاركة