تعرض لي بين الحين والآخر مشاكل نفسية تؤثر سلبا على حياتي الشخصية، وعلى تعاملي مع أسرتي، وأجد صعوبة في حلها أو التخلص من آثارها.
بداية أنا زوجة وأم لثلاثة أطفال: بنت- 9سنوات، وولد- 5سنوات، وولد- سنتان، جامعية، وأحضر ماجستير، في طور إعداد الرسالة، مغتربة عن أهلي وأهل زوجي بسبب ظروف دراسة زوجي الذي يعمل طبيبا، ويسعى لإنهاء الزمالة، حياتي مستقرة، ولله الحمد.
ولكن مشكلتي الكبرى شعوري بالوحدة والغربة؛ لأن دراسة زوجي تقتضي الاعتكاف على الدراسة، وإلغاء أي ارتباطات اجتماعية، أفكر دائما في أمي، وأبي، وإخواني وأخواتي، هذا التفكير يعذبني ويتعبني، ومهما أحاول تناسيهم أفشل في ذلك، وقد أدى بي الأمر إلى التفكير بطريقة أخشى فيها على ديني، فقد أصبحت أقارن وضعي بوضع غيري ممن يعيشون مع أهليهم، وأفكر لِمَ لا أكون مثلهم؟ أستغفر الله، لا اعتراض على قضاء الله.
مشكلة أخرى أعاني منها هي عدم ثقتي بنفسي، فمع كوني جامعية، وأحفظ القرآن الكريم، وأتقن بعضا من المهارات، فإنني أشعر دائما أن غيري أفضل مني، وأنني لا شيء في هذه الدنيا، خاصة إذا نظرت إلى من هو أعلى مني، وقدم لهذه الأمة الشيء الكثير، التطورات التي يمر بها العالم يوما بعد يوم، ووضع المسلمين المتردي، جعلني أكره هذه الحياة بكل ما فيها، ولم أعد أحب الاهتمام بأناقتي، وبجسمي، وبمظهري، وأصبحت أكره التجديد والتغيير، وزهدت في هذه الحياة، وأصبحت فكرة الموت تلح علي، وأتساءل دوما لِمَ الاهتمام بهذه الدنيا وتطويرها ما دام الموت ينتظرنا في أي لحظة؟.
أفكر في الكثير من المشاريع، وأود تطبيقها على أرض الواقع، ولكن كثرة الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقي تعوقني عن ذلك، فزوجي يكره فكرة وجود الخادمة في البيت، وفي الوقت نفسه يشجعني دائما على تطوير نفسي، والتميز في هذه الحياة، معتمدا في الغالب على أسلوب النقد بقصد النصح والتطوير.
أرجو منكم تقديم بعض الحلول لمشاكلي السابقة مجتمعة، وإرشادي إلى بعض الكتب والمقالات التي ترسخ فيّ الرضا بقضاء الله، وقاعدة: (حب لأخيك ما تحب لنفسك).
وجزاكم الله كل خير.
23/6/2024
رد المستشار
الأخت الفاضلة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لو نظرنا إلى شكواك من الخارج لقلنا إنك تعانين من أعراض اكتئابية كجزء من الـ Home sickiness، فأنت بعيدة عن أهلك، وتفكرين فيهم دائما، وزوجك مشغول بدراسته، ووحدتك تجعلك تجترين أفكارا تشاؤمية، ومن ضمن الأعراض الاكتئابية فقد الاهتمام بأي شيء، وفقد الإحساس بالمتعة، والإحساس باللاجدوى، والإحساس بالدونية وانعدام القيمة، والتفكير في الموت.
أما إذا نظرنا إلى تلك الشكوى بشكل أعمق فسنجد أنك مفتقدة للإحساس بالمعنى، فأنت زوجة وأم، وتحضرين للماجستير، وزوجك يحضر للزمالة في الطب، وأنت تحفظين القرآن، وتحملين هم العالم الإسلامي، كل هذه أشياء عظيمة، ولكنك للأسف لا تشعرين بقيمتها أو جدواها، وهذا ما يسمى بفقدان المعنى أو الفراغ الوجودي، وهذا الإحساس ليس مرتبطا بالغربة فقط –كما قد تعتقدين– ولكنه مرتبط بإدراكك للأشياء وتقديرك لها.
فأنت مثلا تظنين أن الذين يعيشون في بلدهم ووسط أهليهم في وضع أفضل منك، في حين أنك لو نظرت إلى الأمر من منظور آخر لقلت: أنا وزوجي نكافح من أجل الوصول إلى مستويات علمية أرقى، ننفع بها أنفسنا وأهلينا وأمتنا، وأنه بعد عدة سنوات من الغربة نعود إلى بلادنا بدرجات علمية أعلى، حيث نجني ثمرة هذا الكفاح الهادف الإيجابي، وأن كل لحظة غربة، وكل لحظة ألم لها وزن كبير عند الله، حيث نبغي بكل ما نفعل رضاه ورحمته ورفعة دينه، ودعم الأمة لتخرج من نكبتها بالعلم والجهد والإخلاص.
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقعدوا بجانب الرسول في المدينة، وإنما جابوا الأرض في كل جوانبها نشرا للحق والحقيقة، وبحثا عن العلم والحكمة.
والهجرة سواء كانت جهادا في سبيل الله، أو بحثا عن علم وحكمة (حتى ولو في أقصى الأرض)، تفتح أبوابا واسعة من الرزق والرحمات، (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100]، وهي تعطي إدراكا أوسع للناس وللحياة، وتعطي خيارات أفضل للحياة، وفرصا أكبر للارتقاء.
فإذا استطعت أن تغيري من نظرتك للأمور، وأن تجدي معنى للمعاناة الحالية، وأن تربطيها بأهدافك السامية المتعلقة برضا الله والنهوض بالأمة، فإن ذلك كفيل بتغيير برنامجك المعرفي، وحالاتك الوجدانية، وسلوكياتك في الحياة.
أما إذا كانت الأعراض الاكتئابية تعوقك عن تحقيق هذه الأمور فلا بأس من علاج هذا الاكتئاب بمساعدة أقرب طبيب نفسي يصف لك أحد مضادات الاكتئاب (وهي فعّالة ومأمونة بإذن الله)، إضافة إلى تقديم بعض الدعم النفسي حتى تتجاوزي هذه الأزمة، وتخرجي منها أفضل مما كنت، وتعاودي البحث عن معنى عظيم في كل ما تفعلينه لنفسك ولزوجك ولأبنائك، ولأهلك ولأمتك وللإنسانية.
وهذه حقيقة، فنحن حين نقوم بعمل إيجابي فإن مردوده يتمدد حتى يصل إلى أوسع الدوائر، ونحن لا ندري، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وأنت الآن في عون زوجك ليحصل على أعلى درجة علمية طبية؛ لكي يكون في عون مرضاه، وأنت بالتالي سيكون لك جزاء في كل مريض يخفف عنه شيئا من معاناته، وفي كل طبيب مبتدئ يعلمه زوجك، كل هذا إضافة إلى ما تفعلينه أنت بنفسك، أو تعلمينه لأبنائك.
ولا أجد من الكتب ما يمنحك الرضا عن النفس وعن الحياة وعن كل شيء أفضل من كتاب الله الذي تحفظينه، ودعاء في جوف الليل، وصحبة طيبة (إن وجدت)، وصبر جميل، واحتساب كل لحظة فراق أو ألم عند ربك الكريم الذي يحوطك ببره ورحمته أينما كنت.