(1)
جان بياجيه (1896-1980): سويسري ولد في نيوشاتل لأم تعاني من أزمات نفسية وهذا سر اندفاعه لدراسة العلوم النفسية حتى غدا نابغة في علم نفس الطفل وعلم النفس التربوي، ومؤلفاته تجاوزت 100 مؤلف بين كتاب ومقال وجميعها تعتمد على الملاحظات والتجارب التي كان يجريها على طفلتيه خلال مراحل عمرهما، فكان يدون وزوجته ملاحظات على الطريقة التي يكتشفان بها البيئة ويتعاملان بها مع الأشياء، ويتفهمان طريقة عملها، ويحكمان بها على ما يشاهدان، والمنطق الذي يلجآن إليه في ذلك،ولغتهما، وتطور ذلك كله عندهما في مراحل تطور عمرهما.
وانصرف بياجيه إلى البحث في السلوك الفكري والمعرفي كما يظهر في الطفولة والمراهقة أي كان مهتماً بدراسة العلاقة بين الفرد كعارف وبين العالم كموضوع للمعرفة، وظهر شغفه وانصرافه إلى الأبحاث النفسية بعد تخصصه في العلوم وحصوله على الدكتوراه في علم الحيوان، ثم التحق بأحد المختبرات النفسية في زيورخ ليتدرب فيه، وسافر إلى باريس ليدرس بالسوربون علم نفس الشواذ وعلم النفس التجريبي، وكان تلميذاً لـPierre Janet و Leon Brunswik، لكنه تأثر أكثر بـ تيودور سيمون وعملا معاً بدراسات على تطور ونمو الاستدلال عند أطفال المدارس من مختلف الأعمار.
ومن هنا تكونت لديه الاهتمامات التي رافقته طيلة حياته بالبحث في مظاهر النمو الحركي والحسي والوجداني والعقلي والمعرفي عند الأطفال. ومن أجل ذلك دعاه (Edward Claparede (1873-1940 عالم النفس الشهير الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للمؤتمر الدولي لعلم النفس وأستاذ علم النفس التجريبي في جامعة جنيف ليقوم بأبحاث مماثله على التفكير في معهد روسو بجنيف الذي أصبح فيما بعد معهداً للعلوم التربوية وعُيِّن أستاذا لعلم النفس في جامعة جنيف ثم أستاذا لعلم نفس الطفل في جامعة السوربون، وأسس مركزاً للدراسات المعرفية التكوينية، وانتخب رئيساً للمكتب الدولي للتربية ومساعداً للرئيس العام لليونسكو.
من أشهر دراساته (مفهوم الطفل عن العدد، مفهوم الطفل عن الحركة والسرعة، مفهوم الطفل عن المكان، مفهوم الطفل عن الهندسة، النمو المبكر للمنطق عند الطفل، بناء الواقع عند الطفل، بدايات الذكاء عند الطفل، اللعب والأحلام والمحاكاة في الطفولة، مفهوم الأطفال عن السببية الفيزيائية، الحكم والاستدلال عند الطفل، الحكم الأخلاقي عند الطفل، مفهوم الطفل عن العالم، تطور الإدراك من الطفولة إلى الشباب، اللغة والتفكير عند الطفل، نشأة الذكاء، نمو التفكير المنطقي، المنطق وعلم النفس، الآليات النفسية للإدراك، مدخل إلى علم المعرفة التكويني، التركيبية،...الخ).
بقي أن أقول أظهر بياجيه من طفولته اهتمامه بالملاحظة. واهتم منذ طفولته بالطيور والقواقع البحرية. وكتب أول منشور علمي له بسن الـ 10 سنوات، ثم اهتم بالفلسفة وكتب أول رواية فلسفية له بعمر العشرين سن العشرين، وحصل على الدكتوراه بعلم الحيوانات بعمر الـ 22 سنة، ثم اهتم بمبادئ العلوم وبنظريات المعرفة والمراقبة. أي أنه من خلال المراقبة يصل إلى وضع نظرية قائمة على الحقائق Epistémologie.
وأعتبر أن دراسة النفسية قد تقوده و تفتح له طريق تفهم مبادئ العلوم الوراثية. كما أبدى اهتمامه بالتحليل النفسي من خلال أطفاله راقب، وكتب كمية هائلة من الملاحظات حول تطور البناء المنطقي عند الأطفال. شغل مناصب عديدة: 1925 أستاذ بتاريخ التفكير العملي 1935 أستاذ بعلم الاجتماع بجامعة جنيف 1952، أستاذ بعلم النفس بجامعة السوربون 1956 أسس في جنيف المركز الدولي لمبادئ العلوم الوراثية Epistémologie génétique.
(2)
إن مراحل تطور الطفل حسب النموذج الإدراكي للعالم بياجيه، الذي يرى أن تطور الطفل يعتمد بشكل كبير على التطور الإدراكي Développement cognitif salon Piaget، هذه النظرية تركز على دور المعرفة والذكاء عند للطفل خلال مراحل تطوره. وهدف دراسة بياجيه دراسة طرق تكون المعرفة عند الطفل. وبشكل خاص كيف تتركب الأفكار المنطقية عند الطفل وبأي آلية. كما حاول أن يفهم كيف تعمل المراحل.
تطورت طريقة بياجيه بالمراقبة أثناء التجربة، وكانت تعتمد بشكل خاص على طريقة الأسئلة والأجوبة رغم كل المصاعب بالتحدث إلى الطفل الذي يعتبر ذاتي المركز أو التمركز Egocentrique أي يتحدث عمّا حوله.
درس بياجيه آلية الذكاء. وقام بهذا بواسطة حوار مع الطفل حول موضوع معين. وبواسطة لعبة معينة، قصة مصورة، لعبة بالمعجون... أو حديث يحاول به أن يأخذ فكرة حرة هائمة عن الموضوع، ولكن بمراقبة دقيقة يحاول من خلالها أن يتتبّع الطريق الذي تسلكه آلية الذكاء. وذلك بأن يفهم كيف يستطيع الطفل أن يصيغ جوابه على تحريض معين بلعبة معينة.
حاول بياجيه أن يفهم كيف يحدث الاختلاط بين الحقيقي والخيالي بذهن الطفل. وذلك باستيعاب الحيز الفاصل بين ما ينتجه الطفل وبين رغبته الخيالية. وكل ما يلعب بهذا الأمر من عوامل أخرى مثل التعب والاهتمام.
ولكي يحصل على صورة حقيقة لواقع الطفل وطريقة تفكيره، ولكونه ينشغل بما حوله، كان يلاحقه بوسطه، بالصف، بالمنزل، بالنزهة... أي بشكل آخر ضمن الظروف التي يتعلم بها. يصل إلى هدفه بطريقة سريرية تعتد على المشاهدة، ولكنها بنفس الوقت تحت قيادته. تتطور حول موضوع معين يختاره هو. سّما طريقته هذه نصف أجمالية، نصف فعلية، نصف ملموسة Semi globale، semi verbale، semi concrète.
وهكذا يمكننا القول أن طريقة بياجيه بالمراقبة إذا هي طريقة سريرية. تسمح له بإعداد طريقته بالتشخيص. وهذا مختلف عن الطرق التي تعتمد على التحليل النفسي. لأننا نتواجد بحالة استكشاف طرق المعرفة. فالطفل يأخذ المعرفة ويعدّها ويبنيها بالحقيقة. بينما يختلف الأمر عندما نقترب منه بواسطة التحليل النفسي، حيث يدرس بحالة فعلية فقط. لا بحالة كاملة.
يعتقد بياجيه، وأكد ذلك آخرون من بعده مثل Werner 1948، Vygotsky 1962 أن جميع الأطفال يتّبعون نفس الخطوات لكي يستكشفوا العالم الخارجي. ويرتكبون نفس الأخطاء، ويصلون لنفس الحلول، مثلا: عندما ننقل محتوى كأس من الماء، من كأس طويل وقليل العرض إلى وعاء واسع وقليل العمق، يعبر الطفل بعمر الأربعة سنوات أن الكأس يحتوي على كمية من الماء أكثر من الوعاء. بينما يفهم طفل السبع سنوات أن الوعائيين يحتويان على نفس الكمية.
يعتقد بياجيه أن آلية تنظيم الذكاء عند الطفل خلال مراحل تطوره هي حالة خاصة من التأقلم العضوي (البيولوجي). بحالة توازن مع الوسط. فأن تغير الوسط يتأقلم الذكاء.
يصف بياجيه الذكاء بعمله، بواسطة تعابير عضوية بيولوجية. بينما يعطيه خواصه وبنائه بتعابير منطقية. ويقول إن آلية الذكاء عند الطفل هي حالة توازن بين الطفل أو الشخص وبين الوسط الذي يعيش به. يتعلم الطفل كيف يتأقلم مع هذا الوسط. وعندما يصبح بالغاً يستطيع التأقلم بسهولة أكثر مع تغيرات هذا الوسط.
يعتقد بياجيه أن هذه الآليات تتنظّم باكرا عند الطفل. إذ يندمج الوسط الذي يعيش به بجهازه العضوي، فيتحول ويتأقلم... وعملية التأقلم هذه هي عملية متطورة، ولذلك يقول إن الطفل يبني نفسه ببناء عالمه. وتسمى هذه الخاصية بمقاربة إدراكية بنائية Approche cognitivo – constructiviste الأمر يتنظّم حول آلية الـ(تحريض-جواب). فجواب جهازه العضوي يستوعب المعطيات ويلائمها لكي يعمل منها شيئا ما.
هذا الاكتساب الإدراكي متدرج، ففي البداية، عندما يولد الطفل لا يملك أي معرفة تسمح له بالتعامل مع العالم الواقعي من حوله. إذ لا يملك الطفل سوى بعض المنعكسات. (منعكس المص، القبض، ومنعكس إغلاق الجفون). ولكنه مزود أيضا بطرق تسمح له ببناء معرفة ومنعكسات أكثر تتطورا تساعده على اكتساب المعرفة.
يستعمل بياجيه عبارتين:
- الاستيعاب. عندما يدمج الرسالة التي تلقاها Assimilation.
- الملائمة. أي أمكانية أعداد الجواب Accommodation
ويتجول بينهما الاستيعاب الذهني بشكل متدرج... فهو يستوعب الأمور و الأشياء المحسوسة، شيئا فشيئاً بفضل منعكساته. ولكنه يطورها ويجعل هذه المنعكسات تتأقلم مع هذه الأمور، فيخلق بذلك المعرفة ويطور أمرا أعقد.
يعتقد بياجيه أن الذكاء هو المقدرة على إدماج التغيرات وإخراجها بشكل ما. وهو لا يبدأ لا مع معرفة الذات ولا مع معرف الأشياء. ولكن بتداخل بينهما. الذكاء هو إذا عبارة عن التواصل بين ما هو عضوي (بيولوجي) وبين ما هو نفساني.
هذا الأمر يقربنا من التطور الجنسي. فالنشاط الجنسي (الوظيفة الجنسية،جنسانية) هو ما يذهب من العضوي (بيولوجي إلى النفساني، إلى الغير واعي).
توجد أربع عناصر أساسية مسؤولة عن العمل الذهني هي:
1- النضج العصبي: لأن تأقلمه ما يستوعبه الطفل يحتاج إلى تطور ونضج الجهاز العصبي.
2- التداخلات مع الوسط الاجتماعي: لأن الاستيعاب يتطلب وسط اجتماعي حول الطفل لكي يلقنه ويعلمه.
3- التوازن: وهو أهم العناصر، فعندما يكتسب الطفل مرحلة معينة فهي التي ستقذف به إلى الطور التالي. فالمراحل ليست مستقلة كل على حدا. بل هي مراحل متوالية بشكل لولبي. وعلى الطفل، بذكائه، أن ينظم بنفسه الانتقال من مرحلة لأخرى.الذكاء يتطور عندما يتعرض الشخص لوضع جديد يختل معه البناء المكتسب. مما يجبره للبحث عن توازن جديد.
4- عناصر المقاومة: الانتقال من مرحلة لأخرى قد لا يكون سهلاً. وعندما يفشل الاستيعاب، فإن التأقلم هو الذي سيعوّض النقص ويستعيد التوازن.
على سبيل المثال: عندما نلعب مع رضيع على الأرض، ويتعرض لسماع أكثر من صوت، عليه أن يعرف أي شيء أحدث ذلك الصوت. سيجرب وسيخطأ. ويجب أن يستوعب عملا معيناً كي يستطيع أعطاء الإجابة الصحيحة. بعض الأطفال سيقاومون هذا الاستيعاب، و لا يجدون الجواب. قد يكون سبب عدم معرفة الجواب هو نقص بالنضج. هنا يمكن أن نساعده إما بمحرضات خارجية لكي يفهم خطأه. أو بإعادة التجربة.
والمراحل بحسب بياجيه كل مرحلة تتصف بطبيعة العملية التي يتقنها الطفل، للتوسع في تفهم هذه المرحلة الحسية الحركية أو مرحلة الذكاء الحسي الحركي حسب تسمية بياجيه... يرجى الاطلاع على كتاب "كيف نفهم الطفل والمراهق" الطبعة الأولى 2007 الصادر عن دار شعاع للنشر والعلوم. (المؤلف).
(3)
بياجيه: ما الذي يجعل الغيوم تتحرك؟.
الطفل : عندما أمشى للأمام فهي تمشى للأمام أيضا معي.
بياجيه : إذا هل تستطيع أن تجعلها تتحرك من مكانها؟.
الطفل : نعم.
بياجيه : جيد إذا، ماذا لو تحركت أنا وبقيت أنت في مكانك هل ستتحرك الغيوم؟.
الطفل : ... بعد تردد... نعم..
بياجيه: لكن في الليل وعندما ينام الجميع هل تستطيع الغيوم أن تتحرك؟.
الطفل : نعم..
بياجيه: لكنك أخبرتني أنها تتحرك فقط عندما يتحرك أحدا ما؟.
الطفل : في الليل وعندما أنام فان القطط والكلاب تستمر في الحركة في الشارع..
(نقلاُ عن بياجيه في حوار مع طفل عمره 5 سنوات)
يطيب للعلماء والباحثين تسمية بياجيه سيد مدرسة النمو والتطور النفسي، فهو استطاع الغوص عميقا في تفهم نفسية الطفل ليرسم الهيكل العام لنظام تفكيره، والمهام العقلية التي تشغله، والتي يستطيع انجازها ونمط الذكاء الديناميكي الذي يتطور مع مسار زمن نموه وتطوره.
دون أدنى شك كان بياجيه إنسانا مبدع، ومتفوق، نلاحظ ذلك منذ طفولته ويُفعه، واستطاع الحصول على الدكتوراه في البيولوجيا وهو في عمر 22 عام، ولد بياجيه في سويسرا العام 1896، لكن التغيير الأعمق الذي حدث في حياة بياجيه كان لاحق، عندما بدا يولى اهتمامه في مسائل النفس البشرية وتطورها، إذ انتقل لزيورخ وعمل في مستشفي زيورخ للأمراض النفسية كأحد مساعدي يوغين بلويلر (بلويلر الذي يعتبر أحد أهم المؤسسين للطب النفسي المعاصر وهو الذي استخدم مصطلح Schizophrenia "الفصام" لأول مره)؛
وهناك قرأ وتعرف على سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ وألفريد ادلر الذين شغلوا الدنيا أيامها في كتاباتهم وحواراتهم الحادة حول علم نفس الأعماق والتحليل النفسي، والتي بدأت تأخذ طابعا اقرب لطقوس الصراعات الايدولوجية والدينية منها للبحث العلمي الدقيق، وهذا ربما كان احد الأسباب التي لم تلتقي مع وعى وخلفية بياجيه المنشغلة بالمبدأ البيولوجي والمبدأ العلمي التجريبي، وبالتالي توجه في دراساته وبقوه لدراسة الذكاء البشرى وتطوره عبر مراحل العمر الزمن على اعتبار أن الذكاء صفة لها أسس بيولوجية من حيث أنها تعكس طاقة الدماغ البشرى الجهاز الفائق القدرة الذي يتبلور ضمن مسار وراثي وبيولوجي واضح، وربما نستطيع أن نجزم أن بياجيه هو أول من وضع مصطلح ومقياس معدل الذكاء.
الدارج استخدامه الآن على نطاق واسع وهناك اختبارات (Intelligence quotient) متعددة لقياس معدل الذكاء طورت من بعد بياجيه من عاملين آخرين في مجال قياس الذكاء. وخلال عمل بياجيه في تقييم نماذجه لاختبارات الذكاء عند الأطفال، وفي البداية كان يقيس الذكاء على أساس قدرة الطفل على إعطاء الإجابة الصحيحة للسؤال المطروح في الاختبار، لكنه في مرحلة ما، بدا بتركيز جهوده للإجابة على سؤال أكثر عمقا وهو ليس إن كان الطفل يعطى إجابة صحيحة أو خاطئة، بل لماذا يعطى هكذا إجابة أصلا، وكيف استطاع الوصول لهذه الإجابة، وكانت هذه اللحظة حاسمه في كل أعمال بياجيه، عندها ومن خلال أطفاله ومتابعتهم لعدة سنوات تحت مراقبة دقيقة واختبارات متكررة، خرج بعدها إلى العالم بالنتائج الثورية المذهلة لأبحاثه.
وعندما توفي بياجيه عام 1980 وكان قد بلغ من العمر 84 عاما، استطاع خلال ما يقارب العقود الستة من تغيير أشياء كثيرة في فهمنا للوعي البشرى.
بياجيه انطلق أساسا من المعنى البيولوجي للوعي، بمعنى أن الوعي هو مجموعة من العمليات، تهدف في النهاية لدمج الفرد في الواقع وبالتالي المحافظة عليه من الفناء، أي إن الوعي ليس عملية مجردة معزولة، بل هي عملية تخدم توجهات المادة الحية للإنسان في الاستمرار والبقاء.
والوعي في تطوره ينشا عن تفاعل خلاق بين الذات أو (المادة الخام) التي يحدث فيها الوعي من جهة، والمواضيع الخارجية من جهة أخرى، وينتج عن هذا التفاعل تغيير في مركبات البناء الداخلي للوعي، ليصبح أكثر تأقلما مع الواقع ومتطلباته، ومع المتطلبات الداخلية للذات أيضا، وعملية تغيير الذات والتفكير في المراحل الأولى من الحياة تتم عبر عملية تطور نفسي (حاول بياجيه وصفها)، لكن في مراحل متقدمة من العمر لا يتوقف التغيير في بنية الذات لكنه يتباطآ، والأهم إن الذات تتحول لأداة تغيير للواقع نفسه، بحيث أنها تغير وتتغير، بل إن الواقع الخارجي يبدأ بالانعكاس داخل الوعي الإنساني، من خلال منظومة داخلية معقدة، تفرض هذه المنظومة الداخلية نفسها على طريقة تلقينا للواقع المحيط، والذي نراه كلما كبرنا بمعايير أخرى.
إنها عملية معقدة جدا إن لم تكن ذروة عمليه الخلق الإلهي المعروفة لدينا ومن العبث التصور انه يمكن إحداثها اصطناعيا (كما قد يحلم البعض من الباحثين في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي). وهو في وصف عملية التفاعل الخلاق هذه، تحدث عن عمليتين والتين اعتبرهما الأساس البيولوجي للتطور المعرفي اسماهما الاستيعاب والتعديل.
فلو افترضنا وجود مثير خارجي (م) واستجابة داخلية (أ) فمفهوم الاستيعاب هو دمج وتكامل المثير الخارجي في مكونات وبنى الاستجابات الداخلية والاستيعاب بهذا المعنى هو تماما كعملية الغذاء للوعي حيث يتم تلقى المثيرات الخارجية وهضمها وتفكيكها لتدخل كعناصر بنيوية في جسم الوعي، لكن الاستيعاب بحد ذاته ولوحده لا يمكن إن يكون العملية الوحيدة في ديناميكيات الوعي، فلا بد أن تدخل حيز التأثير عملية ثانيه اسماها بياجيه (بالتعديل) وهي العملية العكسية للاستيعاب، وتتمثل بان يقوم الوعي بإعادة صياغة صورة الواقع المثير وطريقة فهمه، وفقا للخلفية المعلوماتية المتوفرة؛
وهنا يلعب عامل العمر والتجربة دورا مهم، فالطفل لحظة الولادة وحولها ليس لديه الكثير ليضيفه (كتعديل) على المثيرات التي يتلقاها لانعدام الخلفية المعلوماتية والتجربة لديه إلا بعض الأحاسيس والرغبات الجسمانية الغريزية، وبهذا فان عملية التعديل تنمو في إطار عملية النمو النفسي ذاته، بالرغم من انه بدونها لن يحدث نمو نفسي أصلا (أشياء لا يمكن إيضاحها وترجمتها في إطار مفاهيم الذكاء الاصطناعي الكمبيوتري).
وعملية التعديل في مراحل عمريه متقدمة قد تتحكم في عملية الاستيعاب، فهي تبدأ بلعب دور الفلتر، حول ما الذي يجب استيعابه وكيف (بمعنى دمجه في الذات كما أشرت)، وما الذي يجب إهماله وعدم استيعابه، وفى غيابها (عملية التعديل) أو ضعفها على الأقل في مراحل الطفولة فان معظم المثيرات المتلقاة يتم استيعابها ودمجها بدون فلتره أو تمحيص، مما يجعل الطفولة مرحلة مؤثرة وحساسة لسهولة خدشها كحالة نفسية لا يمكن للطفل خلالها تعديل طبيعة التجربة الإنسانية والمعلوماتية التي يتلقاها.
وفى سعي بياجيه لوصف عملية النمو النفسي والذكاء فقد قام بتقسيمه لعدة مراحل سأحاول إيجازها:
1- المرحلة الحسية الحركيSinsorimotor (مرحلة الذكاء الحسي الحركي) تبدأ من الولادة حتى العامين:
هذه المرحلة من تطور الذكاء اسماها بياجيه بالمرحلة الحسية الحركية، وذلك لانعدام القدرة عند الطفل للتعامل مع الرموز العقلية العليا مثل اللغة، والإشارات، ولغة الجسد، وبالتالي فان النماذج العقلية المتوفرة لديه هي الأحاسيس القادمة من الحواس الخمسة للطفل، ومن حركات جسمه.
وقد قام بياجيه بتقسيم هذه المرحلة لستة مراحل فرعية:
وتكون (Reflexes) في المرحلة الأولى فان العامل المهيمن هو المنعكسات العصبية، في البداية هذه المنعكسات قليلة، ومحدود العدد، وعفوية، وذات منبع ولادي لا إرادي، مثل منعكس القبض (هذا منعكس يكون عند الأطفال حديثي الولادة، ففور احتكاك راحة يد الطفل بأي جسم فإنها تنقبض وتغلق اليد على هذا الجسم لا إراديا). وهناك منعكسات أخرى، مثل الرضاعة والمص، والتي يبدأ بالعمل فورا وتلقائيا أيضا عند احتكاك الشفتين بأي جسم خارجي.
والعملية الاستيعابية لهذه المنعكسات تبدأ بادئ ذي بدء باستخدام هذه المنعكسات من قبل الطفل، وبالتالي الإحساس بوجودها كمنعكس، ومن ثم يبدأ بتعميمه بحيث انه يمارسه وبشكل معمم على كل ما يثير نشوء أو إثارة هكذا منعكس، فمثلا المص يكون معمما لكل ما يمكنه تحفيز الفم أو يقترب منه، أما المرحلة الثالثة فهي بدء الإدراك من خلال تفضيل إثارة على أخرى أو توجيه محدد لأداء المنعكس العصبي، فهو يبدأ بتفضيل ثدي الأم مثلا من بين كل الأشياء الأخرى التي تقترب من فمه وتثيره، لان هذا الثدي يحمل في طياته شيئا يثير رضاه ألا وهو الطعام.
أما في المرحلة الثانية من الطور الحسي الحركي وبعد عدة أسابيع من الولادة، فيصبح عدد ساعات اليقظة عند الطفل أطول من ذي قبل، (ففى بداية الولادة فهو في معظم ساعات النهار والليل يكون نائما وفى سلوكه يكون اقرب للجنين الذي يتحرك في بطن كل عدة ساعات وبعدها يهدا مطولا) وهو الآن يستطيع أن يشكل لأول مرة بعض العادات كنماذج عقلية مثلا البدء بالرضاعة بطريقة معينة ومتكررة بنفس الشكل ولربما بأوقات محددة الخ، ولعل مجمل إدراك الطفل وتفكيره يدور حول هذه العادة والعدد المحدود من المثيرات التي استطاع استيعابها.
وفى المرحلة الثالثة يكون الطفل قادرا على التمييز بين بعض الحركات الأولية ونتائجها وقد يحاول تكرارها مثلا متابعة النظر للعبة متحركة أمامه، أو محاولة تكرار تحريك لعبة لها صوت استطاع أن يربط أن الصوت مرتبط سببيا بتحريك هذه اللعبة، بمعنى أننا أمام محاولة أولية للتأثير على الواقع، وبدايات متواضعة لدخول عملية (التعديل) في مجرى التفكير، خلالها تكون اختبارات الذكاء مكونة من قياسات للسلوكيات الحركية والتوازن فردود الأفعال تأخذ منحى مخطط بياني واضح (schema) تأتى على شكل استيعاب (امتصاص المؤثرات الخارجية ودمجها في سلوكه) والتعديل (بمعنى تعديل السلوك بحيث يكون قادرا على التأقلم مع المثيرات الجديدة). ومع نهاية العام الثاني يجب أن يكون للطفل القدرة على التعامل والتذكر لمعطيات غير ظاهرة لدية وإعادة تكرار سلوك معين حتى في حال الغياب الموضوعي (الإخفاء) للمثير الذي يتسبب في هذا السلوك.
2- مرحلة التفكير ما قبل العملياتى preoperational thought (تدعى أيضا المرحلة ما قبل الإجرائية) ما بين ( 2- 7 سنوات):
هنا نلاحظ أن مظاهر الأداء والتفكير الرمزي تبدأ في الظهور (اللغة والحركات) وتبدأ بالظهور لديه مظاهر أيضا الذاتية من خلال استيعاب أشياء كثيرة في إطار منظور خاص به لكن المسار العام للتفكير ليس مسارا منطقيا من يعتمد على الربط العقلي المعقد بين الظواهر بل هو تفكير سحري أو غيبي (بمعنى تفسير الظواهر المحيطة به بفعل قوى غير مدركة لديه، على كل هذه المرحلة لا تختفي تماما من مكونات الوعي البشرى وتظل هذه الصيغة تلاحقه مادام حيا بالرغم من انحسارها كصيغة مهيمنة، فكلية الظواهر في هذا الكون اعجز من أن يعالجها الوعي البشرى من خلال استخدام الربط المنطقي بين الظواهر)، عدا ذلك يكون مجرى التفكير مرتبطا بالحوار القائم الذي يسمعه أو بالمشهد الذي يراه وتختفي الفكرة المتعلقة بهذا الحوار فور انتهاء هذا الحوار أو المشهد أو المثير الخارجي.
وهو في هذه المرحلة لا يدرك بوضوح أو غير قادر بعد على التمييز بين ما هو حي وغير حي فقد يسقط صفات حية ورغبات على ألعابه، عدا ذلك فان مفهومه للعدالة بسيط جدا في هذه المرحلة فهو يتصور وبعمق أن كل خطأ يجب أن ينتهي بعقوبة ما.
3- مرحلة العمل المحدد concrete operation (وتدعى أيضا بالمرحلة الإجرائية العيانية) ما بين (7- 11 سنة):
وهنا بداية ظهور التفكير العقلاني (المنطقي) من خلال ربط الظواهر بعوامل سببية كعلاقات متتابعة والقدرة على تذكرها ومحاولة ربطها يبعضها البعض وهنا يستطيع أن ينظر للأشياء كحالات جزئية أو كحالات شمولية ويستطيع وضعها في قوالب فكرية (بداية القدرة على البرمجة والتصنيف) ويستطيع إدراك مفاهيم مجردة كالأعداد والأوزان والأطوال الخ وخلال الحوار معه في مسائل معينة قد تبدو لديه أحيانا وجهات نظر خاصة به.
4- مرحلة العمل المؤطر formal operation (وتدعى أيضا المرحلة الإجرائية المنهجية) بعد عمر 11 عام حتى نهاية المراهقة:
ينشا لدى التفكير القدرة على ربط الأشياء ليس فقط بناءا على الظواهر المادية القائمة أمامه بل وبناءا على فرضيات وأحاسيس مسبقة، ويستطيع أن يراقب تفكيره الخاص بل ويتمكن أحيانا من مراقبة وتحليل تفكير الآخرين، وهو في هذه المرحلة تبدأ لدية القدرة على تجاوز التصنيفات السطحية للأشياء بل يحاول أن يضعها ضمن مفاهيم عامة ومنظومات فكرية بمعنى ظهور التفكير الفلسفي المجرد.
للتوسع يرجى الاطلاع على كتابي "كيف نفهم الطفل والمراهق" الطبعة الأولى 2007 الصادر عن دار شعاع للنشر والعلوم. (المؤلف).
٠ نشرت في الشبكة العربية للعلوم النفسية (المصدر: المركز الرقمي للعلوم النفسية www.DCpsy.com).
التعليق: السلام عليكم
مشكر أستاذ
من فضلك أستاذ ممكن تعطيني أسماء المراجع والمصادر عن نظرية بياجيه