الرئيس في كل مكان وفي كل موقع له أهمية من حيث كونه يمثل رأس الهرم الإداري وبوصلة التوجيه المعنوي وطاقة الحشد النفسي، ولكن تختلف الأهمية حسب مدى سلطات الرئيس وصلاحياته، ففي النظم الشمولية الاستبدادية يكون الرئيس هو كل شيء، بينما في النظم الديموقراطية نرى الرئيس يقوم بدور المنسق والميسر لعمل المؤسسات المختلفة في الدولة. وللرئيس (أي رئيس) صورتان، إحداهما الصورة الحقيقية وتلك لا يراها ولا يعرفها إلا المقربون جدا منه (وهي تمثل سيكولوجية السلطة)، والثانية هي الصورة الذهنية (وهي تمثل أيديولوجية السلطة) وهي الصورة التي يصدرها هو ومعاونوه لعموم الناس، وتعريفها العلمي هو "تكوّن صورة لشخص في ذهن إنسان ما، أو فكرته التي كونها عن الشخص، وصورته التي رسمها له في ذهنه، أي انطباعه عنه "وتلك هي التي تخضع لعملية الصناعة التي نقصدها، وقد تخضع لعمليات تمويه وخداع يستمران لسنوات طويلة حتى تأتي اللحظة المناسبة وتتكشف الصورة الحقيقية للرئيس، وربما يؤدي هذا لصدمة الجماهير التي خدعت في الصورة الذهنية التي ابتلعوها بوعي أو بغير وعي فينقضون على الصورة المشوهة للرئيس فيقتلونه (كما فعل الرومان مع شاوشيسكو بعد أن أحبوه لسنوات طويلة) أو يحاكمونه ويسجنونه (كما فعل المصريون مع مبارك) أو يلفظونه خارج البلاد (كما فعل الإيرانيون مع الشاه) أو يجبرونه على الهرب (كما فعل التونسيون مع بن علي) . ومن هنا يتضح أن الصورة الذهنية ليست بالضرورة هي هي الصورة الواقعية بل قد تبعد عنها تماما وربما تكون عكسها.
وصورة الرئيس لا يصنعها فقط هو ومعاونوه، وإنما يصنعها احتياج الشعب في مرحلة بعينها، فقد يضخم الشعب في صورة رئيسه حتى يجعله يستوفي شروط الزعامة التي يريدها (كما فعل المصريون مع عبدالناصر)، ويصل إلى مرتبة القوة والشجاعة التي يصبو إليها الشعب ويحلم بها، ويضفي على رئيسه صفات قد تصل إلى درجة التقديس وأحيانا الألوهية (كما فعل المصريون القدماء مع ملوكهم). إذن هناك حالة من التضافر (وأحيانا التواطؤ) بين احتياجات الرئيس ومعاونيه واحتياجات الشعب لخلق صورة ذهنية يرتاح إليها الطرفان.
وفي الماضي لم يكن الإعلام العربي يأبه باستطلاعات الرأي العام حول صورة الرئيس بل يفرض هو الصورة التي يراها مناسبة وجذابة ومؤثرة، ويلعب خبراء صناعة صورة الرئيس على وتر التكرار والإيحاء والإستهواء والتغرير لعموم الناس مع استغلال النخبة التي تم احتواؤها لمزيد من التغرير والتضليل الإعلامي ليخلقوا صورة بطولية وهمية للرئيس تصل بشعبيته إلى 99،9 % .
وبناءا على هذه المعلومات البسيطة والخطيرة في ذات الوقت تتشكل منظومات عمل لصياغة صورة الرئيس لدى الرأي العام، وأولى خطوات الصياغة هي قراء الواقع الشعبي واحتياجاته في المرحلة التي يتم فيها صناعة صورة الرئيس، بحيث يتم التسويق لصفات في الرئيس يتوق إليها الناس ويقدرونها ويثمنونها دون غيرها. وصانعو صورة الرئيس هم أقرب لمروجي السلع التجارية، إذ يتلمسون احتياجات الناس، بل وأحلامهم وخيالاتهم وتطلعاتهم، فيعرضون عليهم الصورة التي تلبي كل هذه الأشياء أو أغلبها. والناس في حالة الاحتياج والتمني يكونون على استعداد كبير للإيحاء والاستهواء والاستلاب، وقد تضعف لديهم الرؤية النقدية الموضوعية فيسارعون هم ويتطوعون بإضفاء المزيد من صفات القدرة والبطولة والتميز على الرئيس وقد يتزيدون على تلك الصفات التي أضفاها وسوق لها معاونوه والمروجون لصورته الذهنية (كما فعل العراقيون مع صدام حسين) .
وربما تلعب زوجة الرئيس دورا مهما في رسم صورته الذهنية سلبا وإيجابا، وكمثال على ذلك ما فعلته جيهان السادات من أشياء حسبت إيجابا لصالح زوجها وأشياء أخرى حسبت سلبا، ونفس الشيء مع سوزان مبارك والتي يتهمها البعض بأنها هي وابنها جمال كانا السبب في توريط الرئيس في أشياء أساءت بشدة إلى صورته وساعدت في تأجيج المشاعر السلبية ضده، ونفس الشيء حدث مع زوجة زين العابدين بن علي هي وأسرتها. فالزوجة وربما العائلة يشكلان خلفية الصورة القريبة للرئيس خاصة إذا تورطا في إدارة أمور البلاد مع الرئيس بشكل مباشر أو غير مباشر أو تورطا في قضايا فساد أو محاولات توريث الحكم .
وتلي زوجة الرئيبس وأسرته دائرة معاوني الرئيس وحاشيته والمتحدثين باسمه والمعبرون عن أفكاره وآرائه والمروجون لها، فأداؤهم وكفاءتهم وسمعتهم وسيرتهم الذاتية، كل ذلك يؤثر سلبا أو إيجابا على صورة الرئيس. ولا ننسى كاتب خطابات الرئيس والذي يبلور أفكار الرئيس وتوجهاته في لغة بسيطة ومؤثرة وواضحة تصل إلى قلوب الناس فتغير توجهاتهم تبعا لما يريده الرئيس (أو العكس) .
ويختلف نموذج الصورة الذهنية للرئيس في الغرب عن الشرق ففي الغرب يميل الناس لأن يتمتع الرئيس بالشباب والحيوية والرشاقة والوسامة، وأن يكون تلقائيا وصادقا، وأن يتمتع بصفة الرأفة والعطف على الضعفاء، وأن يكون متدينا بشكل بسيط ومعتدل وأن يشعر الناس بكرامتهم الوطنية ويثير حماسهم لامتلاك ناصية القوة والتفوق، أما في الشرق فتسود قيم السلطة الأبوية والاحترام والوقار والحكمة والرزانة والتعقل والعدل والتدين ومداعبة مشاعر الجماهير العرقية والدينية والتغني بالماضي التليد واحترام التراث وتقديسه.
ويبدو أن ثمة تغير قد طرأ على الصورة الذهنية للرئيس ففي الماضي البعيد لم يكن الناس يختارون رئيسهم أو ملكهم أو زعيمهم، بل كانوا يعتبرونه قدرا يهبط عليهم فيسلمون له طوعا أو كرها، وربما يضفون عليه معاني التوقير والقداسة حتى يريحوا أنفسهم من عنت مواجهته أو مخاطرة التمرد عليه حتى ولو كان متجنيا أو معتديا، وهذا ما يعرف في علم النفس بالتوحد مع المعتدي Identification With The Aggressor ، وكانت صورة الحاكم تتأرجح بين السلطة الأبوية والسلطة الإلهية، ويساعد الكهنة ورجال الدين على إضفاء صفات التوقير والإحترام والقداسة على الحاكم حتى ولو كان شريرا أو ماجنا، والناس في هذه الحالة يقبلون بأبدية الحاكم، وبتوريث حكمه لأبنائه بناءا على قاعدة أن الحاكم وأسرته مختلفون عن بقية الشعب ومتميزون عنهم، وأن الحكم لا يكون إلا للمتميزين. وبناءا على هذه الصورة الذهنية للحاكم كان مستبعدا (في الأحوال العادية) محاسبته أو مساءلته فضلا عن الثورة عليه. وإذا كان كهنة مصر القديمة قد أضفوا قداسة إلهية على الحاكم، فإن رجال الدين في الحقبة المسيحية والإسلامية قد عظموا أمر الحاكم وجعلوا وجوده نعمة من الله ووقاية من الفتن حتى ولو كانت به أخطاء أو عيوب، وقد وضعوا شروطا تعجيزية وغير واقعية للخروج عليه مما أدى إلى تثبيت أقدام حكام طغاة وظالمين يناءا على تلك الشروط والضوابط.
وحين نضجت الشعوب في كثير من دول العالم المتقدم تغيرت الصورة الذهنية والصورة الواقعية للحاكم حيث شعر الناس أنهم أحرار وأنهم قادرون على أن يأتوا بالحاكم وقادرون أيضا على إزاحته، وأنه ليس من جنس متميز بل هو واحد منهم يجري عليه ما يجري عليهم من أحكام، واختفت معالم السلطة الإلهية في الحاكم وتبعتها السلطة الأبوية، وأصبح من المعتاد انتقاده ومحاسبته وعقابه إذا استدعى الأمر ذلك.
وإذا أخذنا مصر كنموذج لبلد شرقي وعربي وإسلامي فسنلاحظ أن صورة الحاكم بدأت في التغير منذ عام 1952 مع قيام ثورة يوليو حيث تم إزاحة الحكم الملكي وقيام نظام جمهوري، وجاء الرئيس عبدالناصر من أبناء الشعب كان أبوه يعمل موظفا في البريد، وتبعه السادات أيضا من نفس الطبقة وتلاهم حسني مبارك، ولكن ظلت صورة الزعامة والسلطة الأبوية وأبدية الحكم واستبعاد المحاسبة والعقاب للرئيس أمورا مستقرة. إلى أن جاءت ثورة 25 يناير 2011 فأحدثت تغييرا نوعيا آخر في صورة الحاكم حيث خلعته الجماهير عنوة، وأجبرت السلطة القائمة على إدخاله قفص الاتهام ومحاكمته هو وأسرته، وكان ثمة صراع بين فريق هائل في المجتمع المصري يرى الرئيس مجرد موظف عمومي وخادم للشعب يستحق المحاكمة والعقاب إذا خان الأمانة وفريق آخر أقل عددا وأقل تأثيرا (مجموعة آسفين يا ريس وأبناء مبارك) ما زال يرى في الرئيس أبا وكبيرا وموقرا لا يجب إهانته أو محاكمته أو عقابه، ومن المنطقي أن تكون الغلبة للفريق الأول، بل وبالغ البعض في رفض أي نوع من السلطة وهم من يمثلون مجموعات " الأناركيسم Anarchism " من الشباب الثوري.
ومن هنا اهتزت وتمزقت قداسة الرئيس وأبوية الرئيس، وقد شجع هذا عدد كبير من المصريين (تجاوز 1500 شخص) للترشح لرئاسة الجمهورية وكل منهم يجد في نفسه الكفاءة ليكون رئيسا للجمهورية، واستطاع 13 منهم استيفاء متطلبات الترشح وجرت الجولة الأولى بينهم، ثم كانت الجولة الثانية بين مرشح النظام القديم أحمد شفيق ومرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي ليفوز مرسي في النهاية بمنصب الرئيس .
وأصبح السؤال المهم الآن: ما هي صورة الرئيس التي تتطلبها هذه المرحلة ويحتاجها الشعب المصري؟ ... هل هي صورة الرجل الطيب البسيط المتواضع الذي أتى من أعماق الريف المصري لأب فلاح وأم بسيطة وعانى ما عاناه المصريون حتى أن المعاناة تظهر على وجهه (كما هي على وجوه غالبية المصريين المطحونين) في صورة مزيج من تعبيرات الألم والحزن والمرارة والغضب والجدية والصرامة والطيبة والتسامح في ذات الوقت ؟ ... أم هي صورة الرجل القوي الحازم الصارم الذي يمسك بزمام الأمور ويضبط حالة الانفلات والفوضى السائدة في البلاد ؟ ... أم هي صورة الحاكم المسلم العادل الذي يرتكز في حكمه على المرجعية الدينية الوسطية المعتدلة والتي تضع في الاعتبار ظروف الزمان والمكان وتعقيدات الوضعين الداخلي والخارجي ؟ ... أم هي صورة الحاكم البراجماتي الذي تحركه المصالح والمنافع أكثر مما تحركه المبادئ والقيم ؟ ... أم هي صورة الموظف الكبير الذي يدير البلاد من خلال مؤسسات ويتوقف دوره عند حدود التنسيق بين المؤسسات، وأن يتفادى نموذج السلطة الأبوية أو السلطة الدينية الذي بات مرفوضا خاصة من الأجيال الجديدة ؟ ... أم صورة الزعيم صاحب كاريزما الموقف والذي يعتلي كرسي قيادة الثورة (الذي ظل شاغرا حتى الآن) ويحقق أهدافها ويلهب حماس الجماهير نحو تغيير جذري في نمط الحياة المصرية، ويجمع المشاعر والطاقات في سبيل تحقيق هدف قومي كبير ليصبح بطلا قوميا من خلال تحقيق نجاحات على هذا الطريق؟.
ربما تشغل هذه الأسئلة بال الدكتور مرسي كرئيس جديد لم تتحدد ملامحه في وعي الشعب بعد، خاصة وأنه لا يحمل تاريخا حافلا ببطولات كبيرة (حقيقية أو مدعاة أو مضخمة) كما كان الحال مع عبدالناصر والسادات ومبارك، وإنما جاء من قلب تنظيم ديني سياسي عانى الحظر والإقصاء والتجريم على مدى ثمانين عاما، وهو – أي مرسي – لم يسع للوصول إلى هذا المنصب، ولم يكن مهيئا نفسيا له، وليست لديه كاريزما النجم الجماهيري التي تأسر الناس (وإن كان قد نجح في تحقيق كاريزما الموقف في خطبته الأولى في ميدان التحرير بعد فوزه بالرئاسة)، بل إنه ينتمي إلى جماعة يتعاطف معها فريق من المصريين ويعارضها (وأحيانا يعاديها) فريق من النخبة اليسارية والليبرالية والعلمانية على أساس أيديولوجي وأحيانا على أساس من الغيرة التنافسية.
يضاف إلى ذلك أن مرسي لم يصعد إلى المنصب بجهده الشخصي وقدراته الذاتية وإنما بقوة وتنظيم وحشد الإخوان المسلمين وتأييد قطاع من الشعب كان يرفض شفيق كرمز لعودة النظام القديم الذي قامت الثورة لإزاحته، إذن فصورة مرسي الذهنية ليست ملكا له وحده بل تشارك في صنعها الجماعة التي رفعته إلى كرسي الرئاسة، والجماهير التي اختارته لأنها مقتنعة به وتحبه، والجماهير التي اختارته لمجرد إبعاد شبح النظام البائد، والجماهير التي لم تنتخبه ولكنها سلمت به رئيسا بعد نجاحه، ويضاف إلى كل هؤلاء المجلس العسكري الذي أصبح لاعبا أساسيا في الحياة السياسية حتى الآن نظرا لتقلده زمام السلطة في المرحلة الانتقالية وامتلاكه ناصية القوة العسكرية التي تحافظ على الاستقرار في أوقات الصراع الثوري.
من هنا تتبدى بوضوح أزمة الرئيس مرسي ومساعديه في صناعة صورة الرئيس خاصة ونحن أمام مزاج شعبي ثائر ورافض ومتمرد على كل شئ ولا يعجبه أي شيء، وأمام إعلام غير متعاطف مع مرسي وجماعته وتوجهاته حتى الآن، وأمام مجلس عسكري يحاول وضع الرئيس في صندوق يمسك هو بزمامه ويحدد نطاق حركته من خلال الإعلان الدستوري المكمل (والمكبل)، ومن خلال وضع الرئيس في صورة العاجز عن تحقيق وعوده الانتخابية، ثم إطلاق السهام الإعلامية المسمومة التي ظهرت في مانشيتات الصحف لتخلق صورة ذهنية سلبية للرئيس وكمثال لذلك قرأنا عناوين لبعض هذه الصحف مثل: "الرئيس الفاشي يدخل القصر الرئاسي" ... "الرئيس الخادم" (للأمريكان والصهاينة والمجلس العسكري) .. "من الرئيس البليد إلى الرئيس العميل" .. "مرسي يبيع قناة السويس لقطر" ... "أم أحمد تدخل القصر الرئاسي". تلك القوى والتوجهات تحاول بعنف خلق صورة ذهنية سلبية للرئيس في ظل ظروف ثورية ارتفع معها سقف الحرية بحيث لم تعد هناك حصانة للرئيس ضد النقد والهجوم. بل إن أصحاب هذه الأقلام يعرفون أن الرئيس لا يستطيع أن يلجأ إلى القضاء للدفاع عن نفسه ضد هذه الأوصاف الخارجة ليس فقط عن الضوابط المهنية بل عن الأخلاقيات العامة والآداب لأنهم يعرفون أن دخول الرئيس في صراع قضائي معهم يعلي من شأنهم وينزل بمقام الرئاسة إلى الخصومة الشخصية.
وإذا أردنا أن نعرف الصورة الذهنية التي يحتاجها الناس في الرئيس نعود إلى شعارات مرشحي الرئاسة (أو بعضهم) في الجولة الأولى، فنجد مثلا "واحد مننا" شعار يوحي بالرغبة في رئيس يعيش واقع الناس اليومي بكل حلاوته ومرارته ويتفاعل معهم من موقع التساوي لا التعالي. ونجد أيضا شعار "مصر القوية" يوحي برغبة لدى الناس في أن تخرج مصر من حالة الضعف والهوان والتهميش التي وضعها فيه النظام السابق لتستعيد عافيتها ودورها وتأثيرها وأن يقودها في هذا المسار رئيس قوي في كل صفاته وأفعاله وقراراته. وشعار "الأفعال لا الكلام" يعكس زهق الناس ونفورهم من الوعود والتصريحات الزائفة والكلام المعسول والتنظيرات الفلسفية الفارغة من المضمون، ورغبتهم في رئيس عملي يتحرك على أرض الواقع ويحدث تغييرا فعليا في حياتهم. وشعار "أد التحدي" وهو يعكس إدراكا عميقا بمدى الصعوبات التي ستواجه الرئيس الجديد، وتستنهض ملكات وقدرات هائلة لديه لمواجهة هذه الصعوبات، وهذا يتطلب شخصا يتمتع بخبرة وحكمة ورؤية سياسية عميقة وقدرة على الحركة الفاعلة والتأثير الكبير. وشعار " نهضة مصرية بمرجعية إسلامية"، والذي يفيد برغبة المصريين في النهضة ليعوضوا ما فاتهم في السنين العجاف الماضية على أن تكون معالم تلك النهضة متماشية مع المزاج المتدين لدى غالبية المصريين، ومن هنا يحتاج هذا الشعار لرئيس يؤمن بضرورة النهضة المصرية وبأهمية النموذج الإسلامي لهذه النهضة. أما شعار "قوتنا في وحدتنا" فيشير إلى الشعور العميق بحالة التشرذم والتشظي في المجتمع المصري، وبالتالي احتياج المصريين لرئيس قادر على لم الشمل وتجميع قوى الناس حول أهداف وطنية متفق عليها. وشعار "سنحيا كراما" يستقرئ شعورا داخليا عميقا لدى المصريين بالمهانة والظلم والقهر من حكام سابقين سحقوا إرادة هذا الشعب وداسوا كرامته وسلموا قراره وإرادته لأعدائه، لذلك تصبح صورة الرئيس الجديد متسقة مع هذا المطلب وهو استعادة كرامة المصريين وإشعارهم بقيمتهم.
كانت هذه دلالات الشعارات للحملات الإنتخابية الرئيسية ، ننتقل منها لنستقرئ بعض الأرقام والدلالات في تقرير مبدئي لدراسة هامة أشرف عليها الدكتور سعيد المصري (12 يونيو 2012) بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء (ستصدر قريبا) لنعرف منها بإيجاز ملامح صورة الرئيس كما عبر عنها المبحوثون : 74% من المصريين يريدون الرئيس مصريا خالصا ويرفضون ذوي الجنسية المزدوجة، و61% يريدونه مسلما، وهذا يعكس فكرة ارتباط شرعية الرئيس بجنسيته وديانته لدى غالبية المصريين. كما اتضح رغبة غالبية المصريين (76%) في أن يكون الرئيس مستقلا عن أي انتماءات حزبية أو دينية بحيث يعبر عن كل المصريين وليس عن طائفة منهم، وهذا يؤكد معنى الاستقلالية السياسية وكونها ضمانا للوطنية. وتبين أن 57 % يفضلون رئيسا مدنيا في مقابل 24% يفضلون رئيسا من خلفية عسكرية. وكانت أهم ثلاث سمات يفضلها المصريون في الرئيس هي: أولا الخلفية العلمية والثقافية (نسبة تأييدها 61%)، ثانيا سمعة ونزاهة الشخص المرشح للرئاسة (بنسبة بلغت 54%)، ثالثا الخبرة السابقة في العمل السياسي وإدارة شئون الحكم (بنسبة 41%). وهذا يعني أن الجدارة في نظر غالبية المصريين مرتبطة بالجنسية والديانة، والخلفية العلمية والثقافية والسمعة والنزاهة والخبرة السابقة في العمل السياسي وإدارة شئون الحكم وكونه مدنيا وليس عسكريا وكونه مستقلا وليس مستقطبا دينيا أو سياسيا. ويرفض 72% من العينة أن تكون امرأة رئيسا للجمهورية، كما يريد الغالبية أن لا يقل عمر الرئيس عن 40 عاما (وهذا ما يفسر قلة عدد الأصوات التي حصل عليها المرشح الشاب خالد على) وأن لا يزيد عن 60 عاما (نظرا لكثرة العواجيز بين المرشحين للرئاسة). وهذا يعني بقاء شيء من الصورة الأبوية للرئيس، ولكن هذا الأمر تم تقييده بوجود 86% من العينة يرفضون بقاء الرئيس مدى الحياة. وعبر 63% من العينة عن رغبتهم في أن يكون الرئيس مؤيدا للثورة ومؤمنا بأهدافها ويسعى لتحقيقها. ومن المثير للانتباه أن 95% يرون ضرورة أن يكون رئيس الجمهورية القادم حازما وصارما في قراراته. ومسألة الحزم والقوة والصرامة ربما استشعر ضرورتها بعض المرشحين فكانوا يحاولون خلال المعركة الانتخابية أن يظهروا بشكل فيه قوة وسيطرة وحزم وجدية وصرامة، وربما بالغ البعض في ذلك حتى ظهر له وجه آخر يعكس الشدة وربما القسوة في التعامل مع حالة الانفلات الشعبي والأمني ظنا منه أن الناس قد عانت من الانفلات والفوضى وأنهم يتوقون إلى رئيس قوي شديد المراس يمسك الأمور بيد من حديد.
وهناك أساليب متنوعة يتبعها المتخصصون في صناعة صورة الرئيس منها صورته الفوتوغرافية المعروضة على الناس، وشعار حملته، والكتب والمنشورات التي تتحدث عن تاريخه، والبرامج الحوارية التي تبرز معالم تميزه وتوجهاته، ولقطات من حياته الشخصية تعكس قيما يثمنها الشعب كالشجاعة والقوة والتضحية والمثابرة والإخلاص الوطني والثبات والصدق وغيرها، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة للترويج للصورة المرجوة، واستغلال المواقف والأحداث لإبراز الرئيس في صورة البطل الذي يفهم الأحداث ويؤثر فيها ويمتلك زمام المبادرة، وكيفية مواجهته للأزمات، وإبراز طريقته في التعامل مع الضغوط الدولية بحيث يبدو مدافعا عن الكرامة الوطنية، وتهيئة مواقف إنسانية يبدو فيها متعاطفا مع الضعفاء في المجتمع ، ...... الخ .
فإذا جئنا لواقع الرئيس محمد مرسي فسنجد أنه مطالب بصنع صورة ذهنية مبنية على مواقف حديثة حيث لا يعكس ماضيه هذه الصورة (باستثناء كونه أحد قيادات الإخوان الذين عارضوا النظام السابق وتحملوا الإقصاء والتجريم والاعتقال والحظر لسنوات طويلة)، وهذا ما حدث مع عبدالناصر من قبل إذ كان عمله قبل الثورة سريا في تنظيم الضباط الأحرار ولم يكن معروفا شعبيا، وكان عليه أن يتخذ مواقف وقرارت ليصنع صورته التي ترسخت في وجدان المصريين والعرب والعالم بحلوها ومرها حتى الآن. والصورة الذهنية تحدث بالتراكم والتآذر والتأكيد، وهي نتاج لتفاعل عوامل إيجابية يبثها الرئيس ومعاونوه ومحبوه ومؤيدوه وعوامل سلبية يبثها معارضوه وكارهوه، وبين ذلك جوانب شخصية الرئيس وسماته والتي يتم تأكيدها وإبرازها والتركيز عليها والترويج لها من خلال وسائل الإعلام المختلفة وبواسطة متخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع السياسي وعلوم الاتصال وفنون العلاقات العامة كي ترسخ الصورة المرجوة للرئيس .
اقرأ أيضا:
مازوخية المصريين: ثورة بالقانون وها.. ذي آخرتها! / ثورة... ثورة.... حتى النصر / صورة ثورة...! / إسرائيل ومرسي / خبر مبارك المكذوب