عبارة الانتهاك النفسي هي ترجمة لمصطلح طبنفسي بمعنى Mental Abuse وذلك يحدث حين يكون شخص تحت سلطة ما فتستغل هذه السلطة ظروف الشخص المادية أو المعنوية فتنتهك حقوقه الإنسانية كالحرية والكرامة، أو تعطيه رسالة مزدوجة أو ملتبسة تضعه في حيرة واضطراب وقلق، وهذا ما حدث لكثير من العاملين في مبنى الإذاعة والتليفزيون إبان ثورة 25 يناير وما بعدها، وليسمح لي القارئ أن أستشهد بمواقف شخصية حية رأيت فيها بعيني هذه الحالة من الانتهاك النفسي للعاملين في هذا المبنى المهم (أو المفروض أن يكون مهما).
أتردد على مبنى الإذاعة والتليفزيون منذ سنوات كضيف للحديث في بعض الموضوعات النفسية والاجتماعية بحكم تخصصي، وكان الأمر قبل الثورة يبدو متسقا فالناس يعملون تحت سيطرة إدارة مؤيدة تماما لتوجهات النظام، والرسالة الإعلامية واضحة ومحددة وهي تحسين صورة نظام مبارك من خلال خطاب مدح وتأييد (مباشر أو غير مباشر) مع بعض الرتوش الديموقراطية الخفيفية كديكور مناسب.
وحين قامت الثورة حدثت الأزمة التي أدت في البداية إلى حالة من الاصطفاف الاضطراري للجهاز الإعلامي ضد توجهات الثورة في محاولة لإجهاضها، إذ لم يكونوا يتصورون نجاحها، ووجد العاملون في الجهاز الإعلامي الحكومي أنفسهم يغردون خارج السرب، فالزخم الشعبي في مجمله (أو على الأقل في أغلبه) مؤيد للثورة وفرح بها وساخط على النظام السابق، ولذلك بدا خطاب التليفزيون المصري الرسمي نشازا مما جعل الثوار يتوجهون نحو ماسبيرو كبؤرة وبوق للنظام السابق الذي يجب إسقاطه، وقد استدعى ذلك وجود استحكامات عسكرية (مازالت قائمة حتى الآن) لحماية المبنى من غضبة الشعب المصري، وحدث أمام المبنى واحدة من أشهر أحداث الثورة مات فيها الكثيرون ويرمز لها بأحداث ماسبيرو .
وأذكر يوم الثلاثاء 8 فبراير (أي قبل التنحي بثلاث أيام) تلقيت دعوة من الفضائية المصرية للتعليق على الأحداث في أحد البرامج (على ما أذكر كان برنامج صباح الخير يا مصر)، وكنت وقتها في ميدان التحرير فاشترطت عليهم أن أقول ما أريد وما يمليه علي ضميري فوافقوا وذهبت وبدأ الحوار فلاحظت أن أحد المذيعين تظهر على ملامحه علامات التأييد للثورة وللثوار، أما الآخر فكان مترددا بين القبول لكلامي عن الثورة وبين موقف الجهاز الإعلامي الرسمي المتحفظ تجاه كل ذلك والرافض للتوجه الثوري.
وفي أثناء المرحلة الانتقالية دعيت للحديث في برنامج إذاعي تقدمه إحدى الإذاعيات القدامى (وهي سيدة فاضلة ومهنية محترمة) فلاحظت صراعا شديدا بداخلها أثناء الحوار، إذ هي تريد أن تجاري التغيير الثوري الجديد بشكل أو بآخر، ولكن بداخلها رعب من الإدارة التي تعمل بها أن تعاقبها على ما يدور في الحوار، فكانت تحاول كبح جماح الحوار وإبقاءه في المناطق الرمادية الآمنة وأن تمسك العصا من المنتصف، فأشفقت عليها وربما عذرتها إذ أحسست أنها تتعامل مع الأمر من واقع كونها موظفة تحافظ على "أكل عيشها" في هذه المرحلة من العمر.
وفي زيارة أخرى لمبنى التليفزيون شاهدت بنفسي كيف كان المخرج يحاول أن يوجه الكاميرات في ميدان العباسية بحيث تظهر الأعداد غفيرة بينما يوجه الكاميرات في ميدان التحرير بحيث يبدو العدد قليلا للغاية، ولسوء حظه كنت أنا قادما من التحرير ورأيت بنفسي الأعداد الهائلة هناك. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل لقد ألغت إدارة التليفزيون البرامج المعتادة للتركيز على جمهور العباسية المناهض للثورة.
بعد ذلك دعيت لبرنامج "لقاء خاص" وكان يقدمه مذيع مغمور فوجئت به قبل بداية البرنامج يقول لي: "أنا سوف أقول كذا وكذا في المقدمة فترد أنت عليّ وتقول كذا وكذا " فاستغربت من هذا الموقف الساذج وتجاهلت مقترحاته الخائبة وقلت ما يمليه عليّ ضميري في المساحة التي أتيحت لي، حيث أنه كان حريصا على أن يتكلم هو معظم الوقت، وأخذ الجزء الأخير من اللقاء ليلقي أبياتا من الشعر يدّعي أنه مؤلفها وهو في حالة نشوى طفلية عجيبة. وخرجت بعد هذا اللقاء الخاص وقد اتخذت قرارا بمقاطعة مبنى الإذاعة والتليفزيون حتى يتحرر من القيود التي ما زالت تفرض عليه حتى بعد قيام الثورة، إذ ظلت قيادة الإعلام تابعة للنظام القديم أو موالية له وللمجلس العسكري سواء كان أسامه هيكل أو أحمد أنيس. ولم أكن وحدي الذي قاطع مبنى ماسبيرو بل كثير ممن أعرفهم فعلوا نفس الشيء وكان معدو البرامج يجدون صعوبة في استضافة متحدثين، وكان بعضهم يحاول إقناع الضيف أن الوضع قد تغير وأن الخطاب الإعلامي أصبح أكثر موضوعية وأنهم مثل غالبية المصريين مؤيدون للثورة وأنهم ليسوا فلولا، وهذا كان يعكس إحساسا بالوصمة يشعر به العاملون في ماسبيرو.
وبعد شهور من المقاطعة دعيت لبرنامج اجتماعي يوم الاثنين 13/8/2012م وقبلت الدعوة على أمل أن يكون الأمر قد تغير مع القيادة الجديدة لوزارة الإعلام، وحين دخلت الأستوديو وجدت إعلانا موضوعا بحيث يظهر في الكادر خلف الضيف طوال وقت البرنامج ويظهر الضيف وكأنه مروجا للإعلان، فرفضت المشاركة في البرنامج بهذا الشكل المهين والمخالف لآداب مهنة الطب التي أنتمي إليها، وحاول المعدون والمخرجة إقناعي بالمشاركة (وعلمت أنهم هم أيضا رافضين لفكرة الإعلان بهذه الطريقة ولكن ليس بيدهم حيلة) فرفضت وتركت المكان وبينما أنا في الطريق لأغادر المبنى قابلتني سيدة (ربما هي المشرفة على البرنامج) وقالت لي بأن الموظفين لم يكونوا يحصلون على مرتباتهم ولذلك هم مضطرون لوضع هذا الإعلان الملتبس في هذا المكان "غصب عنهم" فهم ليسوا راضين بذلك ويبدو أنهم واجهوا مصاعب مع بعض الضيوف الذين يحترمون أنفسهم ويرفضون استغلالهم للترويج لإعلانات حولها علامات استفهام كثيرة، فنظرت إليها بشفقة ممزوجة بغضب وغادرت المبنى.
هكذا يعيش الكثيرون من العاملين في ماسبيروا في صراع بين توجهات المجتمع المصري من ناحية وتوجهات الإدارة من ناحية أخرى، وفي صراع بين ضمائرهم من ناحية وبين ضغوط لقمة العيش من ناحية أخرى، وقد فر عدد من الشرفاء من هذا المأزق خاصة أولئك الذين يملكون موهبة تغري القنوات الخاصة بجذبهم إليها والبعض ترك العمل وجلس في بيته حفاظا على حريته وكرامته واحترامه لنفسه وبقي الكثيرون يرزحون تحت ظروف تجعلهم في حالة صراع ممزق ومجهد خاصة مع تقلبات وتناقضات الإدارة والأحداث. والنتيجة هي ضعف الأداء والانتماء وغياب الإبداع وحالة من السخط وعدم الرضا وانعدام الكفاءة تظللها فوضى في المكان وصخب في أرجائه مع وجود "كراكيب" خشبية وبشرية تملأ الردهات والأستوديوهات ويظهر كل ذلك للمشاهد على الشاشة.
هذه رسالة موجهة إلى الأخ العزيز وزير الإعلام الجديد الأستاذ صلاح عبد المقصود عسى أن يستطيع معالجة الأمر من خلال عمليات تأهيل إداري ونفسي واجتماعي لضحايا الانتهاك النفسي بماسبيرو كواجب مهني وإنساني ووطني.
واقرأ أيضًا:
عائدا من ماسبيرو ذاهبا للجهاز/ عائدا من ماسبيرو ذاهبا للجهاز مشاركة/ أحداث ماسبيرو: تداعيات تغييب القانوني وتغليب السياسي