اكتمل الاصطفاف على الجانبين وجرت مراسيم استعراض القوة بالحشود المليونية في الميادين والتوقيعات المليونية على استمارات تمرد وتجرد, والشحن الفكري والعقائدي والجبهوي والطائفي مستمر ومتصاعد انتظارا للوصول إلى لحظة المواجهة يوم 30 يونيو 2013م. وبينما يعد الطرفان للقاء الحسم يعيش الملايين من أبناء الشعب المصري حالة من الترقب والقلق والخوف بدرجات متفاوتة ولكنها تميل لأن تكون شديدة, فهل يا ترى لديهم الحق في ذلك أم أنهم يبالغون في قلقهم وخوفهم؟
نعم هناك مايدعو للخوف والقلق, وهما شعوران ينتابان الإنسان في مثل هذه الظروف وعلى الرغم من تشابههما لفظيا عند بعض الناس إلا أنهما مختلفان واقعيا واصطلاحيا, فالخوف ينشأ لدى الإنسان حين يواجه مخاطر حقيقية تهدد سلامته وأمنه وحياته, والقلق ينشأ حين تدور في عقله هواجس لاحتمالات خطر غير موجودة فعلا في الوقت الحالي ولكن ثمة دلائل وقرائن (حقيقية أو متوهمة) تشير إلى احتمالات حدوث الخطر.
وكيف لا يشعر الناس بالخطر وهم يرون بلدهم تقف على أعتاب حرب أهلية....... نعم حرب أهلية على الرغم من كون الشعب المصري بطبيعته القديمة يرفض العنف ويميل إلى الوداعة والاستقرار والبحث عن لقمة عيشه, إلا أنه قد يجد نفسه مجرورا إلى صراع عنيف بين طوائف وصل التوتر بينها إلى درجة الغليان في الوقت الحالي وأصبحت مصر طبقا للتصنيفات العلمية في المرحلة الثالثة على متصل القابلية للحرب الأهلية ولم يبق لدخولها إلى هذه الحرب إلا أحد احتمالين:
الأول: أن يموت عدد يتجاوز الألف من أحد الطرفين أو كليهما,
الثاني: أن تحدث اغتيالات لبعض الرموز والقيادات من أحد الطرفين أو كليهما.
إذن فالانتظار حتى نتورط في هذه الإحتمالات المرعبة هو ضرب من الجنون أو الانتحار خاصة في وجود حالة من الإنفلات الأمني والفوضى الأخلاقية والأزمات الخانقة في السولار والبنزين والكهرباء والتراجع المخيف في السياحة والاقثتصاد, كل هذا يجعل أصوات الطمأنة والتسكين غير منطقية وغير مسموعة وغير مؤثرة, كما أن هناك لحظات ومراحل في الصراع حين نصل إليها تصبح العودة غير ممكنة.
يضاف إلى ذلك أن طرفي الصراع يلوحان بالعنف, أو احتماليات العنف من خلال رسائل كانت شديدة الوضوح, فمثلا فريق تيار الإسلام السياسي يدفع ببعض رموز الجماعات الإسلامية لتتحدث على المنصة ضمن فعاليات الحشود المليونية, تلك الرموز التي أدينت وحوكمت وسجنت بسبب ممارستها للعنف المسلح والقتل, ولم تكتف هذه الرموز بالحديث السياسي أو الديني ولكنها أصدرت تصريحات تهدد فعلا باستخدام العنف ضد من تعتبرهم أعداء للمشروع الإسلامي من العلمانيين, وعلى الطرف الآخر (التيار المدني المكون من الليبراليين والعلمانيين والإشتراكيين والثوريين والناصريين والقوميين وغيرهم) نجد ظهور بعض مجموعات البلاك بلوك في بعض التظاهرات مع استخدام الخرطوش والشماريخ والحجارة وكرات اللهب.
ومع توظيف الدين في الصراع من جانب الحركات والجماعات الإسلامية تشتد سخونة المشهد حيث نتوقع شحن أعداد من الشباب بشحنات دينية قتالية وجهادية تجعلهم يندفعون للدفاع عما يعتبرونه المشروع الإسلامي أو حتى الإسلام ذاته فيهبونه أرواحهم راضين سعداء ويعتبرون أنفسهم مشاريع شهداء في صراع مع أعداء الله والدين وليس مع فصيل سياسي أو مجتمعي أو شريك في الوطن (بصرف النظر عن انتماءاته الفكرية أو العقدية), وهذا التديين للصراع (أي إدخال الدين كعنص أساس فيه) يجعل الصراع في اشد حالاته سخونة وخطورة إذ يجعله حربا مقدسة لإبادة الآخر.
إذن فمجمل المشهد الآن أننا أمام حالة من الاستنفار والانشطار أصابت المجتمع المصري وأحالته إلى فريقين متصارعين متباعدين فقدا الثقة تماما في بعضهما وفشلت كل محاولات الحوار بينهما ولم يبق إلا اتهامات التخوين والعمالة والتخريب, ولا يوجد أمل في أي من الفريقين أن يتنازل عن موقفه ويقترب من الآخر أو يتفاهم معه, بل إن كلا الطرفين لديه إحساس بالجدارة والقوة والشعبية التي تمكنه من الانتصار على الفريق الآخر ويسحقه ويكنسه من المشهد, وهذا بالطبع إحساس زائف لأنه في الصراعات الأهلية لا يوجد منتصر ومهزوم, ومن السذاجة أن يتصور أحد أن فريقه سينتصر بينما يندحر الفريق الآخر ويذهب إلى بيته مكسورا ذليلا ويكف عن الصراع, بل إن الأخطر أن كلا من الفريقين سيجد من يمده بالعون كي يستديم الصراع وتنهك مصر لحساب قوى دولية لها مصالح في ذلك.
وقد يحاول البعض بحسن نية أن يقيس المشهد هذه المرة على مشهد الجولة الأولى للثورة حين ثار الشعب بكل طوائفه وتياراته على مبارك وعائلته وحزبه ونجح في إسقاطهم في 18 يوم, والقياس هنا غير دقيق إذ أننا هذه المرة أمام صراع بين تيارين لكل منهما رصيد شعبي ومؤيدين بالملايين, فالأمر هنا ليس محصورا في أشخاص أو حتى جماعات, بل في كتل شعبية هائلة تدافع كل منها عن مشروعها ورؤيتها, أي أننا أمام صراع هوية, وقد يكون هذا أمرا طبيعيا في حالة وجود التنافس والتصارع على أرضية سياسية سلمية من خلال انتخابات وأحزاب, ولكنه يصبح كارثيا في حالة غياب آليات ومسارات للتواصل والتفاهم وفي حالة اللجوء للقوة والعنف.
والخوف والقلق في مثل هذه الظروف ليسا مشاعر سلبية عدمية ولكن ربما يكون لهما وظيفة وقائية, إذ تحفز هذه المشاعر جموع الناس – المتصارعين منهم مغير المتصارعين- إلى تحكيم العقل والعودة إلى الرشد.
وإذا كان قد بقي صوت للعقل قبل اشتعال الشرارة الجهنمية, فإنه يبدو -في رأيي المتواضع- متمثلا في ثلاث مؤسسات وطنية مؤثرة ومتوازنة ومعتدلة ومؤثرة وغير مستقطبة وهي: الأزهر والكنيسة والجيش (ويمكن أن يضموا إليهم من يرون من الشخصيات القيادية المصرية التي تتسم بالعقل والحكمة والاعتدال), على أن يجتمع ممثلوا تلك المؤسسات الهامة وينظروا إلى المشهد الصراعي القائم ويحددوا معالمه ومصادر واحتمالات الخطورة فيه, ثم يجمعون قادة الطرفين في مكان محايد ويناقشونهم في كل شيء, ثم يضعون مقترحات (بناءا على الرؤية والمناقشات) تكون ملزمة لطرفي الصراع, على أن يضمن الجيش هذا الإلزام تحت مظلة السلطة الشرعية في حالة التزامها الحياد بين طرفي الصراع كسلطة تنتمي لكل المصريين على اختلاف توجهاتهم.
وإذا لم تحدث خطوة إيجابية في الأيام القليلة القادمة فلا يحق لنا أن نندم على ضياع بلدنا وعلى ضياع أمننا ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا, ولا نستبعد أي احتمالات كالتي رأيناها بأعيننا في دول الجوار حين اشتعلت الحروب الأهلية فيها وتحولت الأواصر إلى عداوات وتحول المواطنون إلى لاجئين يتسولون العيش هنا وهناك. ألا هل بلغت اللهم فاشهد, وحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.
واقرأ أيضاً:
فرط الطمأنينة في خطاب الرئيس/ من يوقف هذا السلوك الانتحاري الإخواني ؟/ الهجوم على المقرات شرارة الحرب الأهلية/ الاغتيال المعنوي / سيناريوهات 30 يونيو