السيناريو العنيف للانقلاب: تحولات الدولة والمجتمع بعد الربيع العربي
قام الانقلاب العسكري بتقويض كل العملية السياسية الديمقراطية، التي انجزت بعد الثورة، وبذلك وضع مصر أمام مفترق طرق، ولحظة تاريخية فاصلة، وهي لحظة فاصلة في المعركة بين الثورة والثورة المضادة، أو بين الثورة والنظام السابق. وقد تصرف القائد العسكري للانقلاب، بالصورة التي تؤكد لكل من يريد أن يعرف، أن الانقلاب العسكري أعاد بالفعل النظام السابق للحكم، ومنح الدولة العميقة الفرصة كاملة، للسيطرة على الدولة والمجتمع معا، ومنح أيضا شبكات الفساد، فرصة لاستعادة سيطرتها على مقدرات البلاد.
ومع تقويض الديمقراطية بهذه الصورة، أصبحت مصر فعليا في معركة فاصلة لاستعادة الديمقراطية، وليس فقط استعادة الرئيس المنتخب، فالهدف الأكبر للانقلاب العسكري، هو تقويض الديمقراطية، وعسكرة النظام السياسي.
وجاءت مذبحة الفجر، أمام مبنى نادي الحرس الجمهوري، لتكشف عن مسارات الانقلاب العسكري، وتكشف أبعادا أخرى لمخطط الانقلاب العسكري؛ أي جاءت مذبحة الفجر، والتي تمثل حدثا تاريخيا فاصلا، لتتضح الصورة الكاملة للانقلاب العسكري، الذي حاول أن يزين نفسه بشعارات ثورية زائفة.
وأصبحت مصر بعد مذبحة الفجر، أمام استحقاق تاريخي مهم، فإما يخضع المجتمع مرة أخرى للحكم العسكري، أو تستعاد الثورة مرة أخرى، ويكتمل تحرر المجتمع. ولأن المجتمع كان في حالة ضعف بعد الثورة، ولم يتبع الثورة صحوة مجتمعية أو إفاقة مجتمعية، لذا لم يكتمل تحرر المجتمع، وسقط قطاع من المجتمع في غفلة، جعلت البعض يشارك في إعادة الاستبداد مرة أخرى، دون أن يدرك.
ولأن الثورات، ليست فقط حالة احتجاج، بل هي إرادة شعبية واعية ويقظة، لذا فإن عدم نضوج الإرادة الشعبية، وعدم استكمال الإفاقة المجتمعية، وعدم نضوج الوعي العام، كلها أثرت على قدرة المجتمع، على مواجهة الثورة المضادة؛ حتى شارك البعض عن غير وعي في إنجاح الثورة المضادة مرحليا؛ وإن كان البعض الآخر، شارك عن وعي في إعادة الاستبداد والنظام السابق.
تقويض الديمقراطية
إذا ظن البعض أن الانقلاب العسكري، يهدف إلى إعادة بناء مرحلة التحول الديمقراطي من جديد، فهو مخطئ. وإذا تصور البعض، أن الانقلاب العسكري، يهدف إلى تصحيح مسار المرحلة الانتقالية، بأي مبرر من المبررات، فهو مخطئ أيضا. فهدف الانقلاب العسكري، هو تقويض الديمقراطية الوليدة بعد الثورة.
وإذا كان الانقلاب العسكري، قد أفشل كل ما أنتجه صندوق الاقتراع والانتخاب، وكل ما نتج عن الانتخابات والاستفتاءات، فهذا هدف مركزي ومحوري للانقلاب. فرسالة الانقلاب الأساسية، أو هدفه المركزي، هو نشر حالة من الاحباط في المجتمع، تجعل عامة الناس تعتقد أن الديمقراطية ليست حلا، وإن خياراتها ليس لها أي قيمة، وأن السلطة لا تأتي من صندوق الاقتراع.
فأهم ما نتج عن الثورة، هو الاقبال الجماهيري الواسع على المشاركة السياسية، وهذه المشاركة الجماهيرية، جعلت القرار في يد الشعب، والانقلاب العسكري، يهدف أساسا إلى جعل القرار بيد الجيش، لا الشعب. لذا أصبح من المهم، إحباط حالة الحماس للمشاركة الانتخابية، وإقناع عامة الناس، بأنه ليس من حقهم أن يختاروا ما شاءوا، بل عليهم أن يختاروا مما يتاح لهم، والفرق كبير، بين أن تكون الإرادة الشعبية، هي صاحبة الاختيار الحر بالكامل، وبين أن تكون الإرادة الشعبية محصورة في الخيارات التي تتاح لها من قبل سلطة عسكرية نافذة.
فإذا كانت الثورة الشعبية، أنتجت ديمقراطية شعبية حرة، فإن الانقلاب العسكري، يهدف لتحويل الديمقراطية، إلى ديمقراطية نخبوية، يسيطر عليها تحالف حاكم، ويتاح لعامة الناس الاختيار، بين البدائل التي يسمح بها التحالف الحاكم. لذا، فإن الانقلاب العسكري، يبني واقعيا، طبقة حاكمة، تستأثر بالحكم، وتستند على نخبة عسكرية مسيطرة، ونخبة مدنية مسيطرة على أجهزة الدولة، خاصة القضاء والشرطة، ونخبة علمانية مسيطرة على الفضاء السياسي، ونخبة إعلامية مسيطرة على وسائل الإعلام، ونخبة من رجال الأعمال، مسيطرة على الاقتصاد. ويعتمد هذا التحالف أساسا، على دعم إقليمي، خاصة السعودي، ودعم غربي، خاصة الأمريكي.
وطبقة الحكم، التي سيطرت على البلاد منذ اللحظة الأولى للانقلاب العسكري، هي نفسها طبقة الحكم في زمن النظام السابق، وهي التي يراد لها السيطرة على الحكم في المستقبل. فتصبح الديمقراطية، شكلية ومقيدة، وبلا معنى أو مضمون، لأنها ديمقراطية تستهدف إعطاء غطاء شرعي شكلي، لطبقة حاكمة نافذة، تحكم بسند عسكري مباشر، ولا يجوز لغيرها أن يحكم، وكل من يأتي بالانتخابات غيرها، سوف يسقطه الحاكم العسكري الفعلي للبلاد.
وبهذا يتم تقويض عملية التحول الديمقراطي، بعد أن حققت نجاحا في المرحلة الأولى بعد الثورة، وهو النجاح الذي أدى إلى حدوث الانقلاب العسكري، بعد أن تأكد أن خيارات عامة الناس، ليست في مصلحة طبقة الحكم المنتمية للنظام السابق، ولا شبكة المحسوبية التي بناها النظام السابق، وأتضح أيضا أن خيارات عامة الناس، ليست في مصلحة القوى الإقليمية والدولية، التي تحالفت مع النظام السابق.
وهذا المخطط، يهدف لإقناع عامة الناس، بأن هناك واقعا عليهم قبوله، ولا يمكنهم تغييره، وعليهم القبول بما هو متاح. مما يجعل عامة الناس، تفقد الأمل في التحول الديمقراطية، وتقتنع أن مشاركتها السياسية، لا تغير الواقع، وتعتقد في النهاية، أن مصر محكومة بقوى خارجية، وأن عامة الناس، لا يمكن لهم أن يغيروا الواقع.
ويتم مساومة عامة الناس، بين الحرية أو الحياة، فيتم ضخ المال العربي الخليجي، من دول وقفت خلف الانقلاب العسكري، حتى يتم مساومة الناس، بين أن يختاروا بحرية، ويتم حصار مصر اقتصاديا، كما تم في السنة الأولى للرئيس محمد مرسي، أو يقبلوا بالخيارات التي تفرض عليهم، مقابل عدم محاصرة مصر اقتصاديا. وكأن عامة الناس، يتعرضون لمساومة على الحرية مرة أخرى، مثل كل مساومات النظام السابق، التي أهدرت الحرية، ولم تعطي في المقابل أي ازدهار اقتصادي حقيقي، وهو ما سيتكرر مرة أخرى، مع حكومة الانقلاب. فكل المال المتدفق، سوف يذهب، بدون تنمية حقيقية، لأن من حاول تحقيق التنمية الحقيقية، أي الرئيس محمد مرسي، قام في وجهه انقلاب عسكري، فهل يعقل أن يسمح لحكومة الانقلاب، بأن تحقق أي تنمية حقيقية؟
والهدف النهائي من تقويض العملية الديمقراطية، أن تسيطر الدولة العميقة بأجنحتها المختلفة على العملية السياسية، وتصبح الانتخابات شكلية، ولا تأتي إلا بمن تؤيده الدولة العميقة، بعد أن تصبح الحاكم الفعلي، المستند لقوة الجيش.
تقويض الاحتكام للشارع
قام الانقلاب العسكري، بحجة أنه استند إلى المظاهرات التي خرجت تعارض الرئيس محمد مرسي، وتطالب بانتخابات رئاسية مبكرة. ومعنى هذا، أن الانقلاب العسكري، سهل عملية احتكام للشارع، تخرج على قواعد الديمقراطية، بل وتهدم قواعد العملية الديمقراطية، واستند لها، وأعطى لها شرعية. فأصبح استمرار الانقلاب العسكري ونجاحه في تحقيق أهدافه، رهنا بتقويض عملية الاحتكام للشارع، حتى لا يسقط الانقلاب في الشارع، كما جاء من الشارع.
فقائد الانقلاب العسكري، يهدف إلى إخراج الناس من الشارع، حتى يوقف عملية الاحتكام للشارع، ويقوض قدرة عامة الناس على التظاهر والاعتصام، حتى لا يفرض عليه الشارع أوضاعا جديدة، تجهض الانقلاب العسكري مبكرا.
وإذا ظل أنصار الشرعية في الشارع، فإن بقاء أنصار الانقلاب في الشارع، يصبح ضروري، ولو بشكل متقطع، حتى يثبت قادة الانقلاب، أنهم مازالوا يتمتعون بتأييد في الشارع؛ وإذا استمرت مباريات الحشد في الشارع، فإن الانقلاب العسكري، لن يتحقق له الاستقرار الهادئ.
فقادة الانقلاب، يحاولون تحقيق شرعية الصمت، أي تحقيق شرعية بصمت الشارع على ما حدث، فإذا ساد الهدوء الشارع، يصبح ذلك ضمنيا موافقة على خريطة طريق الانقلاب، مما يجعل الانقلاب يحوز على شرعية، بسبب تقبل الشارع له.
لذا، فليس أمام أنصار الشرعية، إلا البقاء في الشارع، ومنافسة أنصار الانقلاب في القدرة على الاستمرار والحشد المستمر، مما يجعل عملية الاحتكام للشارع مستمرة. ولأن أنصار الشرعية، هم أول من رفض عملية الاحتكام للشارع، ثم فرض عليهم الاحتكام للشارع، من جانب أنصار الانقلاب، لذا يصبح لدى أنصار الشرعية مبرر كافي للبقاء في الشارع، والاحتكام للشارع، مادام الاحتكام لصندوق الاقتراع، قد تم تقويضه.
ولأن من خطط للانقلاب، حاول أن يظهر أن أغلب المجتمع يعارض الرئيس محمد مرسي، وحاول إخفاء حجم الحشود المؤيدة له وللشرعية؛ لذا بات على أنصار الشرعية، أن يظلوا في الشارع، ويمددوا حضورهم الحاشد، عبر الزمان والمكان، حتى يظهروا أنهم ليسوا أقلية، بل ربما يكونوا الأغلبية الحقيقية.
لهذا، اندفع قائد الانقلاب، لتكميم الأفواه، وغلق القنوات الفضائية الموالية لأنصار الشرعية، حتى يخفي صورة الاحتجاج في الشارع، ويزيف هذه الصورة، بالطريقة التي تخدم أهداف الانقلاب العسكري.
ويحاول قادة الانقلاب، إقناع عامة الناس، أن الاحتجاج منحصر في جماعة الإخوان المسلمين فقط، ثم يتم تشويه صورة الجماعة، حتى لا يتمدد الاحتجاج أكثر، وحتى لا تظهر صورته الحقيقية؛ خاصة وأن الاحتجاج على الانقلاب العسكري، تمدد في أيامه الأولى، بحشود كبيرة، ربما أدهشت قادة الانقلاب أنفسهم.
وحتى يتم فض حالة الاحتكام للشارع، يقوم قادة الانقلاب، بشن حملات تخويف مستمرة، والتهديد بالسياسات القمعية، حتى يتم ردع أنصار الشرعية، وحتى يتمكن قادة الانقلاب من إخلاء الشارع. لذا يبقى الاحتكام للشارع، هو الوسيلة الوحيدة أمام أنصار الشرعية، حتى يتم استعادة الشرعية، واستعادة قواعد العملية الديمقراطية مرة أخرى، وعودة الاحتكام لصناديق الاقتراع النزيهة والحرة؛ أي أن احتكام أنصار الشرعية للشارع، هو السبيل الوحيد، لإفشال عملية الاحتكام للشارع والخروج على
قواعد العملية الديمقراطية، لاستعادة الشرعية والديمقراطية مرة أخرى.
مذبحة الفجر
كانت مذبحة الفجر، أمام مبنى الحرس الجمهوري، هي لحظة الذروة في مخطط التخويف والترهيب، الذي يمارسه قادة الانقلاب. فقد هدفت هذه العملية، لبث حالة من الرعب والخوف، في نفوس أنصار الشرعية، حتى يخرجوا من الشارع. كما هدفت هذه المجزرة، لردع أنصار الشرعية عن الاعتصام في هذا المكان، حتى لا ينجحوا في أي لحظة، في إخراج الرئيس الشرعي من الاحتجاز غير الشرعي.
ولكن مذبحة الفجر، لها عدة أهداف أخرى، فهي عملية دموية، تهدف أساسا لتشويه صورة الضحية، من خلال التزييف الإعلامي المنهجي. بحيث يتم إلصاق تهمة الإرهاب بجماعة الإخوان المسلمين، فتصبح الحرب بين انقلاب عسكري، وبين جماعات إرهابية. والهدف من ذلك، بعد تشويه صورة جماعة الإخوان المسلمين، هو فض الناس من حولهم، وإضافة مبررات جديدة للانقلاب العسكري، بحثا عن شرعية شعبية مزعومة.
وعندما ربط المتحدث العسكري، بين التظاهر والاعتصام السلمي، وبين ما يحدث في سيناء، كشف عن مخطط الانقلاب، والذي يهدف إلى استعادة شعارات الحرب على الإرهاب، والتي تحظى دائما بدعم أمريكي. والكل يعرف، أن الهجمات المسلحة في سيناء، مستمرة قبل الثورة وبعدها، وقبل تولي الرئيس محمد مرسي لمنصبه، وبعد ذلك. مما يعني أن ما يحدث في سيناء، هو استمرار للمواجهة بين أجهزة الدولة والجماعات المسلحة، وليس له علاقة بالتظاهر والاعتصام السلمي. كما أن الكل يعرف الخلاف الحاد والجذري، بين الجماعات الجهادية المسلحة، وجماعة الإخوان المسلمين.
ولكن مذبحة الفجر، لم تكن العنصر الوحيد، في مخطط الترهيب والتخويف، حيث تبع غلق القنوات الفضائية، سلسلة من الاعتقالات، تنفذها أذرع النظام السابق القضائية، وأذرعه الأمنية، في محاولة لبث الخوف في نفوس أنصار الشرعية. وهي عودة للوراء مرة أخرى، لسياسات النظام السابق، التي كانت تعتمد على تشويه جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال قياداتها، حتى يتم شل قدرات الحركة على التمدد، وتشويه صورتها لدى قطاعات من المجتمع.
ورغم فشل سياسات النظام السابق، إلا أن قادة الانقلاب يعودون مرة أخرى لنفس السياسات، وإن كان بصورة أكثر حدة. فاستخدام العنف المنهجي، ضد أنصار الشرعية، قبل الانقلاب العسكري وبعده، والذي أسقط العشرات من الشهداء، لم يحدث في ظل النظام السابق، مما يؤكد على أن قادة الانقلاب يتبعون سياسة الصدمة والرعب، إن صح التعبير، وهي تعني توجيه ضربات مؤلمة متتالية لأنصار الشرعية وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، لردع أي محاولة للاحتجاج على الانقلاب العسكري.
ولأن جماعة الإخوان المسلمين، تتبع سياسة امتصاص الصدمات، ومعها أنصار الشرعية؛ لذا تفشل الإجراءات العنيفة لقادة الانقلاب، ويصبح أمامهم إما التراجع، أو اتخاذ إجراءات أكثر تهورا، مما يعرض البلاد لمخاطر الانزلاق إلى العنف والفوضى.
وإذا كان الهدف الأول لمذبحة الفجر، هو تخويف المتظاهرين والمحتجين، حتى يخرجوا من الشارع، وكان الهدف الثاني، هو تشويه صورة جماعة الإخوان المسلمين، لتحجيم شعبيتها، فإن الهدف الثالث لمذبحة الفجر، هو الأهم. فهذه المذبحة، تهدف أساسا لإجراء عملية إقصاء دموي لجماعة الإخوان المسلمين، تدفعها خارج العملية السياسية لفترة طويلة، وتعيق عودتها للعملية السياسية، مما يقلص من دور الجماعة السياسي لعدة سنوات.
احتجاز الرئيس
كان من الواضح منذ اللحظة الأولى، أن قادة الانقلاب يخشون من خروج الرئيس محمد مرسي إلى الجماهير المؤيدة له. فمن ناحية، يمثل خروجه دعما مهما لأنصار الشرعية، كما أن خروجه يسمح للجمهور بمعرفة حقيقة ما حدث. وتلك قضية مهمة، فالكثير من الذين خرجوا في مظاهرات تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، كانت أسبابهم تتعلق بالأوضاع الحياتية، التي تأكد أن تأزمها كان جزءا من مخطط الانقلاب، مما يعني أن هناك جمهورا أيد الانقلاب، وإذا عرف حقيقة الانقلاب، سوف يغير موقفه، لأنه استخدم في تحقيق أهداف لا يوافق عليها.
كما أن قادة الانقلاب، يخشون من معرفة عامة الناس لمخطط الانقلاب، وأنه تم التخطيط له قبل المظاهرات، وكان سوف ينفذ أيا كانت أعداد المتظاهرين. كما أن هناك خشية حقيقية، في انكشاف البعد الخليجي في الانقلاب، والذي انكشف فعلا، وأيضا الدور الأمريكي في الانقلاب. فكلما عرف أغلب الناس، أن مخطط الانقلاب، له أهداف إقليمية ودولية، ضد مصالح مصر، زالت الغفلة التي أصابت بعض الناس، وساهمت في توسيع دائرة أنصار الانقلاب.
كما إن بقاء الرئيس رهن الاقامة الجبرية، له أهداف أخرى، منها أن يبقى طرفا يتم التفاوض معه، ويتم مساومته، والدكتور محمد مرسي ليس من الذين يقبلون بالمساومات أو التنازلات. ولكن قادة الانقلاب، يحتاجون لطرف يتم الضغط عليه ومساومته. كما أن قادة الانقلاب لديهم خشية حقيقية من وجود رئيس منتخب، يتحرك بين أنصاره وأنصار الشرعية. فهو مازال رئيس منتخب، وهذه الصفة لم تلغى، ولا يمكن لأحد إلغائها. مما يعني أن الرئيس يملك شرعية، لا يملكها قادة الانقلاب أنفسهم، فهو لديه شرعية شعبية، وهم يملكون السلاح، والمواجهة بين الشرعية والسلاح، تنتصر فيها الشرعية.
وهناك هدف آخر، من إبقاء الرئيس رهن الاقامة الجبرية، وذلك للضغط عليه لفض الاعتصام وصرف الناس من الشوارع، وهذا لن يحدث.
وفي آخر لقاء لي مع الرئيس محمد مرسي، يوم 30 يونيو 2013 ، ذكرني بحوار سابق بيننا، عندما توافقنا على أن الشهيد عبد القادر عودة أعدم، لأنه فض التظاهرات المطالبة بالديمقراطية في عام 54 19، والتي أيدت التحول الديمقراطي بعد حركة الجيش في يوليو 1953، وساندت محمد نجيب في مواجهة جمال عبد الناصر. وبعد الانقلاب، أتضحت دلالة هذه التذكرة، والتي جاءت قبل بداية التظاهرات بأيام. وأظن أنها رسالة واضحة، وأعتقد أن الكل يدركها الآن. كما أن التلويح المستمر، بالتحقيق مع الرئيس محمد مرسي، يؤكد أن قادة الانقلاب، يريدون إعادة إنتاج ما حدث في عام 1954 لتتضح أهمية تلك الرسالة الرمزية من الرئيس محمد مرسي.
ومرة أخرى، تتقابل النواة الصلبة للدولة، أي القوات المسلحة، مع النواة الصلبة للمجتمع، أي جماعة الإخوان المسلمين. ومرة أخرى تكون المعركة حول الديمقراطية، التي يريد العسكر إجهاضها، وتريد الجماعة حمايتها. وبعد أن اجهضت فرص الديمقراطية في عام 1954 ، وظلت مصر تحت حكم مستبد لستة عقود، نعود مرة أخرى لمعركة التحرر والحرية.
ولكن الفرق بين الموقفين كبير، ففي يوليو 1953، قام الجيش بانقلاب، ثم حظى بدعم شعبي، فأسس لنظام مستبد. أما في يناير 2011، فقام الشعب بثورة شعبية، وحقق تحولات ديمقراطية، وبدأ في بناء ديمقراطية حقيقية، ثم قام الجيش بانقلاب، حتى يجهض الديمقراطية، ويعيد دولة الاستبداد.
كسر الإرادة
الذي يتصور أن قادة الانقلاب يريدون كسر إرادة جماعة الإخوان المسلمين فقط، فهو مخطئ. الهدف الآن، هو كسر إرادة الشعب كله، حتى لا يستطيع فرض إرادته مرة أخرى، سواء بالاحتكام لصندوق الاقتراع، أو من خلال الاحتكام للشارع. فما يحدث، هو تقويض كامل لثورة يناير، يهدف أساسا، لفرض نموذج دولة عسكرية، تكون السلطة الأعلى فيها للقيادة العسكرية، ومعها أجهزة القضاء والأمن، مما يجعل الديمقراطية بلا مضمون، ويجعل خيارات عامة الناس الانتخابية، بلا أي تأثير.
ولا يمكن تحقيق نصر نهائي للثورة المضادة، إلا بكسر إرادة عامة الناس، التي أنجحت ثورة يناير في مرحلتها الأولى، بل وفي عدة مراحل تالية. فالإرادة الشعبية الحرة أسقطت رأس النظام السابق، ثم توالى دور الإرادة الشعبية الحرة عدة مرات، وحققت انتصارات في الانتخابات، وأصبحت الإرادة الشعبية، هي مصدر السلطات فعلا. لهذا، جاء الانقلاب، بدعم من أنصار الحكم العسكري، وبدعم من. قطاعات غافلة عن حقيقته، لينقض بالكامل على كل ما أنجزه الشعب المصري، منذ يناير 2011.
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين، هي الأكثر تنظيما، لذا فهي المستهدف الأول من الانقلاب العسكري، والذي يريد كسر إرادتها. وإذا كانت القوى الإسلامية، هي الأكثر شعبية، لذا فهي أيضا المستهدف التالي للانقلاب، حتى يتم كسر إرادتها. وبعد توجيه ضربات متتالية للقوى الإسلامية، وكسر إرادتها، وإرادة أنصار التيار الإسلامي، يصبح من السهل بعد ذلك، السيطرة على المجتمع وإخضاعه.
وفي معركة الإرادة، أمام أنصار الشرعية وجماعة الإخوان المسلمين، بديل واحد وهو الصمود والبقاء والاحتجاج والاعتصام، حتى يتأكد الطرف الآخر، أن إرادة قطاع واسع من الشعب، لن تنكسر، وحتى تفيق قطاعات أخرى من الشعب، وتدرك أن الانقلاب يهدف إلى إعادة دولة الاستبداد مرة أخرى، وإن إعادة دولة الاستبداد، سوف يعيد دولة الفساد أيضا.
وبقاء الدبابة في الشارع، أمام المعتصم والمتظاهر السلمي، هو أهم مشهد، يفشل الانقلاب ويكشفه. ولكن معركة الإرادة، ليست معركة هينة، لأنها بين شعب أعزل، وقوات مدججة بالسلاح. وقوة الاحتجاج في أنه سلمي، وضعف الانقلاب في سلاحه.
ومحاولات تشويه جماعة الإخوان المسلمين، ولصق تهمة الإرهاب بها، هي محاولة لإضعاف الاحتجاج والتظاهر والاعتصام، لأن قوة الاحتجاج الشعبي، تنبع من أنه احتجاج سلمي. وقوة جماعة الإخوان المسلمين، تتمثل في أنها تنظيم شعبي له قواعد شعبية واسعة، وتعتمد على العمل السياسي السلمي. ومنذ عقود، والجماعة تستمد قوتها من العمل السلمي، ومحاولة جرها للعنف، سوف تفشل، كما أن محاولة استفزاز أعضائها، حتى ينزلقوا للعنف، سوف تفشل أيضا. وبقاء الجماعة مع أنصار الشرعية، في اعتصام سلمي، سوف يجهض كل محاولات لصق تهمة الإرهاب بالجماعة.
ولأن الوعي العام يتم تشويهه على مدار الساعة، لذا أصبح من الضروري حدوث قدر من الإفاقة في المجتمع، حتى لا يسلم الناس أنفسهم بأنفسهم لحكم عسكري. لذا فمن المهم، اختبار كل المعلومات والاشاعات والأكاذيب على معيار واقعي. فكل معلومة تصل إلى الناس، عليهم أن يسألوا أولا من المستفيد، إذا كانت تلك المعلومة صحيحة. فإذا تم نشر إشاعات حول أن جماعة الإخوان المسلمين، تتسلح لتقوم بأعمال إرهابية، فعلينا أن نسأل، هل هذا يحقق أي فائدة للجماعة؟ وسنجد، أن لجوء الجماعة للعنف، يجعلها تخسر كل شيء، لأنها تنظيم شعبي علني، قائم على المساندة الجماهيرية الواسعة، مما يعني أن المستفيد الوحيد من تلك الاشاعات هم قادة الانقلاب.
خريطة الانقلاب بلا استفتاء
أول ما فعله المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد سقوط رأس النظام السابق، هو إجراء استفتاء على خريطة الطريق التي وضعها. وأول ما فعله قادة الانقلاب العسكري، هو فرض خريطة طريق بدون استفتاء. ولو كان لدى قادة الانقلاب العسكري، أي اعتقاد، بأنهم قادرون على تمرير تلك الخريطة عن طريق استفتاء شعبي، لفعلوا. وإذا كان قادة الانقلاب، يروا أنهم وقفوا مع القطاع الأكبر من المجتمع، ضد قطاع أقل، فكان عليهم اللجوء لاستفتاء، فإما يختار الناس خريطة طريق الانقلاب، وبهذا تكتسب شرعية، أو تعود الشرعية، ويعود الرئيس والدستور ومجلس الشورى.
ولكن هذا الانقلاب، لم يقم حتى يتم الاحتكام لصندوق الاقتراع مرة أخرى، بل قام حتى يفرض على عامة الناس مخطط الانقلاب؛ وهو ببساطة، علمنة وعسكرة الدولة. وبعد ذلك يمكن لعامة الناس ممارسة حقهم، بعد أن يفرض عليهم حكم عسكري علماني.
لذا فقادة الانقلاب على علم، بما تم من تزييف للحقيقة، وعلى علم بحجم التظاهرات من الجانبين، وعلى علم أيضا بما حدث من عملية خداع جماهيري واسعة، قامت بها أجهزة أمنية واستخباراتية.
وأيضا، يعلم من قام بالانقلاب، أن عملية الخداع المنظم، لا تبقى طويلا، وقد تتغير الأمور، وينفك بعض الحصار الخانق الذي تعرض له عامة الناس، من الإعلام وأجهزة بث الإشاعات والتوجيه المعنوي. لذا فرض قادة الانقلاب خريطة طريق، ليتأكد أنه انقلاب عسكري متكامل الأركان.
هل ينجح الانقلاب؟
للرد على هذا السؤال، نحتاج للنظر إلى القضية من زاوية أخرى. فهل تنجح الثورة أو الديمقراطية، بدون إرادة شعبية حرة وواعية وقوية؟ وهل نحتاج فعلا لتحول ديمقراطي، لا يستند إلى وعي عام قوي وفاعل؟ فإذا كان السؤال حول مدى نجاح الانقلاب، فالانقلابات العسكرية لا تنجح، إلا بقدر الغفلة التي تنتشر بين عامة الناس، فيسلم الناس إرادتهم لحكم عسكري، ثم يندمون بعد ذلك لعقود.
والانتكاسة التي تعرضت لها الثورة، كانت بسبب ضعف الإرادة الشعبية، وضعف الوعي العام، مما مكن وسائل إعلام الانقلاب، من سلب وعي جزء من عامة الناس، وبالتالي تم سلب إرادتهم، فدفعوا لتأييد عمل، لن يوافقوا على نتائجه.
هناك بالطبع كتل تؤيد الحل العلماني، وتريد الحكم العسكري، إذا كان البديل الوحيد للمشروع الإسلامي. ولكن هناك كتل دفعت من أجل الخروج لإنهاء ولاية الرئيس، وهي لا تعرف أن خروجها، سوف يؤدي إلى علمنة وعسكرة الدولة. وكلما كانت هناك كتل، يمكن أن يشوه وعيها، تعذر بناء إرادة شعبية قوية، تحمي مكتسبات الثورة.
لذا، فالانقلاب لن ينجح، لأن المجتمع لم يعد كما كان. صحيح أنه يتعرض لعمليات تضليل مستمرة، إلا أنه لا يمكن أن يظل غافلا عما يحاك له. وبقدر ما يعرف عامة الناس، حقيقة الانقلاب العسكري، وأنه جاء أساسا لفرض حكم عسكري، أسوأ من النظام السابق، بقدر ما تعود صحوة عامة الناس، ليحموا مصالحهم وخياراتهم الحرة.
وبقاء أنصار الشرعية وجماعة الإخوان المسلمين، يمثل العنصر الفاعل، والقادر على إعادة تحريك الشارع، وتفعيل دور عامة الناس مرة أخرى. وهنا تظهر المقابلة بين النواة الصلبة للدولة، والنواة الصلبة للمجتمع. فبدون وجود نواة صلبة للمجتمع، قد تنجح النواة الصلبة للدولة، أي الجيش، في فرض حكم عسكري. ولأن المجتمع له نواة صلبة، متمثلة في جماعة الإخوان المسلمين، لهذا تواجه الجماعة بحرب مستمرة. وتلك النواة الصلبة، مع حلفائها ومؤيديها، تستطيع الصمود، لتؤكد على قوة المجتمع.
ومع استمرار حالة الإفاقة المجتمعية تدريجيا، يجد بعض الناس، أن النواة الصلبة للمجتمع، أي جماعة الإخوان المسلمين، قد عرقلت بالفعل الانقلاب العسكري، حتى تتجمع قوى المجتمع، وتنتهي مرحلة الترهيب والتخويف، ثم تستعاد الثورة من جديد، وترجع الشرعية للشعب.
المقابلة بين الانقلاب والشرعية
فالانقلاب هو انتكاسة للثورة، تعرقل مسارها، ولكنه يفشل في النهاية. وأسباب فشله تتعدد، فقد ظهر في اللحظة الأولى، بوصفه عودة لسياسات القمع البوليسية، وتأكد أنه قائم على فرض إرادته على الجميع، بمن فيهم من أيد الانقلاب، فحتى حلفاء الانقلاب، لم يعد لهم القدرة على المشاركة في مساره.
والمقابلة، بل والمفارقة بين مرحلة ما قبل الانقلاب، ومرحلة ما بعد الانقلاب، كافية ضمن أسباب أخرى، لإفشال الانقلاب. فالانقلاب كان حدث صادم، فرق المجتمع بين مؤيد ومعارض، ومع توالي سياسات الانقلاب تتضح حقيقته، ويتضح الفارق، ليس بين ما قبل الانقلاب وما بعده، ولكن بين مرحلة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومرحلة الحكم العسكري بعد الانقلاب.
فبعد سقوط رأس النظام، أدار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المرحلة الانتقالية، على أساس أنها مرحلة تحول ديمقراطي، ولكن الحكم العسكري بعد الانقلاب، يدير مرحلة ما بعد الانقلاب، على أساس أنها مرحلة تحول من نظام ديمقراطي، إلى نظام يقوم على عسكرة الدولة. والفرق بين المرحلتين كبير.
وما لم يستطع تحقيقه بعض القادة العسكريين، في المرحلة الأولى، خاصة من خلال وثيقة المبادئ فوق الدستورية، التي تكرس لعلمنة وعسكرة الدولة، يراد تحقيقه الآن، من خلال الانقلاب العسكري. وكلما اتضحت الصورة أكثر، أنكشف الانقلاب أكثر، وتغلبت عوامل الفشل، على عوامل النجاح الطارئة، والتي استند لها الانقلاب العسكري.
فإذا كانت مبررات الانقلاب، هي التدخل في مرحلة من الانقسام السياسي الحاد، فإن الانقلاب أدى عمليا، إلى بداية مرحلة النزاع الأهلي، وفي نفس الوقت، يريد قادة الانقلاب العسكري، استغلال تلك الحالة، حتى يسرقوا من كل شعب مصر، حقهم وحريتهم ومستقبلهم، ويفرضوا عليهم حكما عسكريا.
ومع توالي الأحداث، يتضح أن الانقلاب خطر على المستقبل، حتى وإن ظن البعض أنه قدم حلا للحاضر.
ومع اتساع المقارنة والمقابلة، والفارق الكبير، بين مسار الانقلاب، ومسار الحفاظ على الشرعية، وتداعيات كل مسار منهما، تبدأ مرحلة انتكاس الانقلاب العسكري، وعودة مسار الثورة إلى طريقه الصحيح من جديد.
لذا يصبح الصمود الشعبي في الميادين، هو أهم عنصر ينزع أي شرعية مزعومة للانقلاب، حتى يفقد أي مبررات أو مسوغات مفترضة، وتكتمل صورته الحقيقية أمام قطاعات أوسع من الناس. فكلما ظهر الوجه الحقيقي لما حدث، وتأكد أغلب الناس أنه انقلاب عسكري، يؤدي إلى عسكرة وعلمنة الدولة، سيتاح لهم أن يختاروا عن وعي وإدراك. فهل يتوقع أحد أن يختار أغلب الناس، عسكرة وعلمنة الدولة، بعد ثورة يناير؟
المتابع لميزان الردع بين الانقلاب العسكري، وأنصار الشرعية، منذ اليوم الأول للانقلاب، ثم الأيام التالية، يجد أن الانقلاب العسكري، يخسر كل يوم، وحركة أنصار الشرعية، تكسب كل يوم. مما يعني، أن الزمن ليس في صالح الانقلاب العسكري، بل في صالح عودة الشرعية والديمقراطية، واستعادة الثورة، مرة أخرى. والعد التنازلي لنهاية الانقلاب العسكري، بدأ مع بدايته، والعد التصاعدي لعودة الشرعية، بدأ أيضا منذ بداية الانقلاب العسكري.
يوليو 2013
واقرأ أيضاً: