من على الشيزلونج: مصيدة الإحساس بالموت: اضطراب نوبات الهَلَع
هل جرّبت أن تقترب من الموت وتحس بدنو الأجل؟، وأنت سائر في الطريق العام أو جالس على كنبة بيتك في أمان الله، إحساس غريب مخيف وكأنك تختبر فيه الحياة، حالتان من الممكن أن يواجههما الإنسان:
الأولى إذا تعرض لحادث، خاصة (حادث سير)، ينجو فيه من موت محقق بأعجوبة، والثاني أن تنتابه نوبات هلع، يتشبث فيها بالحياة ويحس بالموت قريب جداً منه، رغم أن لا علامات واضحة على هذا الهلع، تبدو لأي أحد في محيط ذلك المرتعش الميت رعباً، المصاب بنوبات الهلع.
استغرق الأمر سنوات ثلاث، حتى استطاع الدكتور أن يضع يده على مجمل أسباب اضطراب مازن المقاوم جداً للعلاج، طلب الدكتور لقاء أمه للضرورة، كان قد التقى بها زمان على هامش رحلة العلاج، لكن ما أدلت به من معلومات وقتها لم تشف غليله العلمي، استجمعت الأم قواها بعد أن انهدّ حيلها من البيت ومن تربية الأولاد، بعد أن غاب الأب طول حياته تقريباً، مهاجراً مع إخوته في السعودية، قال لها الدكتور مُطمئنًا:
- شدّي حيلك، يمكن لو كان الأستاذ موجود لكانت الأمور أسهل.
- ضحكت في حزن وأطرقت برأسها مُتمتمة:
- لا أبداً.. هكذا أحسن، هو يفسد الأولاد، يفسد تربيتهم، يعوض غيابه عنهم بالدلال الزائد، بالفلوس، بالتغاضي عن الأخطاء، خايفة أقول عدمه أحسن؟!
أحس الدكتور أن حاجة الأم للبوح وللشكوى كبيرة، وأن جزءًا كبيرا من علاج مازن هو محاولة تغيير معالم الأمور قدر الإمكان في هذه الأسرة، لكن الطبيب أدرك أن ذلك شبه مستحيل في ظل غياب الأب، وهروبه من المسئولية، ركز الطبيب وسأل الأم عن تاريخ حملها في مازن، كيف كانت، وكيف أصبحت، وما الذي يمكن أن يكون قد ألمّ بها؟ دمعت عينا الأم، سرحت وشردت وتأنت في حكيها ثم قالت:
- بعد ما أبويا الله يرحمه مات، رباني عمي الذي أحببته كثيراً، وتعلقت به لدرجة مرضية، ربما أكثر من أبي. فجأة وأنا في أول الحمل، فقدت أعز البشر لديّ، فقدت عمّي الذي ربّاني وعلمني كيف أعيش الحياة، كنت حامل في الشهور الأولى في مازن، أحسست بحزن دفين عكّر دمي كله، التصق بي وسمّم جسمي، كنت أحس بذلك بوضوح وانقلبت حياتي كلها في التسعة أشهر من حمل مازن إلى جحيم، إلى حياة صعبة قاسية مزعجة.
هزّ الدكتور رأسه معقباً:
- وهذا دخل مع الدم المغذي لمخ وجسم مازن، عكرّه وسممّه، بمعنى أن الجذور البيولوجية لشخصيته تأثرت بتلك الكيمياء العصبية الحزينة البائسة المفتقدة لحنان العم الراحل، ذلك الرائع الذي تركك ومضى؟
أومأت الأم برأسها علامة الإيجاب ثم قالت:
- يهيأ لي يا دكتور أن كل علامات الفقد والموت والخوف من فقد آخرين، كل أحاسيس اليُتم انتقلت مع الدم في الحبل السري إلى مازن؛ فصار هكذا كما تراه خائفاً من الموت، خائفاً من الفَقد، مترقباً أسوأ سيناريو.
خبط الدكتور بيده على المكتب صائحاً من فرحة الذي وجدها، وجد حلّ العقدة:
- هذه هي العقدة الأولى، لكنها ليست وحدها، إنها الجذور البيولوجية لمرض وتعب وخوف مازن المقاوم للعلاج.
ابتسمت الأم وقالت:
- كذلك أبوه وعوامله الوراثية، جيناته.. أبوه عنده أكثر من فوبيا من أشياء كثيرة، حياته ماشية لكنها كلها مخاوف.
رد الدكتور بسرعة:
- نعم.. لكن بعض الناس مثل والد مازن، يتعايشون مع المرض ويتكيفون وهذا ليس صحيحًا ولا إيجابيًا، لأن الصحيح أنهم يتخلصون من أعراضهم وأمراضهم، الفرق بين مازن وأبيه. أن مازن صغيّر، وواجه أكثر من فقد وواجه كثيرا من الموت. إنه هش من الداخل لا يتحمل.
الحالة لمراهق عمره 17 سنة يعيش مع أخيه وأخته وأمه من مصر بينما الأب من الطيور المهاجرة إلى الخليج، جسده يوحي ببطولة كان يتقلدها في الفنون القتالية على مستوى جمهورية مصر العربية (الكونج فو)، هذا على الرغم من أنه عند دخوله الحلبة وأرض التدريب بل والنادي كان يمشي مُطئطئًا كالقزم، مهزوماً خائفاً من داخله (وكأنه كان يحاول جاهداً التغلب على هشاشته وضعفه بالتفوق الرياضي القتالي في لعبة خطرة).
التشخيص: اضطراب نوبات الهلع Panic Attack-Panic Disorder ، تقدم إلى العيادة بأعراض كلاسيكية معتادة: داهمته النوبة وهاجمته (هكذا، فجأة، دون أسباب ودون مقدمات)، حدثت مرة أو اثنتين يومياً (وكما قال الممثل ماجد كدواني عن نوبات هلعه في التلفزيون ذات مرة (أنا أموت في كل لحظة، أموت بالفعل أكثر من مرة يومياً، نعم يومياً)، مستمرة لمدة الثلاثة شهور الماضية، النوبات لا تستمر طويلاً لكنها مؤلمة للغاية، حوالي ربع ساعة من الموت حياً.
(المشكلة ساعات ليست في نوبة الهلع لكن في انتظارها، يعني وقوع البلاء ولا انتظاره، تخيل إنك تجلس تنتظر عزرائيل وهو لا يحضر، من الممكن أن يأتي يسلم عليك، يمزح معك يدغدغك... آآه. المسألة جدّ وليست مضحكة، إنها مؤلمة جداً).
لم يكن مازن متعاطياً أو مدمناً على الخمر أو المخدرات، ولم يكن له أصحاب سوء، بالعكس كان في حاله إلى حد بعيد ولم يكن مصابا بأي أمراض عضوية ممكن أن تكون سبباً في بعض أعراض نوبات الهلع.
عندما حضر مازن أول مرة إلى العيادة النفسية كان طالباً في الثانوية العامة (مما زاد من رعبه وتعبه)، قال (أنا مخنوق.. كإني على وشك الموت، في مخي حاجات غريبة جدًا، أفكار مُفزعة، كما لو كنت مجنونًا، ضربات قلبي تزيد بسرعة جداً، أكره وأخاف أدخل أنام، الموت شبحٌ يطاردني في كل لحظة وفي كل مكان، أفتقد أبي، منذ حوالي شهرين أو ثلاثة مات ولد، أصيب بسكتة قلبية أمامي ومات كان عنده 19-20 سنة.. كنا في تدريب "الكونج فو" يعني كان ممكن أكون مكانه، أنا لست قويًا نفسياً، غير واثق من نفسي، أغطي على قلقي بالضحك، زمان كنت أطالع مواقع إباحية (بورنو)، وكنت أمارس العادة السرية مثل أي مراهق يعني، هذا الموضوع يحسسني بالذنب جدًا، أحببت مرتين، إحداهما كانت بنت كالقمر، كنا نخرج سويًا ونذهب إلى السينما، أنا لا أدخن ولم أجرب المخدرات إطلاقاً وصلت لأن أكون بطل مصر في "الكونج فو"، عندي خوف شديد من المرض خصوصاً السرطان).
الولد الثاني الذي مات كان في برنامج "ستار أكاديمي"، كان يحلم إنه سيموت في حادثة، ومات فعلاً في حادثةً.
طمأنه الطبيب المعالج، أكد له أن العلاج سيكون بالعقار النفسي Paroxetine CR 25 mg أقراص، مرة واحدة يومياً. واجه مازن الفراغ، غياب الأب، وعدم وجود هدف.
تحسن قليلاً. عقد الدكتور جلسات معه ومع الأم. فاجأ مازن الدكتور ذات مرة بقوله، أن ثمة وسواس يتعلق بالذات الإلهية أصابه، عندئذٍ تنبه الدكتور إلى أن خللاً ما في مادة الدوبامين (الخاصة بكيمياء التفكير) قد تكون مسئولة عن عرض الوسواس الديني، قام بعلاجه بعقار Risperidone بجرعة صغيرة 1 مجم يومياً.
استمر مازن في الشكوى من أعراض جسدية مع الخوف بأن ثمة مرضا كبيرا ينتظره.
بعد عدة جلسات، أصابت مازن انتكاسة خفيفة، ولما شرح الدكتور في إطار العلاج المعرفي أن لكل الناس أصحابا ماتوا، لكن مازن كان يبحث عن الذين ماتوا في الحياة وعلى "الفيس بوك" انتهى وسواس الذات الإلهية، وبقي بعض الخوف والانشغال الشديد بأمور الصحة والمرض.
دوّن الدكتور ملاحظة مفادها أن مازن مشغول بالحياة، خائف من المرض والموت يفتقد الأب في داخل تكوينه الشخصي، فافتقد الإحساس بالأمان كما افتقد القوة في مواجهة الأعراض التي هاجمته.
دخل مازن الجامعة بعد أن تحسنت حالته، احتاج الدكتور لأن يحصل على بعض المعلومات من والده الذي هاتفه من السعودية: قال له مازن من وهو صغير يخاف على نفسه جدًا، أي تعب أو أي مرض كان يؤثر فيه للغاية، كان دائماً ما يسأل هو أنا سأشفى؟ ممكن يكون جبان، يخاف من الحوادث والكوارث الطبيعية، من أي حاجة ممكن تضرّه (مرض، حادث، إيذاء).
عاود الدكتور جلسات التحليل النفسي المعرفي ( Cognitive Therapy يقوم على فكرة أن الأفكار المشوشة المتمحورة حول فكرة الموت والفقد وعدم الإحساس بالأمان تسبب مشاعر سلبية كئيبة، في العلاج المعرفي تم تعليم مازن كيف يعيد تأويل وتفسير المواقف التي تعرض لها بشكل أكثر إيجابية، وأهمها مواقف الموت التي واجهته بموت ستة من معارفه وأصحابه، كما طُلب منه التدريب على مواجهة أي أخبار تتعلق بالفقد ووصف أفكاره ومشاعره. وهكذا استطاع مازن نزع الغموض عن مسألة الموت وتداعياتها وإدراك أنها أفكار مبالغ فيها).
تأكد أن محور تفكير مازن هو (الموت)، بكل ما له وما عليه، بكل ما يحمله من جهالة وغموض، كان يخاف من الموت لدرجة الاختناق، مما أدى إلى عدم تركيزه،وفجأة وبعد سنة مات واحد صاحبه في حادثة سير وهو يقود سيارته. انتكس مازن وعادت معظم الأعراض مرة أخرى.
وصل عدد الذين يعرفهم مازن وماتوا وهم شباب 6 آخرهم كان زميل أخته التي في الثانوية العامة والتي وصفتها أمه بأنها أيضاً هشة.
دخل مازن في دور اكتئاب جسيم، بكل أعراضه من عزوف عن الطعام وعن الحياة وعن الذهاب إلى الجامعة، اضطرب نومه، ولم يستجب إطلاقاً لمضادات الاكتئاب، واضطر الدكتور لوصف جلسات تنظيم إيقاع المخ BST (طريقة لإدخال المريض في نوبة حركية تشنجية وهذه النوبة ضرورية لفعالية العلاج. نحصل على هذه النوبة الحركية التشنجية من خلال تمرير تيار كهرومغناطيسي عبر دماغ المريض بطريقة مبرمجة بعناية من الجهاز محدد بالكومبيوتر له حساسية وخصوصية بالغة).
مع كل هذا ظل مازن واقفًا عند نقطة محددة يراوح فيها نفسه، لا يتقدّم ولا يتأخر، بدا الأمر عنادًا مع المرض، وبدت العقدة هناك في العقل الباطن خفية متشابكة، ذات مرة قرر مازن أن يكشف عن مكنونه وأن يحلّ عقدته، كان بوحه للكتر مؤثرًا مليئًا بالشجن، قال أنه احتضن بنت الجيران التي تحبه ويحبها فاستثار جسده ونزل منه المزي وبلل نفسه، أحس بالذنب المضخم آلاف المرات، وبأنه يستحق كل ألوان العذاب، بل ويستحق الموت لأنه مجرم وفاسق، ضخم مازن الأمر وهوله وكبّره وجعل منه سدًّا منيعًا أمام كل محاولات العلاج، ولما طمأنه الدكتور وشرح له تلك العملية النفسية الداخلية المغلوطة، وأن الأمر يحدث بين الشباب، وأن ما جرى جرى، وأنه لم يؤذ البنتن وأنه ليس بعربيدٍ أو شرير.
بعدها بيومين أفاق مازن من نومه في الصباح شخصًا جديدًا، مليئا بالقوة والصحة والنشاط.
كيف نشخص نوبة الهلع:
عندما توجد 4 أعراض من الآتي:
- ازدياد ضربات القلب
- الارتعاش، الرجفة
- إحساس بالاختناق
- إحساس بالغثيان
- إحساس بأنك لست نفسك أو أن المكان المحيط بك ليس حقيقياً
- خوف من فقدان السيطرة على النفس أو فقدان العقل والجنون
- خوف من الموت
- إحساس بالتنميل أو الثقل في الأطراف
- نوبات إحساس بالبرد أو السخونة في الجسم فجأة وتختفي
- العرق الغزير
- ضيق النفس
- ألم في الصدر
- دوخة
خصائص نوبات الهلع:
- نوبات خوف وذعر وهلع شديدة غير متوقعة
- تستمر النوبات حوالي شهر ثم يتبعها قلق من استمرارها أو زيادتها أو أن تؤدي لسلوك غريب أو نمط حياة غير عادي
- النوبات لا تكون بسبب عضوي أو بسبب تعاطي أي مواد أو أدوية مخدرة.
- النوبات ليست جزءاً من أي اضطراب عقلي آخر.
- الاكتئاب الجسيم قد يتبع حالة الهلع في بعض الحالات
تستخدم العقاقير المؤثرة على السيروتونين وأحياناً المهدئات تحت إشراف الطبيب من فئة ال Benzo
الحالات الطبية التي تسبب نوبات هلع:
- القلبية: الذبحة الصدرية، الفشل القلبي، جلطة القلب.
- الغدد: مرض Addison، Cushing زيادة نشاط الغدة الدرقية – نقص السكر في الدم – اضطرابات الدورة الشهرية –
- الأورام: السرطانية
- العصبية: التشنجات – الدوخة – الصداع النصفي – التصلب المتعدد MS –
- التنفسية: أزمة الربو – الاضطرابات الرئوية
الأسباب المحتملة للإصابة بنوبات الهلع:
- كما في أحوال نفسية وطبية كثيرة لا سبب محدد أو واضح ممكن أن يكون وراء الموضوع.
- صدمات الحياة المتكررة (الحزن لوفاة عزيز، في حالة مازن 6 من أصحابه والمقربين له ماتوا وهم في سنه صغار)
- الرابط الجيني (قوة العوامل الوراثية في حالة مازن، أبوه خير تحميل للطبائع الوراثية المسئولة عن الهلع)
- كيمياء المخ العصبية، أن تكون حساسة مضطربة في حالة المصاب بالهلع.
- زيادة الحساسية لثاني أوكسيد الكربون.
- التفكير الكارثي: التركيز على توافه الأمور وتوقع أسوأ سيناريو.
واقرأ أيضاً:
لا للاختــزال........لا للاحتــلال / على هامش كارثة قطاري قليوب / الحالة النفسي سياسية