وما مِنْ كَاتبٍ إلا سَيفْنــي *** ويُبقِي اللهُ ما َكتبتْ يـــداهُ
فلا تكتُب بِكفِكَ غيرَ شيءٍ *** يسُرُكَ في القيامةِ أنْ تَراهُ
من خلال هذا الكتاب سَنتُعلّم معا بَعْض المبادئِ الأساسيةِ عن تأكيد الذات في المواقف المختلفة، كما سنَعطي بَعْض الأمثلةِ، ليس فقط من واقع الممارسة العملية بالعيادة النفسية ولكن أيضاً من التراث التاريخي الغني لأمتنا الواحدة - وإن كره الكارهون - ولذا دعونا نتصفح هذا الكتاب بعناية، ولا نمل من تكرار بعض الأفكار الهامة فيه، فقد قصدت من هذا التكرار تذكرها دائماً، مع التأكيد على أهميتها في واقعنا الصعب الذي نعيشه جميعاً، فأهل الرأي والحكماء، ممن يقولون ما يفعلون - وقليل ما هم - في أجيالنا المعاصرة، يدقون نواقيس الخطر لأبناء هذه الأمة الواحدة، سواء أن كان هذا الخطر في الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد على السواء، وقد يسأل سائل ماذا تعني بالأمة الواحدة؟
وأجيب هي الأمة التي ينطق أو يكتب أبناؤها بلغة الضاد - لغة القرآن الكريم -، مع إحساس كل شخص من أبناء هذه الأمة بالإنتماء إليها والعمل على علو شأنها، أيا كان بعد ذلك دينه أو بلده أو جنسه أو لغاته الأخرى، فالمسلم في إندونيسيا وماليزيا وباكستان والهند وتركيا وإيران والصين ينطق بالعربية في صلواته اليومية والمسيحي في مصر والشام يتحدث بالعربية مع أهله وهو مهاجر في أستراليا والولايات المتحدة وكندا وأمريكا الجنوبية، ويتألم أشد الألم لما يعانيه إخوانه الفلسطينيون المسيحيون منهم قبل المسلمين في الأراضي المحتلة، هؤلاء جميعا من أبناء أمتنا الواحدة، وما أقوله ليس اجتهادا مني ولكنه حقيقة أثبتتها وسجلتها الأحداث التاريخية، فعندما جاء الصليبيون في القرون الوسطى، من أوربا طمعاً في خيرات الشرق، وبحجة حماية الأماكن المقدسة في فلسطين ذاق منهم مسيحيو الشام الأمرين، لدرجة أن عددا لا بأس به من مسيحي الشام ومصر كانوا في مقدمة صفوف جيش صلاح الدين الأيوبي المحرر للقدس وما تبعها من إمارات صليبية أخرى في الشام، وغير ذلك من الأحداث التاريخية الحديثة والقديمة على السواء والتي اتحدت فيها عناصر هذه الأمة على اختلاف دياناتها وأجناسها ضد الطامع الأجنبي.
إنني لمدرك أن هناك من سيقرأ هذا الكتاب ويتفق معي في الرأي فيما أقول، وكذلك في الطريقة التي اتبعتها في عرض أفكاري وآرائي، وكذلك سيكون هناك من يختلف معي في كل ذلك أو في بعض منه، قد يجد البعض أنني أقص بعض القصص أو المواقف الدينية أو التاريخية أو الرمزية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية لتأكيد معنى ما أو مفهوم من مفاهيم تأكيد الذات، وقد أذكر موقفاً أو مرحلة حياتية من حياة بعض الأشخاص الذين رأيتهم أو جلست معهم خلال حياتي المهنية كطبيب نفسي، وقد يشبه هذا الموقف أو المرحلة الحياتية جزءاً من حياتك فلا تظن أنه أنت، فالدنيا بأكملها مسرح صغير يتشابه ما يُعرض عليه من قصص البشر، وكما قيل فالتاريخ يُعيد نفسه، وفائدة التاريخ العظمى أنه عبرة وعظة لمن يعتبر فقط!!.
يقول تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يُفترى"َ[يوسف: 111]، والعاقل من يتعظ بغيره، والأحمق من يتعظ بنفسه، فيكرر مثلاً خطأ قاتلاً كي يجرب ويعيش التجربة فتكون نهايته هي الموت المحقق لأنه لم يتعظ بغيره!.
وقد يختلف البعض معي لكثرة استشهادي بآيات القرآن الكريم وأحاديث رسولنا الكريم صلّ الله عليه وسلم وقصص سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين (وكأنه كتاب دين وليس كتاباً هدفه بث بعض مفاهيم علم النفس الغربي!!)، وبأبيات الشعر العربي أيضاً، وبأمثال الشعوب أحياناً، ولكن ذلك هو أنا، وذلك الخليط من الأفكار - التي قد تبدو متباعدة أحياناً - يجد فيه من يجهد فكره قليلاً خيطاً رفيعاً يربط دائماً بين تلك الأفكار المتباعدة، وغالباً ما يكون هذا الخيط الرفيع هو "فكرة من أفكار تأكيد الذات للحث عليها، أو فكرة تناقض تأكيد الذات لتجنبها"، وعلى كل حال، لن أرضى أن أكون إلا نفسي، ولن تكتب يدي إلا ما يقتنع به عقلي.
وقد يستفز البعض بعض المآسي التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية أو النفسية التي حاولت قدر استطاعتي التقليل من ذكرها في هذا الكتاب، وذلك من باب بث التفاؤل في نفوس الأجيال القادمة، وإشعال شمعة في الظلمات المتراكمة خير من الاكتفاء بسب الظلام.
وإعتقاداً مني كمسلم قبل أن أكون طبيباً نفسياً، فأنا مؤمن بقدرة القرآن الكريم على الشفاء، وهذا الشفاء عام، وليس معناه بالطبع ترك التداوي بالوصفات الطبية واستشارة الطبيب المختص، لأن رسولنا الكريم صلّ الله عليه وسلم أمرنا بالتداوي فقال صلّ الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله، فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء إلا الهِرم".
ويتبع >>>>>>>>> الإصرار وأنت