تأكد الضعف الشديد للتصويت في انتخابات المرحلة الأولى لمجلس الشعب 2015م, وصور اللجان كانت كاشفة بما لا يدع مجالا للشك, ولن تتغير الصورة بتصريحات بعض المسئولين عن نسب مشاركة لا يؤيدها الواقع, بل من المفيد جدا عمل قراءة موضوعية للأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة ومحاولة معالجة هذه الأسباب كلما أمكن ذلك. ومن المفيد أيضا التوقف عن لوم الناس على عدم نزولهم, فنزولهم أو عدم نزولهم موقف له اعتباره وهو جزء من التعبير السياسي.
نحن فعلا أمام حالة شعبية تستدعي الانتباه والتحليل النفسي والاجتماعي والسياسي لمعرفة الأسباب والدوافع, والتي يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1 – لم يجد الناس في المرشحين ما يحمسهم على النزول فغالبية المرشحين ينتمون للحزب الوطني القديم الذي أفسد حياتهم سنوات طويلة وقامت ثورة لإسقاطه وصدر حكم قضائي بفساده . أما بقية المرشحين فإما أنهم مجهولين أو باهتين أو غير مؤثرين أو منتمين لرجال الأعمال والمليارديرات , ولا يتوقع الناخب منهم دفاعا عن مصالحه بل يتوقع منهم دفاعا عن مصالحهم والتي هي ضد مصالحه.
2 – المرشحون كلهم لون واحد وإن تعددت أسماؤهم أو الأحزاب التي ينتمون إليها, وكلهم محسوبون على النظام ومؤيدين له بشكل أو بآخر.
3 – الأحزاب هشة وورقية وكثير منها مصنوع في غرف الجهات الأمنية, وليس لهم قواعد شعبية ولم يشعر الناس بوجودهم في أي أزمة تعرضوا لها, بل لم يسمعوا عنهم إلا في معرض صراعاتهم الداخلية على المراكز القيادية داخل الحزب.
4 – لا توجد معارضة حقيقية سواء في القوائم أو المستقلين, والمعارضة هي التي تعطي لون وطعم وفاعلية ومغزى لأي انتخابات.
5 – استبعاد الشباب من الخريطة السياسية في سنوات ما بعد الثورة, والشباب يشكل عدديا 30% من الكتلة السكانية, ويشكل أهم من ذلك فاعلية وحيوية ونشاطا يفوق هذه النسبة العددية. والشباب يشعر بإحباط شديد وهو يرى رموز الثورة المضادة تعود للظهور بكثافة في كل مكان بعد ثورة يناير التي دفع فيها الكثير من جهده وفكره ودمائه وشدائه وكان يحلم أن تتغير حياته ولكنها تغيرت للأسوأ, بل إن الكثيرين من رموزهم ما زالوا خلف القضبان.
6 – استبعاد تيار الإسلام السياسي من الخريطة السياسية ومن الانتخابات, وهو تيار سواء اتفقت أو اختلفت معه له قواعد واسعة في المجتمع المصري, وكان من المفترض لو سمح له بالظهور أن يشكل معارضة حقيقية للنظام ويشكل حيوية وحركة في الانتخابات ويجذب أعدادا كبيرة من مؤيديه إلى لجان الانتخابات ويحفز التيارات الأخرى على الحركة والنشاط لمواجهته.
7 – حالة الجفاف أو الموات السياسي التي سادت المجتمع حيث بدا أن ممارسة السياسة غير مسموح بها إلا في الإطار الذي تحدده الدولة وهو إطار التأييد والمبايعة والتفويض, وأن أي معارضة ستكون موصومة بالعمالة أو التبعية لأعداء الوطن أو الموالاة للإخوان.
8 – الأداء الإعلامي أحادي الرؤية والرأي, والذي بدا وكأنه نشرة حكومية لا تخرج عن الحشد والتأييد والتسويق والتحريض من خلال رموز إعلامية مكروهة شعبيا أو على الأقل مشكوك في مصداقيتها فهي قد تورطت في تأييد أنظمة متعددة ومتتالية رفضها الشعب وهي تتلون مع الأحداث بلا مبادئ أو ثوابت. هذا الأداء الإعلامي الإلحاحي والأحادي والتأييدي (عمال على بطال) أحدث حالة من التشبع الزائد ثم المقاومة ثم الرفض. وقد حدثت حالة من الغرور الإعلامي لدى كثير من الإعلاميين حيث أحسوا أن الرأي العام تحت أيديهم وتحت أمرهم وأنهم يشكلون فكر ووجدان الجماهير, وأوحوا لأولي الأمر بذلك ويبدو أنهم صدقوهم, في حين أن الناس انصرفت عنهم وأعطتهم ظهرها فلم يعد لهم تأثير إلا على البسطاء وضعيفي الوعي من الناس, ولجأ أغلب الناس إلى الإعلام الإلكتروني والذي يشكل الآن الـتاثير الأوسع لديهم وخاصة الشباب. ولهذا حين خرج الإعلام ليقول للناس انزلوا وصوتوا لم يستمع لهم أحد وبدا ذلك الإعلام في وضع بائس.
9 – الوعود المتكررة للناس بتحسين أحوالهم الاقتصادية ثم لم يجد الناس على أرض الواقع إلا ارتفاع أسعار البنزين والكهرباء والمياه وسائر السلع وارتفاع الضرائب والضغط على الفقراء بينما الأغنياء لم يمسهم أي شيء.
10 – لم تعد الكلمات الحانية والعبارات العاطفية تقنع الناس وقد وجدوا أنها لا تنعكس حقيقة في واقعهم.
11 – كان تقدير كثير من الناس – كما بدا في تعبيراتهم – على مواقع التواصل الاجتماعي أن البرلمان القادم لن يتعدى كونه ديكورا سياسيا, أو وردة في جاكتة السلطة التنفيذية, وأنه جئ به على مضض ليقر الأعداد الكبيرة من القوانين التي صدرت في الشهور الأخيرة دون تفحص أو نقد, وليقر ما يملى عليه بعد ذلك من قوانين لمصلحة السلطة أو لمصلحة رجال الأعمال والمقاولين والمليارديرات الذين جاءوا بالأعضاء لتحقيق مصالحهم.
12 – حالة الخمول السياسي العام والإحباط نظرا للتوقعات الكبيرة بعد الثورة والتي لم تتحقق بل حدثت حالة من النكوص السياسي والاجتماعي ليعود نموذج المرحلة الناصرية في السياسة والإعلام .
13 – وجود معارضة صامتة ذو مساحة عريضة يغطي عليها الإعلام, ويكتفي بإظهار المؤيدين من التيار الليبرالي والعلماني ومن الفنانين ومن الخبراء الأمنيين, وهؤلاء ليس لهم جذور أو قواعد شعبية. وهذه المعارضة الصامتة بدأت في الظهور منذ انتخابات الرئاسة ولكن كان هناك إصرار على تجاهلها حتى أطلت برأسها بقوة في انتخابات برلمان 2015م. وهذه المعارضة تمارس نوعا من العدوان السلبي وصمت العناد والتجاهل ونوع من العصيان المدني, وهي لا تملك غير ذلك حيث أغلقت في وجهها كل منافذ التعبير الإعلامي والظهور الجماهيري. وهذه المعارضة الصامتة تزداد مساحتها يوما بعد يوم على الرغم من أنها غاطسة تحت السطح السياسي والإعلامي.
14 – وجود بطانة حول الرئيس حجبت عنه حقيقة الأمور, وأوحت بتأييد مطلق له من سائر طوائف الشعب, وأظهرته كقديس لا يخطئ وكزعيم أوحد وكمنقذ وكأسطورة وكملهم ورفعته فوق مستويات البشر ولم تسمح بنقده أو مراجعته, وهذا شكل سياقا سياسيا أثر بالسلب على صورته وعلى شعبيته. فالحقيقة أن الرئيس (كأي بشر) يصيب ويخطئ, وأن ثمة معارضة واسعة موجودة على الأرض ولكنها محجوبة إعلاميا (كما أن له مؤيدين ومحبين), وهذا يشكل خطأ في الإدراك وفي التعامل مع هذه المعارضة, ويشكل حاجزا بين السلطة والشعب يخسر بسببها الجميع.
15 – تغلغل وتدخل الجهات الأمنية في تشكيل الواقع السياسي وفي توجيه الأفراد والأحزاب وفي ضبط إيقاع الحياة طبقا للاعتبارات الأمنية وحدها, وقد أحدث هذا نوع من الاختناق والموات السياسي .
كانت هذه بعض وليس كل الأسباب وراء العزوف الانتخابي نرجو أن يتأملها أولي الأمر بموضوعية وتعقل, وأن لا يستمعوا للمهللين والمبالغين والآكلين على كل الموائد فمصير الوطن لا يحتمل هذا الهراء بل يحتاج لصدق الرؤية وإخلاص النصيحة وسلامة التوجه مهما كانت مرارة الحقيقة.
واقرأ أيضًا:
انتبه.. العربة تجنح يسارا (2 من 2)/ أنا السيسي/ مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد!/ الدم الرخيص