تحتاج الصداقة للتواضع وأداء الواجب
الفصل السابع عشر
ليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتا متفرقين، بل إن الدواعي القائمة على المنطق الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم على البعض وتمهد لهم مجتمعا متكافلاً تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض، والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ليجعل من هذه الرحم الواحدة ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق.
"يَا أيُهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم، إنَّ اللهَ عَلْيمٌ خَِبيرٌ" سورة الحجرات الآية 13.
فالتعارف –لا التنافر– أساس العلائق بين البشر، وقد تطرأ عوائق تمنع هذا التعارف الواجب من المُضي في مجراه، وإمداد الحياة بآثاره الصالحة، وفي زحام البشر على موارد الرزق، وفي اختلافهم على فهم الحق وتحديد الخير قد يثور نزاع، ويقع صدام، بيد أن هذه الأحداث السيئة لا ينبغي أن تنسي الحكمة المنشودة من خلق الناس وتعمير الأرض بجهودهم المتناسقة.
وكل رابطة توطد هذا التعارف، وتزيح من طريقه العوائق، فهي رابطة يجب تدعيمها والانتفاع بخصائصها، وليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب، ولكنه جملة الحقائق التي تقرر الأوضاع الصحيحة بين الناس وربهم، ثم بين الناس أجمعين.
ومن ثمً فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التي شرح الله بها صدورهم، وجمع عليها أمرهم، وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية و إعزاز، إنه تعارف يجدد ما درس من قرابة مشتركة بين الخلق، ويؤكد الأبوة المادية المنتهية إلى آدم عليه السلام، مما يؤلف بين أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم من أبناء الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم –على اختلاف الأمكنة والأزمنة– وحدة راسخة الدعامة عالية البناء، لا تنال منها العواصف الهوجاء. وهذه الأخوة هي روح الإيمان الحي، ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه، حتى إنه ليحيا بهم ويحيا لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من شجرة واحدة.
إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان و غول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على امرئ محقت خيره، ونمَّت شره، وحصرته في نطاق ضيق خسيس، لا يعرف فيه إلا شخصه ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير أو شر. أما الدنيا العريضة، والألوف المؤلفة من البشر، فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه عن طريقهم ليحقق آماله أو يثير مخاوفه.
وقد حارب الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة، وأفهم الإنسان أن الحياة ليست له وحده، وأنها لا تصلح به وحده، فليعلم أن هناك أناسا مثله، إن ذكر حقه عليهم ومصلحته عندهم، فليذكر حقوقهم عليه، ومصالحهم عنده، وتذكٌر ذلك يخلع المرء من أثرته الصغيرة، ويحمله على الشعور بغيره حين يشعر بنفسه، فلا يتزيد ولا يفتئت.
من حق أخيك عليك أن تكره الضرر له، وأن تبادر إلى دفع ذلك الضرر، فإن مسه ما يتأذى به شاركته الألم، و أحسست معه بالحزن، أما أن تكون ميت العاطفة قليل الاكتراث، لأن المصيبة وقعت بعيدا عنك، فالأمر لا يعنيك، فهذا تصرف لئيم، وهو مبتور الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التي تمزج بين نفوس المسلمين فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه، مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثلُ المُؤمِنينَ في توادِهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الأعضاءِ بالسهرِ والحُمّى"- أخرجه البخاري ومسلم.
يُروى أن أحد العامة سب سيدنا علي بن أبي طالب أمام سيدنا سعد بن أبي وقاص بعد وفاة سيدنا علي رضي الله عنهما، فغضب عليه سيدنا سعد رضي الله عنه قائلا: "لا تسب أخي". فمن حق الأخ على أخيه أن يرد غيبة أخيه حياً وميتاً؛ كما فعل هنا سيدنا سعد ورد على من يسب سيدنا علي، رضي الله عنهما. والتألم الحق هو الذي يدفعك دفعا إلى كشف ضوائقِ إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول غمتها، وتدبر ظلمتها، فإذا نجحت في ذلك استنار وجهك واستراح ضميرك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المُسلِمُ أخو المُسلِمُ لا يَظلِمُهُ ولا يُسلِمُه، ومَنْ كَان في حاجةِ أَخيه كانَ اللهُ في حَاجتِه، ومَنْ فَرَّجَ عن مُسلِمٍ كُربةً، فرَّجَ اللهُ عَنهُ بِها كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامة، ومَن سَترَ مُسلِماً سَتَرَهُ اللهُ يومَ القيامةِ"- أخرجه البخاري ومسلم. ومن علامات الأخوة الكريمة أن تحب النفع لأخيك، وأن تهش لوصوله إليه، كما تبتهج بالنفع يصل إليك أنت، فإذا اجتهدت في تحقيق هذا النفع فقد تقربت إلى الله بأفضل العبادات وأجزلهـــا مثوبة.
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان مُعتَكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس، يا فلان أراك مكتئبا حزينا
قال: نعم يا ابن عم رسول الله، لفلان عليَّ حق، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه!!.
قال ابن عباس: أفلا أُكلِّمه فيك؟
قال: إن أحببت.
قال: فانتعل ابن عباس، ثم خرج من المسجد فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب ودمعت عيناه– يقول:"من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد ما بين الخافقين". وفي رواية "كُلُ خندقٍ أبعدُ مما بينَ الخَافِقين"- أخرجه البيهقي. وهذا الحديث يصور إعلاء الإسلام لعلائق الإخاء الجميل، وتقديره العالي لضروب الخدمات العامة التي يحتاج إليها المجتمع لإرساء أركانه وصيانة بنيانه.
لقد آثر ابن عباس رضي الله عنهما أن يدع اعتكافه، والاعتكاف عبادة محضة رفيعة الدرجة عند الله، لأنها استغراق في الصلاة و الصيام والذكر، ثم هو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يضاعف الأجر ألف مرة فوق المساجد الأخرى، ومع ذلك فإن فقه ابن عباس رضي الله عنهما في الإسلام جعله يدع ذلك ليقدم خدمة إلى مسلم يطلب العون: هكذا تعلًم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أعباء الدنيا جسام، والمتاعب تنزل بالناس كما يهطل المطر فيغمر الخصب والجدب. والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد، ولئن وقف إنه لباذل من الجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه هرعوا لنجدته، وظاهروه في إنجاح قصده، وقد قيل: "المرءُ قليلٌ بنفسِه كثيرٌ بإخوانِه". ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء وأن قوته لا تتحرك في الحياة وحدها، بل أن قوى المؤمنين تساندها وتشد أزرها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيان يشُدُ بعضُه بعضاً" – أخرجه البخاري.
ومن ثم كانت الأخوة الخالصة نعمة مضاعفة، لا نعمة التجانس الروحي فحسب، بل نعمة التعاون المادي كذلك. وقد كرر اللهُ عز وجل ذكر هذه النعمة مرة ومرة في آية واحدة [واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلْيكُم إِذْ كُنْتُمْ أعدَاءً فَألَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصْبَحتُم بِنِعمَتِهِ إخْوَاناً] (آل عمران 103).
وأخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر العصبيات العمياء، بل تناصر المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل وردع المعتدي وإجارة المظلوم، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده في معترك، بل لا بد من الوقوف بجانبه على أي حال لإرشاده إن ضل، وحجزه إن تطاول، وكفه عن ظلم الآخرين إن وقع منه ذلك، ومنعه من الاستيلاء على حقوق الآخرين إن رأيناه يفعل ذلك، وفي نفس الوقت الدفاع عنه إن هوجم، والقتال معه إذا استبيح، وذلك معنى التناصر الذي فرضه الإسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُنصُر أخَاكَ ظالِماً أو مَظلوماً"
قال:"أنصُرهُ مَظلوماً، فكيفَ أنْصُرهُ ظَالِماً؟"
قال: "تَحجِزَهُ عَن ظُلمِهِ، فذلِكَ نَصرُهُ"- أخرجه البخاري.
يتبع >>>>>>>>>>> المخدرات وتدمير العلاقات الاجتماعية