يمر العالم هذه الأيام بظروف استثنائية لم يشهد لها مثيل منذ أكثر من ١٠٠ عام. لم تتوقف معاهد التعليم والخدمات الاجتماعية عن العمل أيّام الحروب العالمية والإقليمية، ولكن جميع الخدمات الآن متوقفة منذ أن انتشر وباء فيروس كورونا عالمياً منذ ما يقارب الشهرين. الفيروس ينتشر بسرعة، والإجراءات المتشددة ضرورة لابد منها الآن للحد من انتشار الفيروس وفتكه بغير المحصنين من الناس بسبب أمراض مزمنة أو غيرها.
منذ أقل من أسبوع هناك أكثر من ٢٠٠ من التجارب العلمية والسريرية في جميع أنحاء العالم لدراسة دور العقاقير في علاج هذا المرض، وهذا الرقم لا سابقة له خاصة أن الفيروس لم يكن معروفاً للعلماء إلا منذ فترة قصيرة. في نفس الوقت أي علاج يساعد في تقصير مدة المرض ومضاعفاته يساعد على تخفيف الزخم على الخدمات الصحية التي اجتاحها الفيروس فجأة. هذا ما حدث في الصين وإيران وإيطاليا وأخيراً إسبانيا. على حد قول أحد الاختصاصيين تقصير مدة ركود المريض في المستشفى من ٢٠ إلى ١٥ يوماً خطوة هائلة في محاربة هذا المرض.
عائلة كورونا CORONA
عائلة كورونا من الفيروسات ليست جديدة، وتم اكتشافها في الستينيات، والعاملون في الطب البيطري أكثر معرفةً من غيرهم بها، لأنها تصيب العديد من الثدييات والقطط والطيور. هذا الفيروس أشبه بلغم يتم استعماله في الحروب البحرية، ويشبه تاج ملكي، ومنذ تلك الأيام تم تسميته بالفيروس التاجي Corona Virus هناك أكثر من أربعين عضواً لهذه العائلة من الفيروسات.
الحقيقة أن هناك من أعضاء عائلة كورونا ما تسبب نزلات برد وزكام في الإنسان، وهذا العدد يقارب ١٥٪ من الحالات. جميع هذه النزلات كانت حميدة ولم تثر اهتمام علماء الفيروسات إلا في عام ٢٠٠٢ حيث اندلع وباء SARS في غواندونغ Guangdong والاسم مشتق من مصطلح متلازمة الضائقة النفسية الحادةAcute Respiratory Distress Syndrome . في ذلك الوقت اكتشف العلماء بأن الفيروس قفز من الخفاش المعروف خفاش حدوة الحصان عن طريق وسيط آخر من الحيوان إلى الإنسان. راح ضحية هذا الوباء يومها ما يقارب ٨٠٠ إنسان، وحذر الكثير بأن هذه العائلة من الفيروسات قادرة على اقتحام جسد الإنسان. اختفى الوباء ولم يبالي أحد بعمل دراسات لعلاج هذه الفيروسات، وكان معظم التركيز على علاج فيروسات الإيدز AIDS. حين ظهر وباء كورونا الجديد كان اسم الفيروس هو SARS-COV2 لأنه يشبه الفيروس القديم، غير أن هذا العضو الجديد سريع الانتقال بين البشر وتمت تسميته بـ COVID-19 حيث ظهر في عام ٢٠١٩. بدأ الفيروس ينتشر بسرعة وتضاعف العدد مؤخراً في غضون أيّام، ولكن العالم وجد نفسه بدون عقار لعلاجه.
تشريح الفيروس
من الناحية التقنية فيروس كورونا جزيئة نسميها فيريون Virion حجمها لا يزيد على ٩٠ نانومتر Nanometre وهذا يعادل واحد من مليار متر. المدهش من ذلك أن حجم هذه الجزيئة لا يزيد على واحد من مليون حجم الخلايا الرئوية الذي يقتحمها.
يحتوي الفيروس على أربع بروتينات مختلفة وشريط من الحمض النووي الريبي RNA والذي بدوره جزيئة تشبه الحمض النووي المعروف بـ DNA. هذا الشريط يخزن المعلومات الجينية على شكل تسلسل من الحروف الكيمائية التي نسميها نيوكليوتيدات Nucleotides. من ضمن هذه المعلومات التي يحملها الفيروس هي عملية تصنيع جميع البروتينات التي يحتاجها من أجل عمل نسخ إضافية من نفسه بدون نقل هذه المعلومات من خلية إلى أخرى.
يجلس البروتين الخارجي على أغشية دهنية تم تصنيعها من قبل الخلية التي يسكن فيها الفيروس. هذا الغشاء الدهني يتكسر بسهولة بالماء والصابون ومن هنا يأتي مصدر التعليمات الصحية التي توصي بغسل اليدين وتنظيف الأثاث المنزلية.
البروتين الخارجي البارز نسميه مسمار بروتيني Spike وهو وراء تسمية الفيروس بالتاجي. هناك أيضاً غلاف بروتيني أشبه بمظروف بريدي وآخر غشائي ووظيفتها توفير السلامة الهيكلية للفيروس تماما كما هو الحال في البناء الذي يتم تشييده على أرض الواقع. هناك بروتين رابع أشبه بسقالة نسميه نيوكليوكابسيد Nucleocapsid الذي يلتف حوله 29900 نيكليوتيدات الحمض الريبي RNA.
الفيروس داخل الخلية
الخلايا الحية تخزن جيناتها في الحمض النووي المعروف بـ DNA ولكنها تستعمل الحمض النووي الريبي RNA لنشاطات أخرى وأحدها نقل المعلومات من جينات DNA إلى مكائن الخلية خارج النواة لصناعة البروتينات. أما بعض الفيروسات فأمرها غير ذلك وتخزن المعلومات الجينية في الحمض النووي الريبي وتستغل نواة الخلية لعمل نسخ منها في داخل الخلية تحتوي على DNA وتستوطن بعد ذلك نواة الخلية. هذا بالضبط ما يحدث مع فيروس الإيدز AIDS الذي يستوطن الخلايا ويستعمرها لأعوام عدة.
أسلوب فيروس كورونا يختلف عن أسلوب فيروس الإيدز وأكثر بساطة، حيث تم تنسيقه ليشبه الحمض النووي الريبي الناقل Messenger RNA الذي ينقل المعلومات من النواة إلى ماكينات الخلية. سرعان ما يدخل الخلية يبدأ بإرسال معلومات إلى مكائن الخلية لصنع البروتينات التي يحتاجها.
اقتحام الفيروس للخلية
الاتصال الأول بين فيروس كورونا والخلية يتم عبر المسمار البروتيني والتصاقه ببروتين على سطح الخلية الرئوية المعروف بـ ACE-2. هذا البروتين هو إنزيم تحويل أنجيوتونسين Angiotensin Converting Enzyme الذي يتحكم بتنظيم مستوى ضغط الدم في جسم الإنسان. هذا البروتين أكثر انتشاراً على سطح خلايا الرئة وهو أشبه بقارورة تناسب القفاز الذي يحمله الفيروس الذي نسمه مسمار. هذا ما يفسر خطورة العدوى في المصابين بارتفاع ضغط الدم (وكذلك السكري وأمراض القلب).
يلتصق الفيروس بالخلية وسرعان ما يحدث ذلك ويستجيب له بروتين آخر على سطح الخلية نسميه ُTransmembrane Protease TMPRSS2 الذي يخضع لإرادته. البروتين الأخير مهمته تقطيع البروتينات بشكل متساو وبالتالي يقتطع المسمار كما يتم فتح السنبلة. عند ذاك يدخل الفيروس داخل الخلية.
الفيروسات التاجية تختلف عن بقية الفيروسات بأن شريط حمضها الريبي أطول من غيرها حيث أن طولها أطول من فيروس الإيدز بثلاث مرات ومرتين مقارنة بفيروس الإنفلونزا. لكن طوله لا يزيد على نصف طول فيروس إيبولا Ebola. ربما هذا يفسر لماذا فيروس إيبولا أكثر فتكاً من فيروس كورونا.
شريط جينات فيروس كورونا يحتوي على جينات لصناعة أربع بروتينات هيكلية وثمانية جينات لصناعة بروتينات تبعية Accessory وظيفتها هو تثبيط دفاعات المضيف لها. هذه الجينات أجمعها لا تشكل أكثر من ثلث مركب الجينات للفيروس. أما البقية فهو جينات مهمتها إنتاج نسخ من الفيروس ونسميها مركب الاستنساخ Replicase Complex.
خلية الإنسان لا مصلحة لها ولا آلية لعمل نسخ إضافية متكررة من الحمض الريبي، ولذلك لابد للفيروس أن يحمل عدته وماكينته للاستنساخ. يعمل مركب الاستنساخ على إنتاج بروتينات كبيرة يتم تقسيمها إلى ١٦ بروتين صغير نسميها بروتينات غير هيكلية مهمتها فقط الاستنساخ.
تبدأ صناعة الحمض النووي الريبي والبروتينات الهيكلية ويتم تغليفها بنسخ من بروتينات نيوكليوكابسيد، واستعمال فضلات البروتينات الثلاثة الأخرى التي تم التطرق إليها أعلاه. المظروف البروتيني والغشاء البروتيني يتم صناعتها في داخل أجسام كولجي التي هي أشبه بمصنع إنتاجي داخل الخلية. عند ذاك يتم إنتاج ما بين مائة إلى ألف فيروس جديد يخرج من الخلية ليهاجم خلايا أخرى.
التعامل مع فيروس كورونا طبياً
أولا هناك الدفاع عن الجسم ومنع العدو من اقتحام خلايا الجسم. التنظيف بأنواعه وغسل اليدين يؤدي إلى تدمير غشاء الفيروس الدهني ويقضي عليه قبل أن تسنح الفرصة له باقتحام الجسم. بالطبع يجب على الإنسان الالتزام بتعليمات الصحة العامة والتباعد الاجتماعي لأن هناك من يحمل الفيروس وينقله إليك وهو غير مصاب بأعراض تذكر.
الخطوة الثانية هي إدراك علامات ضعف جهاز المناعة. فعالية جهاز المناعي تتدهور مع تقدم العمر وإصابة الإنسان بأمراض مختلفة. على ضوء ذلك يجب عدم الاقتراب من كبار السن وعزلهم من الآخرين قدر الإمكان وفي نفس الوقت ضمان تلبية احتياجاتهم المختلفة وبصورة تضمن التباعد الاجتماعي. مسافة ٢ متر بين إنسان وآخر في غاية الأهمية. يجب على كل إنسان يستعمل عقاقير تتحكم بجهاز المناعة أن يعزل نفسه. الفيروس يستعمل بروتينات تتحكم بضغط الدم ومتوفرة بكثرة في الرئة، ولذلك كل من هو مصاب بارتفاع ضغط الدم يجب أن يحذر ومن الأفضل يعزل نفسه.
تأخر البحث عن عقاقير تفسد هذا الفيروس بسبب نهاية وباء SARS عام ٢٠٠٢ تلقائيا. العقاقير التي يمكن أن تقضي على الفيروس يجب أن لا تتداخل مع الأداء الطبيعي للخلايا. تستهدف العلاجات تدمير عملية استنساخ الحمض النووي الريبي كما هو موضح أعلاه ويتم ذلك عن طريق ما نسميه نظائر نيوكليوتايد Nucleotide Analogues. تحتوي هذه النظائر على أحرف مشابهة لتسلسلات الحمض النووي ولكن حين يستعملها الفيروس تفسد أموره. العقار الذي يثير اهتمام الطب هو Remdesivir الذي تم اختراعه أصلاً لعلاج وباء إيبولا. بعد ذلك تم اكتشاف الأجسام المضادة للفيروس وتم استعمالها بصورة فورية في الوقت الذي كانت بحوث سلامة استعماله في الإنسان في بدايتها. توقفت البحوث حول هذا العقار ولكن البحوث المختبرية أثبتت بأنه قادر على تدمير عملية استنساخ فيروس كورونا. نتائج البحوث العلمية في استعماله طبياً في الإنسان المصاب بفيروس كورونا قد تظهر منتصف الشهر القادم.
الجيل الثاني للعقاقير المضادة للإيدز تستهدف إنزيم بروتيز وتسمى مثبطات البروتين الذي يقص البروتينات الكبيرة كما هو موضح أعلاه إلى بروتينات صغيرة. عقار كاليترا Kaletra هو خليط من عقارين وهما Ritonavir & Lopinavir. استعمال هذا الخليط أظهر إلى بعض الفوائد مع وباء SARS عام ٢٠٠٣ ولكن النتائج عن استعماله في الصين وإيطاليا غير مشجعة ولا أحد يوصي باستعماله في الوقت الحاضر.
استعمال عقار هيدروكسيد كلوركوين Hydroxychloroquine يعود تاريخه إلى عام ٢٠٠٣ في قابليته منع الفيروس الدخول إلى الخلية وتثبيط أجسام كولجي التي يستخدمها الفيروس للتكاثر عن طريق تغيير حموضة هذه الأجسام.
عقار Favipiravir تم استحداثه لعلاج إنفلونزا ويمنع الفيروس من صناعة-مرض نووي ريبي. هناك عقار كاموستات ميساليت Camostat Mesylate فعالية بروتين TMPRSS2 الذي يستغله الفيروس لدخول الخلية، وهذا العقار يتم استعماله في الأمراض الخبيثة.
العقاقير تستهدف أيضاً مساندة جهاز المناعة وأحدها هو إنترفيرون Interferon الذي يمنع إنتاج بروتينات جديدة وتثبيط عملية تكاثر الفيروس. تم استعماله أيضاً ضد SARS.
إحدى مشاكل الإصابة بفيروس كورونا هي ارتفاع فعالية جهاز المناعة مما يؤدي إلى رد فعل التهابي يؤثر سلبيا على جميع أجهزة الجسم. رد الفعل هذا يتم عن طريق جزيئة اسمها Interleukin 6K وعقار Tocilizumab هو جسم مضاد يستهدف هذه الجزيئة. العقار تم اكتشافه لعلاج التهاب المفاصل الروماتويدي Rheumatoid Arthritis وتم تصريح استعماله في الصين ونتائج الدراسات الإيطالية تشير إلى تحسن بعض المرضى مع استعماله. الجدول أدناه يوضح موقع العقاقير.
العقار | موقعه الحالي | آلية العمل | موقعه في التجارب |
Choloroquine | مضاد ملاريا | تثبيط إنزيمHeme_polymerase | تحت الدراسة |
Kaletra | علاج إيدز | تثبيط Protease | تحت الدراسة |
Interferon | علاج التهاب الكبد | تعديل المناعة | تحت الدراسة |
Remdesivir | تحت التجربة | نظائر نيوكليوتايد | تحت الدراسة |
Favipiravir | إنفلونزا | تبيط إنزيم RNAPolymerase | تحت الدراسة |
Tocilizumab | علاج كورونا | مضاد التهاب | مصرح به |
Sarlumab | علاج التهاب المفاصل | مضاد التهاب | ستتم دراسته |
العلم لن يتوقف عن مواجهة فيروس كورونا ولابد من الالتزام بتعليمات الصحة العامة ورفع الثقة بالمؤسسات الصحية لرعاية المصابين وحماية الجميع.
واقرأ أيضاً:
ألف باء فيروس كورونا آلية المرض / فيروس كورونا ملاحظات طبية عامة / ستون يوماً على فيروس كورونا2