طيلة الحجر قامت ضجّة حول إغلاق المساجد وترك غيرها من المصالح مفتوحة. ثم بعدَ التخفيف فُتحت المقاهي والأسواق وتأخرّ قرار فتح المساجد إلى ما قبل بضعة أيّام من الآن...كنتُ أسمعُ كلاما مثل: "باغين غير السبّة في المساجد".. "حلّو القهاوي وما بغاوش يحلو المساجد".. "كورنا غير في دون العبادة"...ومثلها من الأقوال التي تتّهم الحكومة وفقهاءَها بالتآمر أو وضع دور العبادة في آخر الأولويات.
خلف هذه التعليقات عقلية لطالَما سمعناها ممّن يتكلم في الدين أو يعظ بخصوصه بعض الأفراد، فانتقلت من الأفراد للحكومة... هذه الاتهامات تدور مدار التفريط و"إيثار الدنيا على الدين"، مظاهِر هذا الإيثار تبدو مشبوهة عند الكثير من الناس والمتدينين خصوصا، ويحِيكون حولَها الكثير من المغالطات والسفسطة التي تناقض أبسط مبادئ المنطق.
فتسمعهم يقولون مستنكرين:
- "من أجل المطر لا تريد أن تصلي في المسجد لكن إن أحتجت خبزا خرجتَ لتجلبَه!"
- "تجلس مع حبيبتك بالساعات فلا يؤلمك ظهرك، فلما تصلي بين يدي الله تشكو من طول الركعات!"
- تفتح المصالح العامة والأسواق ولا تفتح المساجد...
كل هذه التعليقات قائمة على فكرة التفاضل الزائف الذي يُقيمُه الكثير من المسلمين بين ما لا يتفاضل أصلا، وأيضا الخلط بين القيمة الواقعية للشيء والقيمة الوجدانية لأشياء أخرى.
سأشرح باختصار، وضع مفاضلة ومقارنة بين الجلوس مع الحبيبة ومع الصلاة شيء تافه وغير واقعي، بدليل أنّ الشخص نفسُه قد يصوم لـ 12 ساعة ولا يشتكي، الصوم عبادة وطاعة كما الصلاة، بل ذلك الواعظ يختار مثال "جلسة في معصية مع حبيبة" ولا ينتبه أنّ جلسة رجل مع زوجته شبيهة بها! وقد يحاضِر شخص في الدعوة للدين ساعات أو يسعى في عمل خيري... فبماذا تختلف الصلاة إذن؟ ببساطة لأنّها طقْس يتطلب تركيزا كبيرا وعدم الحركة أو التململ أو تحريك اليدين أو الالتفات... كل هذا شيء متعب للعقل والجسد معا. لذلك إن قدرة الناس على الصبر عليها ضعيفة، عكس أن تقف مع أصدقائك تناقشهم لأكثر من ساعة وأنت تتحرك تضحك ذهنك محفّز في وضعية غير مركزة أو خاشعة، تململ جسدك وتحرك قدميك (مما قد يقلل الألم والضغط على مناطق معينة)... إلخ
كذلك قضية الخُبز أو الحاجيات الفردية أو الجماعية، المقاهي والأسواق ترتبط بها أرزاق الناس ومعيشتهم أما المساجد فلا!
وفوق كلّ هذا جُعلت الأرض طهورا ومسجدا، وقد تصلي في بيتك ولا تحتاج أن تخرج، فهل الخبز ستجده في بيتك؟ هل قوت يومك ستجده في بيتك؟ يعني كلّ هذه الضجّة والصلاة في البيت ممكنة بل هي الأصل لأنها عبادة فردية من الأساس! هذا بالنسبة للمفاضلة والثنائية الزائفة، أما بالنسبة للخلط بين القيمتين الواقعية والوجدانية، هناك منطق غريب عند الكثيرين، يفترض أنّه ما دام المسجد ذا قيمة روحية عالية، فهو قطعا أفضل وأولى من المقاهي والأسواق والمعامل وأمور الحياة الاعتيادية.
وواضح أنّ هذا منطق مرفوض تنفر منه النفوس، مع أنّ الناس تتقبله وتصفق له في الحوارات، لأنّهم يخافون من نظرات الناس إليهم، لكن في الحياة العملية يعملون بعكسه. منطق يتعامل مع المصالح والمنافع بنوع من الدّونية والتدنيس، ويريدون أن يضعوا مكانَها أمورا لا تُعوّضها أصلا.
ولن أفصّل في اختلاف المسافات بين المصلين في المساجد وبين المسافات في الأماكن الأخرى، وحدَه هذا الفرق قد يجعل البعض يتعقّل.
مثل ذلك الأحمق الذي أطعم حمارَه بقراءة قُل هو الله أحد في السلّة التي يأكل منها حماره ويقول "لعنة الله على من قال أنّ الشعير أفضل من قل هو الله أحد". فمات حمارُه جوعا!
أنا لا أدافع عن الحكومة ولا أريد أن يدخل معي أحد في متاهات "نذالة الحكومات" أو "جُبْن الفقهاء"، لأن المشكلة في العُمق ليست هُنا، بل في العقلية التي نتعامل بها في هذه المواقف.
واقرأ أيضاً:
عقلية التربّص للكوارث / الثقة بالكبار والتحرّش الجنسي بالأطفال