ربط الصرع بالطب النفساني1
الاضطرابات العضوية Organic Disorders
عند الحديث عن الاضطرابات العضوية الطبنفسانية في المصابين بالصرع فالموضوع يتعلق عموماً بالتدهور المعرفي الذي يصاحب الصرع نفسه. الظاهرة الأولى ما هو المعروف في الدراسات العلمية بأن هناك عجزا في أداء المصابين بالصرع من كبار السن في مختلف اختبارات الوظائف المعرفية مقارنة بغير المصابين بالصرع 6. هذا العجز يصبح أكثر وضوحاً مع استعمال عقاقير عدة لعلاج الصرع. ولعل أكثر الاختبارات السريرية استعمالاً في الممارسة المهنية هو قياس الذاكرة القصيرة الأمد Short Term Memory حيث أن أداء كبير السن المصاب بالصرع لا يختلف عن أداء المصاب بعجز معرفي خفيف Mild Cognitive Impairment MCI وهذا العجز يتفاقم مع استعمال أكثر من عقار واحد لعلاج الصرع. لكن الملاحظة الأهم من أعلاه هو اتفاق الدراسات على وجود عجز في الوظائف الإدارية حتى قبل استعمال العقاقير المضادة للصرع 7 .
الظاهرة الثانية التي ركزت عليها الدراسات هي النسيان الطويل الأمد المعجل Accelerated Long- Term Forgetfulness حيت يتم تشفير الذكريات بصورة طبيعية، ولكن لا يتم الاحتفاظ بها إلا لفترة لا تزيد على أيام أو بضعة أسابيع. هذه الظاهرة 8 كثيرة الملاحظة مع بؤرة صرعية في الفص الصدغي٬ وهذا ليس بالغريب إذا تذكرنا بأن الفص الصدغي هو عشر ذكريات الإنسان. هذه النسيان يتقدم أحياناً بسرعة في بعض المصابين لدرجة تعرقل أدائهم اليومي العملي والمهني. تتناسب هذه الظاهرة طردياً مع طول مدة الإصابة بالصرع٬ وقد تتأثر كذلك ويتم تلطيفها بما نسميه الاحتياطي المعرفي Cognitive Reserve للإنسان الذي يتم تقييمه بذكاء الإنسان٬ سنوات التعليم٬ وتعقيد العمل الذي يمارسه.
الظاهرة الثالثة التي غالباً لا يتم تشخيصها بسرعة هي فقدان الذاكرة الصرعي العابر Transient Global Amnesia حيث يتم ملاحظتها في كبار السن مع معدل عمر ٥٧ عاماً 9 . يستيقظ المريض ويعاني من فقدان الذاكرة لأحداث سابقة وعدم قدرته على الاحتفاظ بمعلومات في ذلك الوقت. بعبارة أخرى هناك فقدان ذاكرة تراجعي وتقدمي في ذات الوقت. غالبا ما يعاني المراجع من هلاوس شمية وأعراض تلقائية Automatisms تصاحب الصرع الجزئي مع بؤرة في الفص الصدغي. وتكرار هذه الظاهرة يؤدي إلى تدهور كفاءة الإنسان في إنشاء ذكريات جديدة.
الظواهر الثلاثة أعلاه توضح لنا مسار تدهور الأداء المعرفي في المصاب بالصرع. هذا المسار الذي يصل قد إلى عتبة الإصابة بالسبه (الخرف) يتوازى مع بقية البشر غير مصابين بالصرع ولكنه أسرع٬ وكذا هناك مسار ثاني معجل قد يحدث بسبب عوامل عدة تتعلق بالصرع نفسه٬ علاجه٬ وأخيراً الاضطرابات النفسانية المختلفة وعلاجها والمصاحبة للصرع. كذلك هناك من يعاني من إصابات الرأس الرضية المتكررة مع النوبات الصرعية التي تعجل بالتدهور المعرفي.
لا أحد يستعمل مفهوم الخرف الصرْعي هذه الأيام Epileptic Dementia ولكن العلاقة بين الصرع والخرف لا تقبل الجدال وأول من أشار إليها أحد رواد الأطباء في دراسة الصرع وهو كاورز Gowers في القرن التاسع عشر. ما يجب أن ندركه هو أن الصرع هو مرض شبكات الدماغ Brain Networks Disease وبالتالي تكثر ملاحظة أمراض الخرف معه. ويتم تعليل ذلك بأن آلية المرض الذي يسبب الصرع لا تختلف عن آلية المرض الذي يسبب الخرف. من جهة أخرى قد تؤدي النوبات الصرعية إلى تغييرات مرضية في أنسجة الدماغ نفسه. هناك دراسات تشير إلى أن بروتين كيناز المعتمد على سيكلين Cyclin Dependent Kinase 5 الذي يكثر تواجده في أنسجة دماغ المصاب بالصرع يكثر ملاحظته كذلك في الآفة الصرعية بالإضافة إلى كثرة ملاحظة بروتينات تاو Tau proteins المعروفة بعلاقتها بخرف ألزهايمر٬ في الآفات الصرعية 10 .
يمكن توضيح العلاقة بين الصرع والخرف من خلال النموذج أعلاه. هناك عوامل وعائية وعوامل الخرف والصرع متشابكة بعضها مع البعض الآخر. وهناك اللويحات والحبائك Plaques & Tangles الخاصة بالخرف والتي قد تجتمع أيضاً في البؤرة الصرعية. هناك عوامل وعائية تتعلق بنمط حياة المصاب بالصرع وتجنبه النشاط البدني٬ العقاقير المستعملة في علاج الصرع والاضطرابات النفسانية التي تؤدي بدورها إلى تغييرات كيمائية وتعجيل الإصابة بالمتلازمة الأيضية. اجتماع هذه العوامل كلها يوضح العلاقة بين الخرف والصرع وضرورة انتباه الطبيب إلى متابعة الحالة الصحية العامة لمراجعه.
الملاحظات والمصادر (الضغط على الواصل)
6- الأداء المعرفي للإنسان المصاب بالصرع أضعف من غيره. هذه الظاهرة أكثر ملاحظة في كبار السن ومع بداية الصرع في العقد السادس من العمر.
7- يتم تفسير ضعف الوظائف الإدارية الأمامية بتأثير العقاقير المضادة للصرع٬ وهي بلا شك تلعب دورها. ربما العقاقير الحديثة أقل تأثيراً من القديمة٬ ولكن في نفس الوقت أداء الغالبية العظمى من المراجعين لا يقل عن غيرهم.
8- هذه الظاهرة لا تقتصر فقط على الصرع والعوامل الوعائية قد تلعب دورها. رغم ذلك فإن علاج الصرع الثانوي في كبار السن قد يساعد في تدهور عدة من الوظائف المعرفية بسرعة. في نفس الوقت لابد من موازنة جميع العوامل في علاج المريض وخاصة تأثير العقاقير المضادة للصرع على الوظائف المعرفية.
9- قد يكون مصدر هذه الظاهرة عوامل مشتركة من وعائية وصرعية. رغم ذلك فإن التشخيص المبكر في غاية الأهمية٬ ويجب توخي الحذر من تفسير مثل هذه الحالات بأنها فقدان ذاكرة نفسي خاصة بعد العقد الثالث من العمر. للكاتب حالة مرضية تم تشخيصها أكثر من مرة من قبل الطب العام بأنها حالة فقدان ذاكرة نفسي بسبب فحوص إشعاعية طبيعية في إنسان تجاوز العقد الرابع من العمر. لم يحصل التشخيص الدقيق إلا بعد عمل دراسات رسم المخ الكهربائي.
10- هذه الظاهرة توحي باجتماع التغيرات النسيجية الناتجة من تقدم العمر والخرف مع تغييرات مشابهة تحدث في البؤرة الصرعية. تم ملاحظة هذه الظاهرة في أكثر من دراسة في السنوات العشر الماضية.
ويتبع>>>> : ربط الصرع بالطب النفساني3
واقرأ أيضًا:
المشورة والإنسانية Counseling & Humanism / الطب النفسي الحركي Dynamic Psychiatry