علاج سلوكي معرفي ع.س.م CBT الوسواس القهري الديني2
معضلة فضلة البول أو البول المتبقي
وهذه واحدة من المشكلات الشائعة والتي تعذب مريض الوسواس حيث يجد قطرات البول تنزل بعد انتهاء التبول، وبالرجوع إلى الأساس الطبي لهذه الشكوى نجد أنها تسمى التنقيط بعد التبول Post Micturition Dribble أو التنقيط البعدي أو ظاهرة التقطير بعد التبول، وتصف معاناة بعض الرجال من نزول البول بشكل لا إرادي مباشرة بعد الانتهاء من التبول، وعادة بعد مغادرة المرحاض. وقد تحدث في النساء لكنها أكثر شيوعًا في الرجال على اختلاف أعمارهم. وقد وصفت هذه الظاهرة من قديم الزمان في كتب الطب وفي كتب الفقه وتعتبر إلى حد كبير ظاهرة طبيعية في البشر، بل يعتقد أن نسبة من يعاني منها تشكل ما بين 20 إلى 50% من الرجال، ومن المهم الإشارة إلى أن معدل انتشار الظاهرة الحقيقي غير معروف نظرا لأن كثيرين يبقون معاناتهم منها سرا بينهم وبين أنفسهم.
وبالرغم من ذلك الشيوع لا يوجد حتى الآن تفسير طبي متفق عليه لهذه الظاهرة، وهناك كثير من النظريات وضعت لتفسيرها، فهناك مثلا من يعزوها إلى ضعف في عضلات الحوض التي تحيط بالإحليل، أو ارتخاء في العضلة المنوية القاذفة، إذ يعتقد أن الجزء الخلفي من الإحليل يوجد به تجوف طبيعي يقوم بحجز كمية قليلة من البول بها ثم تقوم هذه العضلات بالانقباض في وقت لاحق، وهو ما يؤدي إلى خروج هذه القطرات لاحقا، والبعض يرجعها إلى بقايا البول المعلق على مجرى البول والذي يحتاج وقتا ليتجمع ويسيل خارجا.
وبينما تبدو النظرية أعلاه مقنعة في تفسير التنقيط البعدي في الذكور حيث قناة المبال طويلة (18-20 سم) بما يسمح بافتراض انحناءات وتعلق بالجدران، لكن هذا غير ممكن تطبيقه في حالات التنقيط البعدي في الإناث نظرا لأن قناة المبال لا يزيد طولها عن 4 سم، وهو ما يعطي قوة أكبر لنظرية ضعف عضلات الحوض، ومن المهم معرفة أن عضلات قاع الحوض يمكن أن تضعف (وبعيدا عن الأسباب الجراحية المباشرة) من خلال أسباب صحية وأعراض فائقة الشيوع مثل الحزق المستمر لتفريغ الأمعاء كما في حالات الإمساك المزمن، وكذلك بسبب السعال المزمن، أو زيادة الوزن، وأحيانا لا توجد أسباب واضحة، ولعل نجاح البعض في التعافي من هذه المشكلة بعد التزام تدريبات تقوية عضلات الحوض المحيطة بالإحليل يرجح كفة نظرية ضعف العضلات، إلا أن احتياج البعض إلى تدليك الجزء البصلي من المبال لدفع قطرات البول القليلة الأخيرة من مجرى البول، وذلك بالضغط بالأصابع على المنطقة بين الشرج وكيس الصفن مع الدفع للأمام كما تظهر الصورة أدناه، فهذا يقوي نظرية وجود تجوف إحليلي يحتجز بعض قطرات البول، ومن الملاحظات أن التنقيط لدى البعض لا يحدث بعد كل تبول وهو ما يجعلنا نشك في الوجود الدائم لسبب تركيبي سواء كان ضعف العضلات أو وجود تجوف إحليلي، ويجعل كذلك من المناسب الحديث عن دور للعوامل النفسانية، خاصة عندما تتبدل ظاهرة التنقيط بين الحدوث فترات والاختفاء أخرى.
طبيا... حتى الآن لا يوجد علاج دوائي ناجع لهذه المشكلة!!، لكن كثيرين يستفيدون من تدريب عضلات الحوض وبالأحرى العضلة التي تستخدمها لحبس البول حتى الوصول إلى الحمام في حالة الإحساس بالاحتياج الملح للتبول، وذلك بقبضها وبسطها عدة مرات، كما تحل المشكلة لدى آخرين بتدليك المبال البصلي بعد ثوانٍ من انتهاء التبول.
الكلام أعلاه كله يخص الأصحاء لا الموسوسين، وإنما أردت استعراضه لأبين للجميع أن مريض الوسواس القهري الذي يشتكي من تنقيط البول بعد الاستنجاء ليس بالضرورة يتخيل وفي نفس الوقت لا يجب عليه الالتزام بما يطلب من الصحيح فعله في هذه الحالة، وسبب ذلك الاستثناء سيتضح جليا خلال وصفنا للأعراض وطرق الاحتياط التي يلجأ لها الموسوس، وكذلك طريقة العلاج.
لعل أقدم النصوص الواردة في وصف الصورة السريرية للوسوسة بفضلة البول أو التنقيط بعد البول هو ما أورده ابن القيم في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (يفعلون عشرة أشياء: السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة) أما السلت فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، والنتر وهو نفضه ليخرج ما بداخله بعد الاستنجاء هذا إجراء ثانٍ، والنحنحة: بأن يتنحنح لإخراج الفضلة الباقية، والقفز: أن يرتفع على الأرض ويهبط عليها لكي يفرغ ما كان عالقاً، والحبل يتخذه بعض الموسوسين فيتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يتخرط فيه ويقع على هذا لكي ينزل ما بقي، والتفقد: هو النظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: هو فتح الثقب وصب الماء فيه، والحشو: إدخال قطن ونحوه، والعصابة: أن يعصب المخرج بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة: أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة، أو يمشي خطوات ثم يعيد الاستنجاء.
ما يفعله الموسوسون بتنقيط البول في أيامنا هذه لم يختلف إلا قليلا، فهم يفعلون إجراءً أو أكثر مما ذكره ابن القيم، فقط ربما تطورت العصابة إلى الحفاض، ولعل مراقبة فتحة الذكر (أثناء الانتظار وبعد الاستنجاء الأخير) هي ما أشار إليه بالتفقد، وأما الانتظار الطويل في الحمام فإن من المتوقع أن يشهد عصرنا بحماماته المريحة إطالة له مقارنة بما كان في الماضي، ولذلك ربما لم يسمه ابن القيم ونراه كثيرا هذه الأيام.
تبدأ المشكلة عادة عندما يصادف الحريص على طهارته الإحساس بنزول قطرة أو أكثر أو ربما رآها وهو يرفع ثوبه، أو وجد أثرها لاحقا في ثيابه إلخ.... فتكون استجابته الخوف الشديد من تكرار ذلك ويبدأ في ممارسة المراقبة والتفتيش وتكرار الاستنجاء والغسل، وفي بعض الحالات تبدأ المشكلة بعد القراءة في فقه الطهارة والحرص على الاستبراء من البول، أو بعد سماع خطبة عن الموضوع إلخ.... يبدأ الموسوس الالتزام بطريقة معينة تمثل الإجراء الأمثل بالنسبة له للاستبراء من البول بحيث لا يحتاج لتكرار الاستنجاء ولا يشك في طهارته وينعكس ذلك مبدئيا في إطالة الوقت في الحمام، ثم مع الوقت لا يكتفي الوسواس بذلك فإما أن يكتشف المريض بعد فترة تنقيطا رغم التزامه بالطريقة المثلى فيضطر إلى زيادة إجراء على إجراء بما يؤدي إلى مزيد من إطالة الوقت، ومن المؤسف أن الانتظار كثيرا ما يؤدي إلى نزول قطرات بول جديدة وكذلك القلق يزيد من إفراز البول، وتصبح العملية بلا انتهاء، وإما أن ينتقل الخوف من نزول نقطة بول إلى أثناء وما بعد الوضوء وأثناء الصلاة أي نزول النقطة أثناء الصلاة، وهو ما يدفع المسكين إلى الإطالة أكثر والتحوط أكثر، إضافة إلى ذلك كثيرا ما يقع المريض في براثن الأشكال الأخرى لوسواس النجاسة والتي شرحناها في الجزء السابق من هذه المقالة كمعضلة انتقال/انتشار نجاسة البول وكذا رذاذ النجاسة، وغسالة النجاسة.
في الجانب المعرفي من العمل العلاجي نبدأ بالشرح المستفيض لشيوع الظاهرة وتفسيراتها المتاحة وكونها طبيعية ولا تشير إلى مرض، وأن الشرع الإسلامي انتبه إليها وتعامل معها بداية مما روي عن النبي أنه صلى الله عليه وسلم: "بَالَ فَنَضَح فَرْجَه". [رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه]، كما روى صحابي من ثقيف قال: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ)). رواه أبو داود. حيث استدل العلماء بهذا الحديث: أنه يستحب لمن انتهى من قضاء حاجته واستنجى أن ينضح (يرش) فرجه، وما يحاذيه من الثياب بالماء، فإذا أحس بالرطوبة قال: هذه الرطوبة من الماء الذي رششته، فيصرف التفكير بما يحس به، ويترك الشك والوسوسة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينضح الماء على فرجه بعد التبول حتى إذا وجد بللا قال هذا أثر الماء، وأما صفة النضح فلا يجب أن تترك للموسوس يستنتجها بنفسه لأنه سيغرق الثياب كأنه يغسلها بينما النضح هو مجرد رش الماء، بحيث يغمر موضع النجاسة، ولا يلزم أن يسيل الماء، أو يتقاطر عنه بعد رشه.
إلا أن من المهم الانتباه إلى أننا سلوكيا لا ننصح المريض بأن ينضح فرجه (ولو بصفة النضح الصحيحة) وإنما ننصح بالتجاهل، وعادة ما نعرض الكلام أعلاه للمريض لإيضاح أن المطلوب شرعا هو التلهي عن ذلك الإحساس، ولا نطلب منه نضح فرجه لسببين الأول هو عدم مناسبة ذلك لنوعية وكيفية لباسنا هذه الأيام فتكرار التبليل بالماء ولو نضحا قد يتسبب في ظهور فطريات أو التهابات، وأما السبب الثاني فهو أن ذلك أثناء العلاج سيكون بمثابة سلوك تأميني يضر بالعلاج وإن ساعد بعض الموسوسين على ممارسة حياتهم بشكل أفضل في حال عدم إتاحة العلاج، كذلك فإن لحديث النضح بعد الاستنجاء روايات عديدة لكنها على الأغلب ضعيفة، ومن المفيد علاجيا مع مرضى الوسواس أن نبين كيف يختلف الفقهاء رحمهم الله في مسألة نضح قليل من الماء على الملابس الداخلية بعد الاستنجاء:
1. فمنهم من يرى مشروعية ذلك لكل أحد.
2. ومنهم من يرى مشروعية ذلك لمن ابتلي بالوسواس.
3. ومنهم من لا يرى مشروعية ذلك مطلقاً.
ولنقل أن لدينا مبدئيا صنفان مختلفان من المرضى بوسواس تنقيط البول في أحدهما يكون الإحساس بالتنقيط واحدا من الظواهر الحسية الكاذبة أي أن الشعور بخروج النقطة هو شعور وسواسي لا واقعي ولا موضوعي وأما في الصنف الآخر فتكون المشكلة تهويلا لتنقيط بسيط لكنه حقيقي موضوعي، ومما يعقد هذا الصنف الأخير أنه قد لا يحدث بعد كل تبول، وفي مناجزة الصنف الأول يدرب المريض نفسه على تجاهل الشعور بالتنقيط بشكل تام ودون أن يفتش ودون أن يعيد، على أن يثق تمام الثقة في صحة وضوئه وعباداته، وأما في مناجزة الصنف الثاني فيطلب من المريض (الموسوس والذي لديه تنقيط حقيقي بعد التبول) منذ البداية أداء تمارين تقوية عضلات الحوض بشكل منتظم ليساعد ذلك في تقليل الفضلة ثم ينصح بالاستنجاء بعد 30 ثانية على الأكثر من انتهاء التبول والتجاهل التام للأمر كله بعد ذلك.
وفي الممارسة الواقعية نجد أن المشكلة الأكبر تتعلق بطول فترة الانتظار في الحمام، أكثر مما تتعلق بما يفعله المريض للاستبراء من بوله، بمعنى أنه إذا كان المريض يستطيع فعل ما يكفيه للاستبراء (مع السماح بالاختلافات الفردية) دون أن يتأخر أو يسرف في استخدام الماء -وهذا نادر الحدوث- فإننا نسمح له بتغيير سلوكه بناء على ما تعلم أثناء العمل المعرفي مع تقييم تحسن أدائه بين الجلسات، فإذا وصل مثلا إلى مدة دقيقتين للتبول والاستبراء (بانتظار 30 ثانية، أو تدليك المبال البصلي مرة واحدة كما يظهر في الصورة أعلاه) ونجح في التجاهل فلم يكرر الاستنجاء ولم يفتش فبها ونعم، وإلا فإنه يعفى من ذلك كله ويصبح المطلوب سلوكيا هو الاستنجاء بمجرد انتهاء التيار الرئيسي للتبول دون انتظار ثم التجاهل المستمر بعد ذلك، ومن المشجع أن كثيرين ممن ينجحون في الالتزام بذلك يلاحظون إما نقصانا في الشعور بنزول قطرات أو اختفاء للمعاناة بعد أسابيع قليلة من التزام ذلك.
وليس التجاهل المطلوب من المريض مقصورا على مدة بقائه في دورة المياه، وإنما يمتد ذلك لفترة بقائه على وضوئه وأثناء صلاته، فمن المرضى من يستمر معه الشعور بنزول قطرة بول بعد الخروج من الحمام، بل ومنهم من لا يحدث معه ذلك إلا بعد الصلاة إذا أراد حفظ الوضوء، فضلا عن أن هناك من لا يتعلق الأمر عندهم بانتهاء عملية التبول وإنما بالوضوء أو الشروع فيه أو الصلاة وسنجد أن الحكم في الحالتين واحد وهو التجاهل، وعادة ما ننصح المريض أثناء تدريبات الع.س.م CBT لا فقط بالتجاهل وإنما نشترط عدم التفتيش مهما كان إحساس الموسوس وتخوفه وشكه.
ويفهم من الشواهد السابقة أن المستحب والمندوب هو عدم الاهتمام بما يحدث بعد الوضوء أو أثناء الصلاة من أحاسيس جسدية، سواء كان ذلك استمرارا للخوف من التنقيط بعد التبول، أو كان شعورا ملحا بالرغبة في التبول أو بنزول نقطة مرتبطا بالوضوء أو الصلاة، التجاهل التام هو المطلوب في كل الأحوال، ويجب تنبيه المريض إلى ضرورة عدم اللجوء لأي إجراءات احتياطية كأن يشد عضلات الحوض لمنع نزول النقطة أو النقاط، أو أن يشترط استخدام الحمام قبل الوضوء ولو دون داعٍ -وإن كان ذلك القهر الاستباقي أكثر حدوثا مع الموسوسين بخروج الريح- أو التقليل من شرب السوائل لتقليل إفراز البول..... إلخ، لابد من مناقشة المريض في هذا وعدم ترك الأمر دون توضيح، وسبب ذلك هو أن تلك الإجراءات هي بمثابة قهور استباقية تمثل احتياط تأمين يفسد أو يفشل العلاج السلوكي بالت.م.ا (التعرض ومنع الاستجابة).
وكي لا يختلط الأمر على الموسوسين فإن الكلام كله أعلاه لا يفرق بين أن يكون الشعور بنزول البول حقيقيا أو متوهما، لأن منهم من يفهم أمرنا بالتجاهل على أننا نعتقد أنه يتخيل وليس هناك نقاط حقيقية فإذا اكتشف أنها نقاط بول حقيقية انتكس فيجب إعلامه بأن حكمها هو نفس حكم الوسواس، أمر آخر هو أنه لا يجب شرعًا أن نفتش ونتأكد إذا ما خرج شيء أم لا، سواء قبل الصلاة أو بعدها، ولا يجب التأكد من خروج شيء عند الإحساس برطوبة أو ما شابه، لمعرفتنا بأن ذلك يكثر أن يكون من الوسواس.
واقرأ أيضًا:
استشارات عن وسواس النجاسة / استشارات عن وسواس التطهر / استشارات عن وسواس الاستنجاء