بعض أوراق العمر
على الأرجح أنه في العام ١٩٨٦ تقابلت مع أخي وصديقي وائل محمد أحمد -الذي سيبرز لقب أبو هندي فيما بعد - لأول مرة.
في نفس العام كان العرض الأول لفيلم «عودة مواطن» حيث "شاكر" يحيى الفخراني يعود إلى مصر بعد غياب سنوات في الخليج.
وائل وأنا أيضا عدنا لدخول كلية الطب بعد اغتراب في الخليج -كل مع والديه وإخوته- إلا أن فترة مكوث وائل هناك كانت أطول، وربما تأثره بها كان أكبر!!
ولقد حركت فينا ما تحركه الغربة من حنين جارف، وغير ذي بصيرة، بكل ما يتصل بالوطن، وبالتالي لم نبصر أو لم نكن نحيط بخريطة الوطن، لكن الفيلم حاول رسمها.
عاد شاكر ليجد كل شيء قد تغير ويتغير بسرعة:
مصر التي قيل إنها خرجت منتصرة من حرب أكتوبر خلعت البذلة العسكرية، وأعطت ظهرها للأجيال التي صنعت هذا النصر بالدم والعرق وسنوات الصبر والقبض على الجمر!!
وأسرعت مهرولة في طريق الرأسمالية والتبعية بما سمي في حينه بالانفتاح الاقتصادي، ولم يكن سوى الوصفة التقليدية للأمركة وأحلامها أو كوابيسها السريعة، والتغيرات العنيفة في شتى مناحي الحياة.
حيث القيم الاستهلاكية وتغيير النظرة للحياة والإنسان ومعايير جودة العيش ومعناه بما كان انقلابا كاملا على كل ما عاشه ناس مصر في الحقبة الناصرية -إن حقيقة أو ادعاءا- مع وعود بالرخاء والرفاهية بعد سنوات معاناة وهزيمة!!
الأخ التالي لشاكر -أحمد عبد العزيز- تخرج في الجامعة ولم يجد له عملا ولا مكانا في هذا الوطن/العالم الجديد، فانسحب وبدلا من الاغتراب في الخارج هاجر داخليا إلى المهدئات والمخدرات ولعب الشطرنج، ولو مع نفسه!!
أما أصغر الأخوة -شريف منير- الطالب الجامعي والذي يهوى تربية الحمام -رمز السلام والحرية نفاجئ به قرب نهاية الفيلم باكتشاف نشاطه في تنظيم سياسي تلاحقه السلطة، وكأنه يتابع خطوات خاله المناضل العمالي اليساري الذي تجول شطرا من عمره في سجون «الوطن».
هذه هي مصر ١٩٨٦ كما لخصتها رؤية محمد خان مخرجا ويحيى الفخراني بطلا ومنتجا للفيلم..
المتكيفون الانتهازيون، والمتكيفون المتعايشون، والمتمردون المقاومون الرافضون، والمتعايشون المنسحبون.
هي نفس مصر التي عدنا إليها من الغربة عام ١٩٨١ لندخل إلى الجامعة، ودون مشاهدة للفيلم، ودون إدراك واعي لمجمل الخريطة المذكورة توا وجدنا أنفسنا نختار التمرد ولو بطرق ومن مداخل مختلفة، ولهذا قصة أخرى..
أصبت يا ابن عبد الله في اختيارك اللحظة التي بدأنا بها علاقتنا التي غيرت مسار حياتي وهي علاقة بدأتها أنت بتحليلك وتفكيرك العميق وأذكر مرارا إشارتك إلى تأثر كلينا بفترة الحياة في سعودية السبعينيات من القرن العشرين وكيف كنت تجدل العام والخاص معا في حواراتنا التي قطعها الزمان منذ ما يناهز العقدين ونحن نتمشى معا من بيتك وحتى الجامعة ثم من الجامعة حتى محطة قطارات الزقازيق، في حين بدأت أنت العلاقة متأملا محللا كعادتك وطريقتك التي ألفتها لاحقا، بدأت العلاقة أنا منجذبا إلى أفكارك وتحليلاتك وآرائك وتعليلاتك لكن الأهم بلا منازع كان حلك لمشكلتي مع الإسلام والجماعات الإسلامية وصولا إلى الصلاة ولعلي ذكرت تفاصيل ذلك في مواضع من المدونات على مجانين، فبينما كنت أراها مشكلة بيني وبين السماء فأنا لم أعرف أبدا أن التوبة تقبل مهما عظم الذنب -لأني هكذا تعملت في كتب المدرسة- إلا من خلال الحديث معك، يعني باختصار كنت معالجي النفساني الأول ودون أن أدرك ساعتها أني أتعالج، استطعت النفاذ إلى أن المشكلة في ذلك الوقت كانت مشكلتي مع أبي رحمة الله عليه، ولم تكن مع السماء وكانت مع الإسلام المغلوط ولم تكن مع الإسلام، لم يغير ذلك حياتي فقط وإنما تعلمت واستوعبت ما فعلته أنت معي واستخدمته في علاج مئات الأولاد والبنات الذين يتركون الصلاة لا رفضا للصلاة وإنما رفضا لأن يكون الأب أو الأم هو المتحدث الرسمي باسم السماء... ولأنني أعرف جيدا كيف تغير الصلاة حياة المسلم عندما يلتزم بها فإنني واثق أنك غيرت حياة كثيرين مئات منهم على يدي!
أما فيما يخص الوطن والأمة فأشهد أنه -على مدى ما يقارب عقودا أربعة- تكرر أن آتيك غضبان حزين أظن الظنون، أو متوجسا قلقا بحدوث أمر هنا أو هناك فأجد ثباتك واستبشارك طاغيا على آثار كل جلل، كنت جاهزا دائما عند السؤال ليس بمعلومة أو نصحية وإنما خطة عمل، كنت في أمر الوطن والأمة تطبق بالفعل معي وأظن مع غيري ما خططته في مقالك الجهاد المدني.. الطريق إلى فعل مختلف الذي كتبته سنة 2002، ...... بعد تحليل طويل وجدت أنك استطعت ثقل اهتمامي بالشأن العام، وكنت لولا وكنت بأكثر من طريقة وخلال كثير من المواقف في الأعوام التي سبقت 25 يناير 2011، من استخدمه الله لوضعي في هذا الطريق الذي سلكته في حياتي وأذكر أني فصلت في ذلك في مدونة لم أستطع الاهتداء إليها الآن وأعد بأن أفعل وأضع الرابط.
أشير أخيرا إلى أن سبب كتابة هذه الأوراق اليوم السبت 19 أكتوبر2024 هو تاريخ مروري بعتبة الستين من العمر، ولأن ابن عبد الله لم يحضر احتفال قسم الطب النفسي جامعة الزقازيق بوصولي إلى سن المعاش، وكنت قد شددت عليه بضرورة الحضور، فقد ألزمته بالكتابة عن ما مثلته في حياته أنا ومجانين فوعد بأن يفعل ثم قرر ثم اقترح اسم أوراق من العمر، ثم اشترط منذ عدة أيام بعدما بشرني بموافقته على الكتابة أن أعلق في نفس الدونة على ما يكتب وأنها ستكون حلقات....
ولا أنسى أن أعبر عن سعادة غمرتني حين عرفت أن يحيى السنوار من مواليد نفس اليوم 19/10/1962لم أشعر يوما بالفخر بهذا التاريخ وهو فخر سيدوم، فهنيئا لكل مواليد 19 أكتوبر، وهنيئا لمجانين وخادمها على باب الستين.
د. أحمد عبد الله Facebook