رؤية الإنسان للتاريخ تعبر عن رؤيته للكون (وللإله والإنسان والطبيعة)، ولذا فدراسة رؤية التاريخ هي في واقع الأمر دراسة لرؤى الكون (ومن ثم النماذج الإدراكية والتحليلية).
وحتى نفهم رؤى التاريخ (والكون) سنطرح إشكالية تواجهها كل الديانات التوحيدية وهي: كيف يخاطب الخالق المخلوقات، فالخالق مطلق والمخلوقات نسبية، والإجابة على هذا السؤال تحدد الموقف من التاريخ؟ فكل عقيدة توحيدية تطرح نقطة تقاطع بين الخالق والمخلوق.
في حالة الإسلام نقطة التقاطع هذه ليست الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أي فرد وإنما القرآن، فالله سبحانه وتعالى أرسل القرآن هداية للعالمين، والرسول عليه الصلاة والسلام ليس تجسداً لله وإنما هو رسول وحسب، مجرد إنسان يحمل الرسالة. والقرآن هو اللوجوس، أي الكلمة، وهي كلمة بالفعل، كلمة مكتوبة في كتاب يمكن لأي إنسان أن يقرأه ويفهمه.
وقد أشرت إلى أن الرسول مجرد إنسان (رغم أن هناك محاولات حلولية داخل الإسلام لتأليهه، ومن هنا الحديث عن شرب بوله والتبرك بعرقه!) وهو إلى جانب ذلك هو خاتم المرسلين، بمعنى أن الله أرسل لنا الرسالة وقطع على نفسه وعداً بأن يرعانا فهو رحمن رحيم، ولكنه لن يتدخل في التاريخ الذي أصبح مجال حرية الإنسان، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وبالتالي يصبح التاريخ مجالاً للتعارف والتدافع.
وكل إنسان قادر على تجاوز السطح المادي انطلاقاً إلى قيم إنسانية غير خاضعة لقانون المادة، ولكنه أيضاً بوسعه أن يختار أن يذعن لقوانين المادة ويفقد ما يميزه كإنسان. فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يرتفع على ذاته أو يهوي دونها، على عكس الملائكة والحيوانات، فالملائكة لا تملك إلا أن تكون ملائكة والحيوانات هي الأخرى لا تملك إلا أن تكون حيوانات، أما الإنسان فقادر أن يرتفع إلى النجوم أو أن يغوص في الوحل. القرآن هو رسالة مقدسة مدونة في كتاب ليقرأها من يشاء، ويظل التاريخ حيزاً مستقلاً هو مجال حرية الإنسان يتصارع فيه البشر ويتدافعون.
وقد حلت العقيدة المسيحية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق بأن جعلت نقطة التقاطع هي شخص المسيح، اللوجوس، ابن الإله، الذي ينزل إلى الأرض ليفدي البشر بدمه وهذا هو التجسد incarnation، مما أدى إلى ظهور إشكالية جوهرية، لأنه حين نزل ابن الإله إلى الأرض وتحول اللاهوت إلى ناسوت، والإلهي إلى إنساني فإنه بذلك دخل في إطار الزمان الدنيوي المادي واقتحم التاريخ الإنساني، فتداخل التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني.
وقد حاولت الكنيسة الكاثوليكية أن تحل هذه الإشكالية بأن جعلت الحلول يتركز في فرد واحد وليس في جماعة بشرية هو المسيح، وهو حلول انتهى بالصلب وصعود المسيح وعودته إلى أبيه في السماء.
لكن العقيدة المسيحية تستند إلى حادثة الصلب هذه، فجعلت الكنيسة من نفسها جسد المسيح وأصبح البابا هو صاحب العصمة بمعنى أنها أحاطت الحلول (والمقدس) بحواجز حتى لا يتداخل التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني، كما أنها قسمت العالم إلى قسمين: قسم ديني يضم رجال الدين من كرادلة ورهبان وراهبات، وقسم علماني (وهذا أول استخدام للكلمة) يضم بقية البشر وبقية مجالات النشاط الإنساني.
وهذا يفسر أنه لا يمكن أن يعلن أي شخص قديساً canonization إلا بعد أن تعقد لجنة لدراسة الموضوع، حتى لا يختلط الحابل بالنابل وحتى لا يدعي أحد أنه موضوع الحلول. ولهذا يلاحظ أن الكنيسة الكاثوليكية عارضت عبر تاريخها الحركات الألفية التي تنادي بأن المسيح سيعود مرة أخرى ليحكم العالم لمدة ألف عام يسود فيها العدل والسلام، فهي عقيدة حلولية تنادي بنهاية التاريخ.
ولكن الإصلاح الديني فتح أبواب الحلول على مصراعيه، فخرج اللوجوس من الكنيسة وأصبح الشعب هو موضوع الحلول، وعبر هذا عن نفسه في عقيدة إلغاء الكهنوت الكنسي وظهر مفهوم كهنوت كل المؤمنين priesthood of all believers، بمعنى أن المؤمن يمكنه التواصل مع الإله مباشرة، لسبب بسيط وهو أن الإله قد حل فيه (وهذه هي الرؤية اليهودية، كما سنبين فيما بعد)، ومن هنا إعجاب البروتستانت الشديد بالعهد القديم، وفي هذا الإطار ظهرت الصهيونية المسيحية.
ومع تزايد معدلات الحلول في الإنسان يزداد ذوبان الجزء في الكل والكل في الجزء، والإله في الإنسان والإنسان في الله، إلى أن يصبح الإله مجرد صوت داخلي يسمعه الإنسان الفرد، أي أن التماهي بين الخالق والمخلوق يصبح كاملاً.
والنموذج الحلولي يفسر ظهور التفسيرات الحرفية فهي تنطلق من إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق ومن ثم إلغاء المسافة بين المقدس والزمني مما يعني تطابقهما، ولذا يصبح التاريخ الذي يرد في الكتاب المقدس هو نفسه التاريخ الزمني، وأن ما يحدث الآن أمام عيوننا هو ذاته ما حدث من قبل، أو جاءت نبوءاته في الكتاب المقدس، وهذا هو إطار الصهيونية المسيحية.
ولكن حين يصبح التاريخ موضع الحلول فإن إنسانية الإنسان تتلاشى لأنها تكمن حريته في الاختيار وفي مقدرته على التجاوز، ولذا نجد أن الذي يحدد لنا الهدف من الوجود والاتجاه الذي يجب أن نسير فيه هو الكتاب المرسل من الله وليس التاريخ، ويظل التاريخ هو مجال المحاولة والنجاح والإخفاق.
وأعتقد أن علم التاريخ ظهر أول ما ظهر داخل المنظومة الإسلامية بسبب هذا، فقد أدرك ابن خلدون التاريخ كبنية تتحرك بهدي من الله ولكن بدون تدخل منه، على عكس الرؤية المسيحية التي ترى أن التاريخ تعبير عن الإرادة الإلهية فيما يسمى providential history، وعلى عكس رؤية الإغريق القدامى للتاريخ باعتباره دائري وهندسي.
من منظور اليهودية الشعب اليهودي هو ذاته نقطة التقاطع بين الخالق والمخلوق وموضع الحلول والتجسد الإلهي، لقد حل الإله (المطلق) في الشعب اليهودي (النسبي) الذي أصبح شعباً مختاراً له حظوة خاصة عند الإله، بل وتحول الشعب اليهودي في هذا المنظور إلى إله وأصبح تاريخه مقدساً لا إنسانياً وفي بعض الأحيان يشار إليه بأنه "شعب مقدس" "وأمه الروح" بل وأحياناً اللوجوس أي الكلمة.
كما أن الكبالاه (وهي التراث الصوفي الحلولي اليهودي الموغل في الحلول) يرى الإله باعتباره السفيروت أو التجليات العشر النورانية، ويرى أن الشعب اليهودي هو السفيروت العاشر، أي أنه جزء عضوي من الإله، وهو الحلقة الأخيرة في التجليات العشر النورانية، فهو جزء من الإله ولكنه يوجد في هذه الدنيا، وهو الصلة بين الإله وبقية شعوب العالم.
وهكذا محيت ثنائية الإله والإنسان تماماً بالنسبة للشعب المختارن فحينما يذوب الجزء الإنساني في الكل الإلهي فإن الإنسان يفقد إنسانيته، ولذا فإن تاريخ الشعب اليهودي الزمني هو ذاته تاريخه المقدس، فتاريخ الملوك وتاريخ الأنبياء هو ذاته تاريخ الشعب اليهودي.
ويبدو أن الوجدان الصهيوني يدور في هذا الإطار فهو لا يميز بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس، وتنطلق الخريطة الإدراكية الصهيونية من هذا الافتراض وهذا بالفعل كارثة معرفية وأخلاقية، تبدت في سلوك استعلائي وانطوائي بلغ ذروته في الصهيونية.
وقد تأثرت الدراسات التاريخية في الغرب بهذه الرؤية، فكثير من المؤرخين ينطلقون من التاريخ المقدس الذي ورد في التوراة، ثم يجدّون في البحث عن الآثار (التاريخ الزمني) للبرهنة على ما جاء في التوراة (التاريخ المقدس). ولكن يبدو أن علم الآثار الإسرائيلي الجديد بدأ يتخلص من هذه الأساطير.
ويظهر الاختلاف بين الرؤية القرآنية للتاريخ والرؤية التوراتية في قصص الأنبياء، إذ يلاحظ أن القصص "التاريخي" الذي ورد في القرآن لا يرد كاملاً (باستثناء قصة سيدنا يوسف) فلا يذكر سوى بعض النقط والوقائع ذات المغزى الأخلاقي، فالهدف من هذه القصص ليس تقرير واقعة تاريخية أو السرد التاريخي، وإنما بعض المعايير الأخلاقية.
هذا على عكس الرؤية التوراتية، إذ ترد تواريخ الملوك كاملة، فالتاريخ الزمني هو ذاته التاريخ المقدس، فالشعب اليهودي هو موضع الحلول، اللوجوس الذي يحل محل ابن الله في المسيحية ومحل القرآن في الإسلام.
الباحث التاريخي المدقق عليه أن يتناول التاريخ الزمني بمعزل عن التاريخ المقدس وإن حدث تلاقٍ بين الاثنين فمرحباً، ولكن نقطة البدء لابد أن تكون التاريخ الزمني وليس التاريخ المقدس.
ويلاحظ أنه ظهر اتجاه في بعض الأوساط الإسلامية نحو دمج التاريخ المقدس بالتاريخ الزمني، فقد بدأ البعض يتصور أن تاريخ المسلمين، هو تاريخ إسلامي! مثل هذه الرؤية أصنفها على أنها رؤية حلولية ترى أن الله قد حل في تاريخ المسلمين وتجسد فيه، فاكتسب هذا التاريخ قداسة تجعله غير خاضع للنقد والتساؤل، أي أنها رؤية غير تاريخية للتاريخ، تمزج المقدس بالزمني بحيث يتوحدان فتسود الواحدية وتصفى كل الثنائيات ويصبح التاريخ كتلة واحدة مصمتة متجانسة.
وإذا كانت الحلولية تؤدي إلى ذوبان الأجزاء في الكل، فإن هذا التاريخ تتساوى فيه التفاصيل، وتظهر مقولة واحدة وهي أن المسلمين محل رعاية خاصة من الله، وهذه الرؤية لا تختلف كثيراً عن الرؤية اليهودية الحلولية للتاريخ التي أفرزت الصهيونية والعنصرية، وهذا أبعد ما يكون عن الصحة.
تاريخ المسلمين ليس تاريخاً إسلامياً، هذان أمران مختلفان، فالتاريخ الذي ورد في القرآن يعطينا مجموعة من القيم نحكم بها على التاريخ الزمني، والتاريخ الزمني هو مجال الفوضى والمعارك والسقوط والانتصار، تاريخ البشر في الزمان هو تاريخ زمني، وأنا كمسلم أؤمن بأن التاريخ هو مجال حرية الإنسان.
إن مفهوم "خاتم المرسلين" الإسلاميّ هو، في واقع الأمر، وعدٌ إلهي بأن الله سبحانه وتعالى سيترك الإنسان حرّاً في التاريخ، فقد اكتملت الرسالة، ويمكن للإنسان أن يصل إلى الخلاص والهلاك بنفسه، فالتصور الإسلامي للطبيعة البشرية تصور مركب يرى الإنسان داخل إطار تاريخي ولكنه قادر على تجاوزه.
فالمسيحية تذهب إلى أن هناك "خطيئة أولى" original sin هي خطيئة آدم وحواء، وأن البشرية بأسرها تعاني من هذه الخطيئة اللصيقة بالوضع الإنساني ذاته، ولذا أصبح الخلاص مستحيلاً من خلال الفعل الإنساني، ولذا يحتاج الإنسان لرحمة الإله عن طريق التدخل المباشر في التاريخ الزمني؛
ولعله لهذا السبب كان لا بد من التجسد، أي أن ينزل الإله من سمائه ليصبح بشراً وكان لا بد وأن يصلب المسيح (ابن الإله حسب التصور المسيحي) ليفدي بدمه البشرية ويغسلها من خطاياها، ولذا يذهب اللاهوت المسيحي إلى أننا نموت في آدم ونولد في المسيح، وكان لابد من طقس التناول، أي أن يتناول المسيحي الخبز الذي يتحول حسب التصور المسيحي إلى جسد المسيح ودمه، بحيث تجري دماء الله في الجسد الإنساني فتغسل خطايا البشر، وكان لا بد من ظهور مؤسسة الكنيسة (التي تسمى جسد المسيح) ليصل الإنسان إلى الخلاص "فلا خلاص خارج الكنيسة"، ولكن إذا كانت الخطيئة لصيقة بالطبيعة البشرية ولا خلاص منها من خلال الفعل الإنساني داخل الزمان، فالعالم هو وادي الدموع مما يعني إلغاء التاريخ.
مفهوم الخطيئة في الإسلام مختلف تمام الاختلاف، فلا يوجد سقوط كامل ولا خطيئة أولى وإنما هناك نسيان، فالخير كامن في فطرة الإنسان ولكنه ينساه "نسوا الله فأنساهم أنفسهم". ولذا فالقرآن هو الذكر، حتى يتذكر الإنسان الله، وحين يتذكره فإنه يخرج من حمأة المادة ليصل إلى فضاء إنساني تاريخي فسيح يمكنه أن يختار فيه.
في هذا الإطار يمكن للإنسان أن يخطئ ثم يتوب ويقوم بالعمل الصالح فيغفر الله له، فالله يحب التوابين. هذا يعني أن التاريخ (الزمان والدنيا) هو مجال الخطأ والتوبة، هو مجال الفعل الإنساني الذي يمكّن الإنسان من خلاله أن يخطئ وأن يصيب ويُثاب، فالخطيئة ليست لصيقة بالطبيعة البشرية، ولذلك فكل ما يحتاجه الإنسان في هذا الإطار ليس ابن الإله الذي ينزل إلى الأرض فيصلب وينزف دمه ليغسل خطايا البشر، وإنما رسول يحمل الرسالة، كلام الإله للبشر، وهم أحرار بعد ذلك في التاريخ، ولا يحتاجون إلى وساطة أو كهنوت. إن التاريخ هو مجال حرية الإنسان.
والله أعلم.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت بموقع الجزيرة نت بصفحة المعرفة- وجهات نظر بتاريخ 1 نوفمبر 2007.
واقرأ أيضًا:
الإعلام والإمبريالية النفسية / الإمبريالية النفسية / أسئلة الهوية