الأمركة، (بالانجليزية أميريكانيزيشن Americanization) مصطلح خلافي داخل المعجم السياسي العربي والغربي، دون أن يتم تعريفه رغم شيوعه. وسأحاول أن أبذل محاولة مبدئية في تعريفه وتوضيح بعض تضميناته الفلسفية. والأمركة في تصوري هي محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية. ويوجد مصطلح طريف قريب منه للغاية هو مصطلح "الكوكلة" أو "الكوكاكوليزيشن" Cocacolization. والكوكاكولا هي رمز نمط الحياة الأمريكية وانتشارها وتدويلها.
وقال أحدهم أن الأمر ليس كوكلة وحسب وإنما هي كوكاكولونيالية، بدلاً من "كولونيالية" أي أن الكوكلة هي الاستعمار في عصر الاستهلاكية العالمية، وهي استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء. كما كتب أحد علماء الاجتماع كتاباً بعنوان "The Macdonaldization of the World" أي "مكدلة العالم" (نسبة إلى ماكدونالد) الذي يصبح هنا رمز الأمركة بدلاً من الكوكاكولا.
والمجال الدلالي لكلمة "أمركة" (أو "كوكلة" أو "مكدلة") يتداخل مع كلمة "تغريب" و"علمنة" باعتبار أن العلمنة (الشاملة) ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وبعض مجالات الحياة العامة وإنما هي عملية فصل كل القيم والثوابت والمطلقات (باعتبارها شكلاً من أشكال الميتافيزيقا) عن العالم والطبيعة وحياة الإنسان العامة ثم الخاصة؛
إذ يتحول العالم بأسره على مادة استعمالية لا قداسة لها ولا خصوصية ولا مرجعية لها سوى المرجعية الكامنة في المادة، أي ما يسمى بقوانين الحركة (آليات السوق- المنفعة المادية- شهوة السلطة- الجنس- علاقات الإنتاج). ومن ثم يمكن توظيف هذه المادة في أي غرض وبأي طريقة دون أي تحفظات أو حرج.
وحتى نفهم الأمركة حق الفهم لا بد وأن نضعها في سياقها التاريخي والحضاري. ويمكن القول إنه مع منتصف القرن التاسع عشر تبلورت المنظومة الحضارية الغربية برؤيتها للعالم وللآخر وللذات، وتنطلق هذه الرؤية من أن العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري ولا يمكن أن يؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون دنيانا ومجتمعنا، وأنه لا يوجد شيء ثابت في الكون، بما في ذلك الطبيعة البشرية، فكل شيء يتغير بشكل دائم.
في هذا الإطار أصبح العالم منفصلاً عن القيمة، أو كما يقولون بالإنجليزية Value - Free، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية. وحتى لو وجدت مثل هذه المعايير فهي ستتغير لا محالة، كما أنها غير مادية، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ في الحسبان.
كل هذا يعني استحالة الحكم على سلوك الأفراد أو الجماعات أو على الظواهر الاجتماعية، ومع غياب المعايير غابت المرجعية الإنسانية، وظهرت العنصرية والفلسفة الداروينية التي جعلت من القوة المعيار الوحيد للحكم والآلية الوحيدة لحسم الخلافات.
في هذا الإطار ولد التشكيل الاستعماري الغربي، وانطلاقاً من الرؤية المادية، تحددت الإستراتيجية الغربية تجاه بقية العالم على نحو بسيط، وهو أن العالم مادة استعمالية (مصدر للمواد الخام - العمالة الرخيصة - الأسواق المضمونة) يمكن للجنس الأبيض أن يوظفها لحسابه باعتباره الجنس الأرقى، أي الأقوى.
وفي هذا الإطار تحركت جيوش أوروبا ثم الولايات المتحدة واقتسمت العالم فيما بينها وحولته إلى مناطق نفوذ وفرضت رؤيتها على العالم بأسره، التي يمكن أن نلخص سماتها الأساسية فيما يلي:
1- الصراع هو أساس العلاقة بين كل الدول، وبين الدولة والفرد، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، أي أن ما ساد هو رؤية ماكيافللي وهوبز للإنسان (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) والتي طورها داروين واستفاد منها ماركس، وهي الرؤية التي سيطرت على العلاقات الدولية والإنسانية، وعلى اقتصاديات السوق، سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي.
2- ظهرت فكرة الدولة القومية التي تركز كل السلطات في يدها حتى يمكنها تجنيد كل عناصر المجتمع في خدمتها، وحتى يمكنها أن تصوغ المواطن حسب قوالب محددة تضمن ولاءه الكامل، الأمر الذي أدى إلى إضعاف المجتمع المدني وتهميشه.
3- ظهر الفكر القومي المتطرف (الشوفيني) وهو فكر ليس له مرجعية إنسانية أو أخلاقية. والانتماء القومي في هذا الإطار يعطي صاحبه حقوقاً مطلقة، فلو قرر أعضاء قومية ما أو عرق ما أن من حقهم ضم هذه الأراضي أو طرد هذا الشعب أو حتى إبادته (كما حدث في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا النازية وإسرائيل الصهيونية) فهو حق لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، وهو حكم لا يمكن استئنافه.
4- أفرز هذا الإطار الفكري والمرجعي فكراً عنصرياً كريهاً قسم العالم إلى عالم غربي متقدم وعالم غير غربي متخلف.
5- نتيجة لرؤيتها العنصرية حولت المجتمعات الغربية الديمقراطية من كونها مثلاً إنسانياً أعلى وإطاراً مرجعياً إلى مجموعة إجراءات تطبقها في إدارة مجتمعاتها، أما بالنسبة للعالم الثالث "المتخلف" فالديمقراطية غير صالحة له.
6- مما زاد من حدة الصراع وشراهة الدول الاستعمارية أن التقدم رُبط بمعدلات الإنتاج والاستهلاك (وهذا أمر منطقي في الإطار المادي المنفصل عن القيمة) خاصة وأن الافتراض الذي ساد هو أن المصادر الطبيعية لا تنفد. وفي هذا الإطار نسيت قيم إنسانية أساسية مثل العدل والمساواة والتوازن والطمأنينة والحفاظ على البيئة.
هذا هو الإطار العام للمنظومة الحضارية الغربية والتي يتحرك العالم بأسره -عن وعي أو عن غير وعي- من خلالها، والولايات المتحدة الأمريكية هي التعبير المتبلور عن هذه الرؤية.
ويمكن القول أن ثمة تلازماً وربما ترادفاً بين العلمانية الشاملة والإمبريالية والعولمة (والأمركة والعلمنة).
وليس من قبيل المصادفة أن أكثر الدول علمنة في العالم هي أيضاً قائدة الإمبريالية الغربية، وهي دولة تصاعدت معدلات الرغبة في الغزو وفي حوسبة العالم (الإنسان والطبيعة) وتوظيفه بين نخبتها السياسية والعسكرية، ونجحت في تسويق هذه السياسة.
وانتشار ظاهرة الأمركة في العالم يرجع إلى تزايد الهيمنة العسكرية والحضارية الأمريكية. ولعل من أكبر آليات العلمنة والأمركة في العالم الآن السينما الأمريكية، فأفلام توم وجيري مثلاً تجسد القيم الداروينية بلا مواربة ولا حياء، وأفلام الكاوبوي وكل أفلام العنف مثل أفلام جيمس بوند تقوم بعملية تمجيد للعنف وتطبيع له.
أما الأفلام الدرامية والكوميدية، فهي تحاول تحييد فكرة القيمة نفسها، ونحن لم نتحدث عن الأفلام الإباحية فمهمة هذه الأفلام واضحة لا شبهة فيها. لكن يجب ألا نكتفي بهذا العنصر البراني، فنحن نقترح نموذجاً توليدياًَ تفسيرياً، ونقترح وجود نزعة رحمية (أي الرغبة في العودة للرحم) في كل البشر، تُولِّد عندهم نزوعاً نحو النماذج الاختزالية الواحدية، ونحو الحلول المريحة البسيطة المباشرة وتفضلها على الحلول الإنسانية المركبة، أي أن ثمة نزوعاً نحو قبول البسيط بدلاً من الجميل.
وأمريكا هنا ليست تشكيلاً حضارياً وسياسياً علمانياً وحسب وإنما هي حالة عقلية كامنة، وبطبيعة الحال يوجد نزوع ربّاني إنساني نحو التركيب والتجاوز والتسامي (القبس الإلهي) هذا النزوع الربّاني كامن في الإنسان، تماماً مثل النزوع الرحمي.
ونحن نذهب إلى أن المنظومات المادية تحوي دائماً تناقضاً أساسياً، فهي تبدأ بتأكيد الخاص والمباشر والملموس ثم تتجه تدريجياً نحو القانون المادي العام المجرد والمبدأ الواحد الكامن وراء كل الظواهر.
فتبدأ المنظومة القومية العلمانية (في الإطار المادي) بتأكيد أسبقية الإنسان القومي [الخاص] على الإنسان الطبيعي [العام]. لكن المنظومات المادية عادة ما تؤكد بشكل قاطع أيضاً أهمية الإنسان (الاقتصادي والجنسي) الطبيعي (العام) وتكتسب شرعيتها أمام جماهيرها من خلال تأكيد هذا الإنسان الطبيعي.
لذلك، وبالتدريج، تظهر أجيال جديدة لا تهتم كثيراً بالزخارف القومية أو بالطريق الخاص، وتتحرك مثل حركة المادة تماماً نحو الطبيعي والعام والنمطي وغير المتجاوز، ويبدأ الحديث عن الإشباع الاقتصادي والجنسي خارج إطار أي منظومات متجاوزة، فتسقط الخصوصية القومية ويظهر الإنسان الطبيعي العام الذي لا يبحث إلا عن راحته أو عن الإشباع الفوري.
وتتسم المنتجات الحضارية الأمريكية بالمواصفات اللازمة التي تشبع رغبات هذا الإنسان الطبيعي العمومي الأممي. ولعل الدارس لليابان يعرف ماذا يحدث لها، فبعد أجيال من الحديث عن الشنتو والبوذية واحتفال الشاي والكيمونو والكابوكي والنوه والهايكو، وبعد سنين طويلة من التمسك بأهداب الخصوصية، اكتسحت الحضارة الأمريكية الأجيال الجديدة فهم الآن يلبسون التي شيرت ويشربون الكوكاكولا ويأكلون الهامبورغر ويرقصون الديسكو ويجرون عمليات جراحية على عيونهم حتى لا تكون ضيقة مثل عيون الآسيويين.
وقل الشيء نفسه عن الدولة اليهودية التي يستند سبب وجودها إلى تحقيق الهوية اليهودية الافتراضية. هذه الدولة اكتسحتها تماماً النزعة نحو الأمركة وإن كانوا يدّعون أن هناك هوية يهودية، لذلك، بدلاً من أن يأكلوا ماكدونالد يأكلون الماكديفيد، ويا لها من هوية (وحتى هذا الماكديفيد قد تساقط أخيراً هو الآخر وأصبح ماكدونالد لا شبهة فيه.
وبنيت في القدس، عاصمة إسرائيل الأبدية كما يقولون، محلات هامبورغر لا تتبع قوانين الطعام الشرعية اليهودية). وانتشار الأمركة في العالم هو تعبير عن هذا الانتقال من مرحلة الخصوصية إلى مرحلة العمومية في المجتمعات القومية العلمانية، وهو ما نشير إليه بالانتقال من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة، ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وبعد أن كان السوق والمصنع هما العنصران الأساسيان ينضم إليهما قطاع اللذة والاستهلاك الذي نرمز له بالملهى الليلي أو شركة السياحة.
ويجب أن ندرك أن هذه الأمركة ليست مؤامرة أو حتى مخططاً، وإنما هو نسق حضاري (أو شبه حضاري) لا يحطم الحضارات الأخرى وحسب بل ويحطم الخصوصية الأمريكية والثقافة الأمريكية ذاتها، فالهامبورغر ليس طعاماً أمريكياً والديسكو ليست موسيقى أمريكية وإنما هي أشكال حضارية ظهرت مع انتقال الحضارة العلمانية الأمريكية والثقافة الأمريكية من مرحلة الخصوصية والصلابة والتماسك إلى مرحلة العمومية والسيولة، وهو انتقال يؤدي إلى تحطيم الخصوصيات الأمريكية (حضارة الساحل الشرقي- حضارة وسط أمريكا- حضارة الجنوب...إلخ).
وهي حضارات محلية في غاية الثراء، كلها آخذة في التآكل السريع بتأثير عمليات الأمركة والعلمنة (في هذا المادي). لهذا يمكننا القول بأن الأمركة، في واقع الأمر، مترادفة مع "العولمة" و"الكوكبة" التي تزيل الحواجز بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والأشياء، ليظهر الإنسان الطبيعي الذي لا خصوصية له ولا هوية.
وقد كانت الولايات المتحدة مرشحة أكثر من غيرها أن تكون حضارة علمانية مادية نماذجية لأسباب تاريخية واقتصادية وسياسية وأخرى ثقافية وفكرية، أي أن هناك مركب من الأسباب المتداخلة، ولكن سنفصلها بعضها عن بعض كضرورة تحليلية، ولنبدأ بالأسباب التاريخية:
1- نقل (ترانسفير) السكان الأصليين من الأماكن التي كان يرغب فيها الإنسان الأبيض إلى مناطق يرغب عنها. كما كان النقل يأخذ أحياناً شكلاً أكثر جذرية، إذ كان يتم نقل السكان الأصليين من هذا العالم إلى العالم الآخر عن طريق إبادتهم، ولا يمكن القيام بهذه العملية إلا بإنكار تاريخ هؤلاء الضحايا، فبهذه الطريقة يتحولون إلى أشياء يمكن اجتثاثها ببساطة.
2- اختطاف مادة بشرية من أفريقيا واقتلاعها من جذورها ونقلها (ترانسفير) إلى الأرض الجديدة لتصبح مادة استعمالية وطاقة عضلية صرف بلا ذاكرة تاريخية أو تراث.
3- نقل عناصر مهاجرة من أوروبا أساساً (ومن بعض الحضارات الأخرى). والعناصر المهاجرة هي عادة عناصر حركية تبحث عن الحراك الاجتماعي من دون تقيد كبير بأي مطلقات وتترك وراءها ذاكرتها التاريخية لتبدأ من جديد (من نقطة الصفر) في الوطن الجديد، وهي عناصر بشرية تحلم بالعودة الرحمية للفردوس الأرضي ونهاية التاريخ، وبالعيش في مجتمع تسيطر عليه قيم الراحة والاستمتاع الفوري من دون أي إحساس بالذنب أو بالثنائيات أو المطلقات التقليدية. والولايات المتحدة، هذه الأرض العذراء، كانت بمثابة الرحم الأكبر لهم.
ولنلاحظ أن القاسم المشترك الأكبر بين كل هذه الظواهر هو إنكار التاريخ، الذي هو في جوهره إنكار التركيبية الإنسانية مما يؤدي إلى الوقوع في قبضة الصيرورة المادية. وقد أثر كل هذا في التصور الأمريكي للإنسان فعُرّف باعتباره باحثاً عن اللذة، أي كائناً جسمانياً، وباعتباره دافعاً للضرائب، أي كائناً اقتصادياً، وهو تصور معاد للتاريخ والتركيبية الإنسانية، فهو يختزل الإنسان إلى عنصرين ماديين.
والله أعلم.
نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري
واقرأ أيضًا:
الإمبريالية النفسية / الإنسان والتاريخ / أسئلة الهوية / الحداثة ورائحة البارود