يفترض أنه من البديهيات أن لكل مجتمع خصوصياته ولكل تجربة ظروفها الموضوعية، وما دمنا نتحدث عن التجارب الإسلامية فهل كان المسلمون في المدينة المنورة كمن استطاعوا البقاء في مكة؟ وماذا عن المسلمين في البوادي من القبائل التي دخلت الإسلام؟ وماذا عن البلاد التي جرى فتحها لاحقاً؟ الكل جمعتهم عقيدة واحدة وقرآن واحد ونبي واحد، ونظام سياسي واحد ظل مستمراً لقرون وإن اختلفنا حول أدواته وطريقة وصوله للسلطة السياسية بعد الخلفاء الراشدين... إلا أن لكل مجتمع "منطقة" كانت هناك خصوصيات وطريقة إدارة خاصة به فيما يتعلق بطباع أهله وظروفهم المعيشية والجغرافية... والآن نرى أن الجميع حصر التجارب فقط بتجربـة إيران وتجربـة (أردوغان) وأحياناً تجربـة "طالبان" أو تجربـة "حماس" في غزة... وتلك مغالطـة كبيرة، وهذه المقالـة المجزأة تحاول مناقشـة هذه المسـألـة وتناول ظروف كل تجربـة أو ثورة وخصوصياتها....
(1) إيران... تغيير سريع شامل
لقد فشلت محاولة إصلاح النظام الإيراني من داخله حين تولى الدكتور محمد مصدق رئاسة الوزراء ووقف ضد الشاه (1951-1953م) وضد العسكر والعسكرة و«لعب بالنار» حين أمم النفط؛ وكانت نهايته السجن والإقامة الجبرية حتى توفاه الله، ولم يكن مصدق إسلامياً إلا أنه أيضاً لم يكن علمانياً، وقد واجه مصدق أعداء أقوياء في داخل إيران وخارجها من أصحاب المصالح والنفوذ من عسكر ورجال أعمال وأيضاً علماء دين تحالفوا مع هؤلاء، والأنكى موقفف أمريكا وبريطانيا اللتان عملتا على إسقاطه وإجهاض تجربته وهي في مهدها.
تنبه الإمام الخميني إلا أن لا حل مع نظام الشاه سوى بالاقتلاع النهائي والاجتثاث الكامل من الجذور وبأن محاولات ترقيع وإصلاح النظام ضررها أكبر من نفعها؛ فبدأ نشاطه في 1963م وتعرض للنفي فاستغل المنفى للحشد وجمع الأنصار وبسبب ما تمتع به من (كاريزما) وقدرة على التأثير في أبناء شعبه إضافة إلى مكانته الدينية بحصوله على أعلى رتبة في المذهب الجعفري وهي آية الله العظمى مع ما وصل إليه نظام الشاه من فساد مالي وإداريي وظلم للشعب الإيراني وتبعية مخزية للغرب وأمريكا، فقد نجح وهو في منفاه بتفجير ثورة شعبية سلمية قوامها مسيرات مليونية اندلعت أواخر العام 1978م وبلغت ذروتها في شباط/فبراير 1979م بـفرار الشاه محمد رضا بهلوي وعودة الخميني إلى وطنه منتصراً، وهنا كان على الخميني مواجهة ما واجهه مصدق من مؤسسات النظام القديم والمنتفعين منها والثورة المضادة التي كانت أمريكا على وشك القيام بها مع أنها تخلت عن الشاه كما تفعل هي وأي قوة إمبرياليـة بعملائها الذين تنتهي صلاحيـة اسـتخدامهم؛ كما أن الثورة الإيرانية شاركت بها قوى ليبرالية ويسارية مثل الحزب الشيوعي (توده) ومنظمة (مجاهدي خلق) إلا أن القوى غير الإسلامية اصطدمت بالقوة الأكبرر والأكثر شعبية وتأثيراً وأصحاب التضحيات الأكبر في مواجهة النظام الساقط وهم علماء الدين وطلبة المعاهد الدينية وأنصارهم الذين اعتبروا الخميني مرجعيتهم، وقد تورطت هذه القوى بعمليات قتل ممنهجة للقيادات الإسلامية،، ولمن لا يعرف فإن يد مرشد الثورة الحالي علي الخامنئي اليمنى قد بُترت جرّاء انفجار دبرته هذه القوى، وهو ما أدى إلى شن حملة شعواء ضد هذه القوى ومنعها من ممارسة نشاطها وملاحقتها حتى اللحظة، أما مؤسسات النظام فقد عمد الخميني إلى تفكيك شامل لجهاز «السافاك» سيء السمعة الذي أذاق الإيرانيين كؤوس العذاب الأليم، وقدم المتورطون من هذا الجهاز بعمليات التعذيب والقتل إلى المحاكم وبعضهم كانت الجماهير الغاضبةة تقوم بقتلهم وهم في طريقهم إلى المحاكم أو حتى في أماكن احتجازهم، ولم يُسمح لهؤلاء بإعادة ترتيب صفوفهم وكان اجتثاثهم حقيقياً لا شكلياً، أما مؤسسة الجيش فقد حرص الخميني على أن يواجه المتظاهرون رصاصص الجنود ودباباتهم بالصدور العارية وأحياناً بالزهور، وهو ما حال دون فشل الثورة وهي في مهدها وانشقت قطاعات كبيرة من الجيش ورفضت تنفيذ أوامر قتل المتظاهرين، وقد سارع الخميني إلى إعادة بناء الجيش على أساس الولاء للثورة وأقصى من يشك بحنينه إلى الشاه ونظامه، وجرى تأسيس جهاز قوي هو الحرس الثوري العقائدي المكلف أساساً بالتصدي لأي محاولة انقلابية والدفاع عن نظام الجمهورية الإسلامية الذي أُقيم على أنقاض نظام الشاه..
هذا على الصعيد الداخلي ولكن ماذا عن الثورة المضادة التي كانت أمريكا تُدبرها؟ لقد كان الخوف من تكرار تجربة مصدق هاجساً يُخيم على الوعي الجمعي للثوار الإيرانيين، وكانت الأعين متجهة بقلق وتوجس إلى سفارة أمريكا في طهران، والسفارة ليست بناية عادية بل هي مجمع ضخم، حيث أن أمريكا، وفي إطار الحرب الباردة، كانت تستخدم إيران كمحطة تجسس متقدمة على الاتحاد السوفيتي المجاور، وكان لا بد من فعل شيء للحيلولة دونن إفشال الثورة وإعادة إنتاج نظام الشاه، فسارعت مجموعة من الطلبة إلى احتلال السفارة الأمريكية وهي أكبر وكر للتجسس في المنطقة في تلك الفترة، واحتجزت أكثر من خمسين موظفاً ودبلوماسياً في المجمع التجسسي المسمى كذباً «سفارة»...، وحقيقة لا نستطيع الجزم بأن هذه الخطوة كانت بإيعاز وأمر من الخميني أم لا، إلا أنه وإن لم يُباركها لم يعترض عليها ولم يحاول إنهاءها، ولقد قام موظفو السفارة فور بدء الهجوم الطلابي بمحاولةة إتلاف وفرم الوثائق ومع أنهم تمكنوا من إتلاف كمية من هذه الوثائق إلا أن ما وقع بأيدي الطلبة عزّز اليقين بوجود ثورة مضادة وكشف عن جزء من مؤامرات ودسائس ومخططات أمريكا في المنطقة.
جملة معترضة: فيما يتعلق بالسفارة الإسرائيلية في طهران فقد هاجمها جمهور غاضب استُشهد 13 شخصاً منه بسبب الأسلاك المكهربة التي تُحيط بأسوارها وتمكن من بداخلها من الفرار من مخرج سرّي أُعد مسبقاً، وأُهدي مقر السفارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
ولقد استمرت عملية احتلال السفارة الأمريكية واحتجاز موظفيها مدة 444 يوماً وهي مدة كانت كافية لإشغال أمريكا بمحاولة تخليصهم بشتى الطرق، حيث أن مصير (جيمي كارتر) كان مرهوناً بتحرير موظفي السفارة، فنفذت أمريكا عملية عسكرية فشلت قبل أن تبدأ في صحراء إيران، كان هذا ما يشغل الأمريكان بدل انشغالهم بإجهاض الثورة التي أيضاً استغلت هذا الوقت للتغلغل في الدولة والمجتمع وتفكيك معظم ما كان قائماً أيام الشاه منن مؤسسات وبناء مؤسسات أخرى جديدة على أُسس مختلفة وبعقيدة عمادها ولاية الفقيه: وهي الفكرة التي طرحها الخميني، وأُعيدت كتابة المناهج وأُغلقت الجامعات لفترة حتى أُعيد ترتيب وضعها بما لا يتعارض مع فكر الثورة...
كانت هناك عملية تغيير شاملة وواسعة في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وجدير بالذكر أن تلك الفترة شهدت انطلاقاً لما عُرف بالصحوة الإسلامية؛ فمع الثورة الإيرانية كان احتلال الجيش الأحمر لأفغانستان وهو ما شجع لاحقاً على انطلاق مقاومة ضده، واغتيال السادات في خريف 1981 على يد عناصر من تنظيم الجهاد، وانتشار ملحوظ تعزز وتصاعد للتيارات الإسلامية الإخوانية في جامعات كثيرة بعضها كانت حُكراً على القوميين واليساريين، وإقبال متزايد على الكتاب الإسلامي والشريط الإسلامي واللباس الشرعي....إلخ، هكذا كانت تلك الفترة، إلا أن وسائل الإعلام في تلك الفترة لم تكن متطورة وبهذا الانتشار الذي نراه اليوم، ومع أن أخبار الثورة والإطاحة بالشاه تدفقت عبر الصحف والإذاعات والمرئيات، إلا أن الإعلام كان رسمياً بمعظمه، أو غربياً له غرض، وهذا أيضاً حدّ من معرفة الناس خارج حدود إيران للثورة وحقيقتها وأهدافها وقادتها إلا وفق تصفية إعلامية.
(2) الحرب مع العراق
ومما زاد من رسوخ أقدام النظام الجديد في طهران اندلاع الحرب مع العراق، ومن طبيعة الشعب الإيراني أن لديه حساسية تجاه أمنه القومي ويتوحد ضد الخطر الخارجي، فتوجهت الأنظار نحو الخارج لا الداخل، إلا أن الحرب استنزفت البلدين كثيراً، ومع أن الدعم الغربي لنظام صدام في الحرب كان سافراً بهدف إضعاف أو إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، إلا أن ثمة ملفات جعلت إيران في موقف حرج؛ مثل فضيحة (إيران ـ غيت ـ كونترا)، وعمليات قصف طالت مدنيين عراقيين أساءت لسمعة إيران، كما أن جموع المسلمين لم يستسيغوا استمرار سفك دماء مسلم على يد أخيه المسلم ولو تحت عنوان «معاقبة المعتدي» الذي رفعه الإيرانيون ورفضوا وقف الحرب إلا بعد أنن كبدهم العراقيون خسائر فادحة في ميدان المعركة.
إجمالاً استفاد نظام الثورة الإسلامية من حربه مع العراق في مجال بناء قدرات ذاتية عسكرية وغيرها والاعتماد على الذات أكثر من السابق بكثير، حيث أن النظام تعرض لحصار وعقوبات منذ حادثة السفارة وجمدت أمريكا والغرب أموال إيران التي أودعها الشاه فيها، كما أن انشغال الشباب الإيراني في القتال على جبهات المعارك أجّل إلى سنين طويلة أسئلة الاقتصاد والتنمية وغيرها....
وبمشيئة المولى في الجزء الثاني من المقال سأناقش أين نجح وأين أخفق النظام الإيراني....
ويتبع >>>>>>: «الريّس» مرسي... لا إيران ولا أردوغان (2/5)
واقرأ أيضًا: