«الريّس» مرسي... لا إيران ولا أردوغان (1/5)
(3) استمرارية مع نجاحات وإخفاقات
استمر نظام الجمهورية الإسلامية في حكم إيران حتى الآن، وقد مرَّ النظام بمراحل صعبة واختبارات قاسية، ويشهد خصومه قبل أصدقائه أنه استطاع بحنكة واقتدار ودهاء سياسي اجتيازها؛ فالحرب مع العراق لم تكن سهلة، ومن ثم وفاة الخميني، والجدل الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين وما بينهما الذي كان يأخذ أحياناً طابعاً فيه عنف وصخب... والآن وبعد حوالي 33 عاماً فإن إيران قوة إقليمية يُعمل لها ألف حساب؛ ومع أن التركيز فقط على برنامجها النووي وقوتها العسكرية المتنامية، وهي بلا شك إنجازات كبيرة، إلا أن إيران إضافة إلى هذه الإنجازات قد حققت تقدماً في مجالات صناعية عِدة، وفي الحقل الطبي فإيران متقدمة، بل حتى في مجال الإنتاج الفني والسينمائي فإيران تمكنت من ترك بصمات واضحة ومميزة... وكل هذا وأي نجاح وتقدم إيراني له قيمة خاصة نظراً لما تُعانيه إيران من عقوبات اقتصادية متراكمة ومحاولات عزل سياسي، وهي في أثناء الحرب الباردة رفعت شعار«لا شرقية ولا غربية» وظلّت حتى الآن تصف أمريكا بـ "الشيطان الأكبر" دون أن يكون هذا الكلام حنجورياً وللاستهلاك المحلي بل رافقته ورشة عمل جادة نقلت إيران إلى موقع القوة التي لا يمكن تجاهلها، وأصبح لإيران من يؤيدها ويتحالف معها ويُواليها من قوى تطورت وكبرت أبرزها "حزب الله" اللبناني الذي يُعتبر الحزب الأقوى في العالم بفضل الإسناد الإيراني، ورأس حربة متقدمة لمواجهة (إسرائيل) التي تدور بينها وبين إيران حرب باردة وساخنة في آن واحد.
بيد أن هذه النجاحات ـ على أهميتها ـ تُقابلها إخفاقات لا يمكن التغاضي عنها وعن نتائجها؛ وبعض هذه الإخفاقات ذاتية، وبعضها بسبب العامل الخارجي، وسأتناول سريعاً العوامل الذاتية لأنها هي ما توجب اللوم والنقد للنظام وتقيم من خلالها مسيرة الثورة والأنموذج في إيران.
(4) البقاء في بوتقة القومية والمذهبية الضيقة
يعرف كثيرون بأن إيران تبنت نهج أو فكرة تصدير ثورتها إلى العالم الإسلامي عامة وبلاد العرب خاصة، وحقيقة فإن الثورة التي أطاحت بنظام شمولي قمعي وتمكنت من إقامة نظام "إسلامي عصري" مكانه قد أسرت ألباب كثير من الشباب من مختلف مكونات الاتجاه الإسلامي، وهناك من أخذته الحماسة نحو محاولة التقليد والاستنساخ، وهناك من أعطى وما زال الولاء المطلق لطهران؛ إلا أن إيران ـ للأسف ـ لم تنجح عبر نظامها الناتج عن ثورة عظيمة في الخروج من قوقعة القومية الفارسية، والمذهبية الشيعية، ولم تقدم رؤية جاذبة لوحدة المسلمين من خلال أنموذج عملي، وكأنها تكرر الشعوبية بثوب جديد، ومع أن ثمة من يُحاجج بأن العداء القائم تجاه إيران بناءً على القومية والمذهب هو أصلاً بتحريض وتمويل وتخطيط غربي مدروس، تُرافقه مساندة عضوية من بعض العرب والسنة، ويأتون بأدلة وأمثلة في هذا السياق مثل تصريحات (هنري كيسنجر) بأن الكتب التي كانت تُهاجم الشيعة باسم السنة كانت تُباع بسعر التكلفة، وذلك للتصدي للثورة الإيرانية وإبطال تمددها... هذا صحيح إلا أن للقصة وجه آخر؛ فإيران لم تعمل بجدية على طمأنة المحيط العربي وهي تعرف الشعور القومي لديهم؛ فعلى الصعيد الداخلي سيطرت الثقافة واللغة الفارسية على المجتمع ومكوناته، مع أن الفرس نسبتهم 45% فقط من مجموع سكان البلاد، ولم تحل مشكلة الأحواز (الأهواز) العربية بطريقة تحفظ وحدة البلاد وتُراعي خصوصية أهلها وساكنيها، وظهرت إيران بروح عصبية يأباها الإسلام حين أصرّت على تسمية الخليج بـ "الفارسي"، ورفضت حتى تسميته بالخليج الإسلامي أو الاكتفاء بكلمة الخليج؛ رفضتها إيران بعناد غريب مريب، متذرعة بخرائط قديمة وشهادات من قوى استعمارية، وبالتأكيد فإن مثل هذه المواقف تُظهر إيران كقوة ودولة تحمل مشروع هيمنة قومية فارسية، لا أنموذجاً إسلامياً يتعايش ويستوعب كل المكونات الثقافية والعرقية، وهي مواقف تُشعل الهواجس وتؤكد المخاوف بأن لإيران أطماعاً بهذا الاتجاه، خاصة إذا أضفنا بعض التصريحات والعبارات التوتيرية التي ترى بأن الفرس كان لهم حضارة فجاء «الأعراب» ودمروها، وأن الفتح الإسلامي لبلاد فارس لم يكن إلا احتلالاً قضى على تلك الحضارة!
أما على الصعيد المذهبي فإن الخلاف السني ـ الشيعي لم يشهد هذا التصعيد والشحن المتواصل ربما عبر التاريخ، ومع أن أطرافاً سنية ما فتأت تضع الشيعة كعدو مركزي بل العدو الرئيس وتقول بحقهم ما يجوز وما لا يجوز، وبعضها يعتبر بأن الشيعة وإيران أخطر من (إسرائيل)، وهذا قول مردود على أصحابه بطبيعة الحال، إلا أن إيران من جهتها لم تُفلح في تقديم أنموذج يتقبله الجمهور المسلم، وهي تعلم يقيناً أن السنة هم السواد الأعظم من أمة الإسلام، بل ظهرت إيران وكأنها تبغي زعامة شيعية على جموع المسلمين، ولم تقدم رؤية إسلامية شاملة وجدية تُخفف أو تُهمّش الخلافات المذهبية أو تُبقيها في إطار نظري، سواء في تعاطيها مع الشأن الداخلي أو مع محيطها، وينص الدستور الإيراني على أن مذهب الجمهورية هو الإمامي الجعفري الإثني العشري وبأن هذه المادة غير قابلة للإلغاء أو التعديل، وهناك شكاوي من مضايقات يتعرض لها أهل السنة (حوالي ثلث السكان) ومع أن بعض وسائل الإعلام تُبالغ في هذه المسألة، إلا أنه من المؤكد أن مناطق السنة لا تأخذ نصيباً معقولاً من التطوير والتنمية والاهتمام، وهناك مبالغة في التعامل الأمني مع ساكنيها، كما أن تمثيل السنة في مؤسسات الدولة لا يتناسب مع حجمهم، وهذه سياسة لا تقتصر على المحافظين بل على الإصلاحيين، لدرجة أن سنة إيران أعربوا عن انزعاجهم من الرئيس السابق محمد خاتمي الذي انتخبوه ودعموه بناءً على وعوده بالإصلاح، بينما هو حتى لم يُعين ولو سائقاً سنياً واحداً من حاشيته، ويوجد في طهران كنائس وكُنس إلا أنه لا يوجد مسجد واحد للسنة بحجة أن المساجد مفتوحة للجميع، علماً بأن في طهران حوالي 300 ألف سني، والمستهجن بأنه حينما تُطرح هذه المظالم تواجه بعذر أقبح من ذنب عبر الحديث عن أوضاع الشيعة في بعض البلدان ذات الغالبية السنية؛ وهذا لا يُقبل ولا يُعتد به، لأن الثورة رفعت شعار الإسلام فوجب أن تترفع وتتجاوز المذهبية الضيقة الذميمة، ومنذ متى تتحول الدولة الداعية لنصرة المستضعفين إلى أداة انتقام أو وسيلة لردات الفعل ضد من لا ذنب لهم أصلاً بما يُقال أنه يحصل في بلدان أخرى..!؟؟
فكان وما زال من المفترض أن تُمثل الدولة الإيرانية المنبثقة عن ثورة لا شك في عظمتها وشرعيتها أنموذجاً للوحدة ولو ضمن الحدود الدنيا؛ فمثلاً آية الله محمد علي تسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب في طهران قال كلاماً جميلاً عن مسألة وجود ضريح أو مزار للملعون أبو لؤلؤة المجوسي في كاشان؛ فوصفه بأنه قاتل مجرم لا قيمة له وأنه أصلاً دُفن في المدينة المنورة، إلا أن الأمر بقي في الإطار النظري والمجاملات، ولم يُهدم هذا المبنى المثير للفتنة والاشمئزاز بحجج ضعيفة، أفلا يجدر بالدولة ـ الثورة تقديم بادرة حُسن نية تجاه الأغلبية الساحقة من المسلمين؟!
أما على صعيد المحيط الخارجي فتكفينا نظرة إلى وضع العراق الذي لإيران فيه نفوذ كبير، حيث انتشرت الفتنة المذهبية ومنعت إيران الشيعة من مقاومة الأمريكان، وأصبحت الدولة العراقية فاشلة أو مجموعة (كانتونات) مذهبية وعرقية، ويُضاف إلى ذلك محاولات إيران نشر التشيّع في مجتمعات تحالفت أنظمتها معها، أو لها مداخل لشرائح معينة فيها، وهذا النشاط لن يزيد من نسبة وتعداد الشيعة، مثلما أنه لن ينقص من السنة ونسبتهم، بل هو نشاط يُثير الشكوك ويُنتج مشكلات اجتماعية وعائلية، ويُسعّر نار الفتن، ويفتح لمن هم أصلاً رافضين لإيران بناء على تعصب مذهبي ذخيرة لجذب مزيد من الأنصار.
(5) ضعف البناء القيمي للمجتمع
كثيراً ما تردنا أخبار عن إيرانيين حين يُغادرون بلادهم إلى الغرب ينغمسون في اللهو والمجون بطريقة توحي بأنهم كانوا يتوقون إلى ذلك وهم في بلادهم، وإيرانيات يتخلين ليس فقط عن (التشادور) بل حتى عن غطاء الرأس فور مغادرة البلاد، وتذمر بدا يتسرب من خلال (الإنترنت) وغيره من النظام وأجهزته السلطوية؟
هذا يدل على عدم قناعتهم بحكومة بلدهم، والسبب أن النظام ركن إلى أسلوب الترغيب والترهيب بدل الإقناع وإيجاد بنية ثقافية اجتماعية تؤمن بقيم الثورة وفكرها... طبعاً قد يُقال بأن هؤلاء لا قيمة لهم لأن نسبتهم قليلة جداً، وحتى لو كان هذا صحيحاً فإنهم في تزايد، وأيضاً فإن الإيرانيين خير من يعلم فكرة السيد جمال الدين الأفغاني (يُسمى الأسدبادي في إيران) عن "البرغي" الصغير الذي قد يُعطل آلة ضخمة! ويبدو أن الشباب الذين يُشكلون الغالبية العظمى من سكان إيران بحاجة إلى أساليب أخرى غير المتبعة منذ قيام الثورة، لا سيما وأن جيلاً قد نشأ وكبر ولم يعش تحت حكم الشاه ليُقارن بينه وبين نظام الثورة، فهو يرى هذا النظام فقط ويقيس المساوئ والمحاسن تحت حكمه.
(6) انعدام ثقافة النقد للمرجع
في مجال الحوار والمطارحات الفكرية والنقاش تُعتبر إيران متقدمة جداً على أنظمة العرب الديكتاتورية لا سيما المخلوعة منها، وحتى من هم ضدها ويُشاركون في مؤتمرات وندوات تُنظمها إيران سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي يشهدون بسعة فضاء حرية النقاش وتبادل الأفكار؛ بيد أن هذا أولاً يبقى في إطار فكري نظري، وثانياً هو نقاش عموميات تخص الأمة أكثر مما تخص الداخل الإيراني.
وعلى المستوى الداخلي في إيران فإن نقد المرشد أو المرجع يُعتبر من المحرمات، وللمرجع قداسة لا يُزيلها إلا مرجع مثله في إطار خلافات أو نزاعات، مثلما حصل مع منتظري مثلاً، وأي مجتمع يوجد فيه محرمات (تابو) من هذا النوع يكون مهدداً، وقد يُبرر هذا بحجج فقهية أو خلافه، أو بالقول بأنه ليس من المعقول أن تُقلل هيبة المرشد برسوم كاريكاتورية أو كتابات ساخرة، أو حتى نقاش رصين ممن يقل عنه رتبة، لا سيما وأن المرشد والمرجع هو صمام الأمان للدولة والمجتمع، وهو الذي يستطيع نزع فتيل الأزمات؛ هذا صحيح من زاوية وخطأ من زوايا؛ فالتقديس وتجنب النقد لأي كائن بشري قد يقوده إلى اتخاذ قرارات خاطئة ويفصله ذهنياً عن واقعه، كما أن سعة الصدر للنقد والأخذ والرد تبني الثقة وتمنع الهمس والحديث الجانبي واللغط الذي قد يستغله الأعداء، والأهم أن الإسلام شجع على النقد البناء والنقاش للقائد بمن في ذلك سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وليس المطلوب هنا فتح الباب على مصراعيه وتحويل الأمر إلى بازار للسخرية والمزايدة والتطاول، بل المفروض أن يكون للجنة مختارة من مجلس الشورى (برلمان إيران) ومجموعة من أهل علوم الدين والدنيا ورجال السياسة هامش واسع للنقد والمناقشة...
على أية حال، كانت القداسة والهالة حول المرشد والمرجع سبباً في تخوف وعزوف جماهير إسلامية واسعة من إيران لأنها عاشت تقديساً إجباريا للديكتاتوريات العسكرية والسياسية وهي ترى في الأمر سلطة دينية تفوق ذلك...
بمشيئة المولى سأناقش في الجزء الثالث الفروق الرئيسة بين الحالة الثورية المصرية ونظيرتها الإيرانية.
ويتبع >>>>>>: «الريّس» مرسي... لا إيران ولا أردوغان (3/5)
(3) استمرارية مع نجاحات وإخفاقات
استمر نظام الجمهورية الإسلامية في حكم إيران حتى الآن، وقد مرَّ النظام بمراحل صعبة واختبارات قاسية، ويشهد خصومه قبل أصدقائه أنه استطاع بحنكة واقتدار ودهاء سياسي اجتيازها؛ فالحرب مع العراق لم تكن سهلة، ومن ثم وفاة الخميني، والجدل الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين وما بينهما الذي كان يأخذ أحياناً طابعاً فيه عنف وصخب... والآن وبعد حوالي 33 عاماً فإن إيران قوة إقليمية يُعمل لها ألف حساب؛ ومع أن التركيز فقط على برنامجها النووي وقوتها العسكرية المتنامية، وهي بلا شك إنجازات كبيرة، إلا أن إيران إضافة إلى هذه الإنجازات قد حققت تقدماً في مجالات صناعية عِدة، وفي الحقل الطبي فإيران متقدمة، بل حتى في مجال الإنتاج الفني والسينمائي فإيران تمكنت من ترك بصمات واضحة ومميزة... وكل هذا وأي نجاح وتقدم إيراني له قيمة خاصة نظراً لما تُعانيه إيران من عقوبات اقتصادية متراكمة ومحاولات عزل سياسي، وهي في أثناء الحرب الباردة رفعت شعار«لا شرقية ولا غربية» وظلّت حتى الآن تصف أمريكا بـ "الشيطان الأكبر" دون أن يكون هذا الكلام حنجورياً وللاستهلاك المحلي بل رافقته ورشة عمل جادة نقلت إيران إلى موقع القوة التي لا يمكن تجاهلها، وأصبح لإيران من يؤيدها ويتحالف معها ويُواليها من قوى تطورت وكبرت أبرزها "حزب الله" اللبناني الذي يُعتبر الحزب الأقوى في العالم بفضل الإسناد الإيراني، ورأس حربة متقدمة لمواجهة (إسرائيل) التي تدور بينها وبين إيران حرب باردة وساخنة في آن واحد.
بيد أن هذه النجاحات ـ على أهميتها ـ تُقابلها إخفاقات لا يمكن التغاضي عنها وعن نتائجها؛ وبعض هذه الإخفاقات ذاتية، وبعضها بسبب العامل الخارجي، وسأتناول سريعاً العوامل الذاتية لأنها هي ما توجب اللوم والنقد للنظام وتقيم من خلالها مسيرة الثورة والأنموذج في إيران.
(4) البقاء في بوتقة القومية والمذهبية الضيقة
يعرف كثيرون بأن إيران تبنت نهج أو فكرة تصدير ثورتها إلى العالم الإسلامي عامة وبلاد العرب خاصة، وحقيقة فإن الثورة التي أطاحت بنظام شمولي قمعي وتمكنت من إقامة نظام "إسلامي عصري" مكانه قد أسرت ألباب كثير من الشباب من مختلف مكونات الاتجاه الإسلامي، وهناك من أخذته الحماسة نحو محاولة التقليد والاستنساخ، وهناك من أعطى وما زال الولاء المطلق لطهران؛ إلا أن إيران ـ للأسف ـ لم تنجح عبر نظامها الناتج عن ثورة عظيمة في الخروج من قوقعة القومية الفارسية، والمذهبية الشيعية، ولم تقدم رؤية جاذبة لوحدة المسلمين من خلال أنموذج عملي، وكأنها تكرر الشعوبية بثوب جديد، ومع أن ثمة من يُحاجج بأن العداء القائم تجاه إيران بناءً على القومية والمذهب هو أصلاً بتحريض وتمويل وتخطيط غربي مدروس، تُرافقه مساندة عضوية من بعض العرب والسنة، ويأتون بأدلة وأمثلة في هذا السياق مثل تصريحات (هنري كيسنجر) بأن الكتب التي كانت تُهاجم الشيعة باسم السنة كانت تُباع بسعر التكلفة، وذلك للتصدي للثورة الإيرانية وإبطال تمددها... هذا صحيح إلا أن للقصة وجه آخر؛ فإيران لم تعمل بجدية على طمأنة المحيط العربي وهي تعرف الشعور القومي لديهم؛ فعلى الصعيد الداخلي سيطرت الثقافة واللغة الفارسية على المجتمع ومكوناته، مع أن الفرس نسبتهم 45% فقط من مجموع سكان البلاد، ولم تحل مشكلة الأحواز (الأهواز) العربية بطريقة تحفظ وحدة البلاد وتُراعي خصوصية أهلها وساكنيها، وظهرت إيران بروح عصبية يأباها الإسلام حين أصرّت على تسمية الخليج بـ "الفارسي"، ورفضت حتى تسميته بالخليج الإسلامي أو الاكتفاء بكلمة الخليج؛ رفضتها إيران بعناد غريب مريب، متذرعة بخرائط قديمة وشهادات من قوى استعمارية، وبالتأكيد فإن مثل هذه المواقف تُظهر إيران كقوة ودولة تحمل مشروع هيمنة قومية فارسية، لا أنموذجاً إسلامياً يتعايش ويستوعب كل المكونات الثقافية والعرقية، وهي مواقف تُشعل الهواجس وتؤكد المخاوف بأن لإيران أطماعاً بهذا الاتجاه، خاصة إذا أضفنا بعض التصريحات والعبارات التوتيرية التي ترى بأن الفرس كان لهم حضارة فجاء «الأعراب» ودمروها، وأن الفتح الإسلامي لبلاد فارس لم يكن إلا احتلالاً قضى على تلك الحضارة!
أما على الصعيد المذهبي فإن الخلاف السني ـ الشيعي لم يشهد هذا التصعيد والشحن المتواصل ربما عبر التاريخ، ومع أن أطرافاً سنية ما فتأت تضع الشيعة كعدو مركزي بل العدو الرئيس وتقول بحقهم ما يجوز وما لا يجوز، وبعضها يعتبر بأن الشيعة وإيران أخطر من (إسرائيل)، وهذا قول مردود على أصحابه بطبيعة الحال، إلا أن إيران من جهتها لم تُفلح في تقديم أنموذج يتقبله الجمهور المسلم، وهي تعلم يقيناً أن السنة هم السواد الأعظم من أمة الإسلام، بل ظهرت إيران وكأنها تبغي زعامة شيعية على جموع المسلمين، ولم تقدم رؤية إسلامية شاملة وجدية تُخفف أو تُهمّش الخلافات المذهبية أو تُبقيها في إطار نظري، سواء في تعاطيها مع الشأن الداخلي أو مع محيطها، وينص الدستور الإيراني على أن مذهب الجمهورية هو الإمامي الجعفري الإثني العشري وبأن هذه المادة غير قابلة للإلغاء أو التعديل، وهناك شكاوي من مضايقات يتعرض لها أهل السنة (حوالي ثلث السكان) ومع أن بعض وسائل الإعلام تُبالغ في هذه المسألة، إلا أنه من المؤكد أن مناطق السنة لا تأخذ نصيباً معقولاً من التطوير والتنمية والاهتمام، وهناك مبالغة في التعامل الأمني مع ساكنيها، كما أن تمثيل السنة في مؤسسات الدولة لا يتناسب مع حجمهم، وهذه سياسة لا تقتصر على المحافظين بل على الإصلاحيين، لدرجة أن سنة إيران أعربوا عن انزعاجهم من الرئيس السابق محمد خاتمي الذي انتخبوه ودعموه بناءً على وعوده بالإصلاح، بينما هو حتى لم يُعين ولو سائقاً سنياً واحداً من حاشيته، ويوجد في طهران كنائس وكُنس إلا أنه لا يوجد مسجد واحد للسنة بحجة أن المساجد مفتوحة للجميع، علماً بأن في طهران حوالي 300 ألف سني، والمستهجن بأنه حينما تُطرح هذه المظالم تواجه بعذر أقبح من ذنب عبر الحديث عن أوضاع الشيعة في بعض البلدان ذات الغالبية السنية؛ وهذا لا يُقبل ولا يُعتد به، لأن الثورة رفعت شعار الإسلام فوجب أن تترفع وتتجاوز المذهبية الضيقة الذميمة، ومنذ متى تتحول الدولة الداعية لنصرة المستضعفين إلى أداة انتقام أو وسيلة لردات الفعل ضد من لا ذنب لهم أصلاً بما يُقال أنه يحصل في بلدان أخرى..!؟؟
فكان وما زال من المفترض أن تُمثل الدولة الإيرانية المنبثقة عن ثورة لا شك في عظمتها وشرعيتها أنموذجاً للوحدة ولو ضمن الحدود الدنيا؛ فمثلاً آية الله محمد علي تسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب في طهران قال كلاماً جميلاً عن مسألة وجود ضريح أو مزار للملعون أبو لؤلؤة المجوسي في كاشان؛ فوصفه بأنه قاتل مجرم لا قيمة له وأنه أصلاً دُفن في المدينة المنورة، إلا أن الأمر بقي في الإطار النظري والمجاملات، ولم يُهدم هذا المبنى المثير للفتنة والاشمئزاز بحجج ضعيفة، أفلا يجدر بالدولة ـ الثورة تقديم بادرة حُسن نية تجاه الأغلبية الساحقة من المسلمين؟!
أما على صعيد المحيط الخارجي فتكفينا نظرة إلى وضع العراق الذي لإيران فيه نفوذ كبير، حيث انتشرت الفتنة المذهبية ومنعت إيران الشيعة من مقاومة الأمريكان، وأصبحت الدولة العراقية فاشلة أو مجموعة (كانتونات) مذهبية وعرقية، ويُضاف إلى ذلك محاولات إيران نشر التشيّع في مجتمعات تحالفت أنظمتها معها، أو لها مداخل لشرائح معينة فيها، وهذا النشاط لن يزيد من نسبة وتعداد الشيعة، مثلما أنه لن ينقص من السنة ونسبتهم، بل هو نشاط يُثير الشكوك ويُنتج مشكلات اجتماعية وعائلية، ويُسعّر نار الفتن، ويفتح لمن هم أصلاً رافضين لإيران بناء على تعصب مذهبي ذخيرة لجذب مزيد من الأنصار.
(5) ضعف البناء القيمي للمجتمع
كثيراً ما تردنا أخبار عن إيرانيين حين يُغادرون بلادهم إلى الغرب ينغمسون في اللهو والمجون بطريقة توحي بأنهم كانوا يتوقون إلى ذلك وهم في بلادهم، وإيرانيات يتخلين ليس فقط عن (التشادور) بل حتى عن غطاء الرأس فور مغادرة البلاد، وتذمر بدا يتسرب من خلال (الإنترنت) وغيره من النظام وأجهزته السلطوية؟
هذا يدل على عدم قناعتهم بحكومة بلدهم، والسبب أن النظام ركن إلى أسلوب الترغيب والترهيب بدل الإقناع وإيجاد بنية ثقافية اجتماعية تؤمن بقيم الثورة وفكرها... طبعاً قد يُقال بأن هؤلاء لا قيمة لهم لأن نسبتهم قليلة جداً، وحتى لو كان هذا صحيحاً فإنهم في تزايد، وأيضاً فإن الإيرانيين خير من يعلم فكرة السيد جمال الدين الأفغاني (يُسمى الأسدبادي في إيران) عن "البرغي" الصغير الذي قد يُعطل آلة ضخمة! ويبدو أن الشباب الذين يُشكلون الغالبية العظمى من سكان إيران بحاجة إلى أساليب أخرى غير المتبعة منذ قيام الثورة، لا سيما وأن جيلاً قد نشأ وكبر ولم يعش تحت حكم الشاه ليُقارن بينه وبين نظام الثورة، فهو يرى هذا النظام فقط ويقيس المساوئ والمحاسن تحت حكمه.
(6) انعدام ثقافة النقد للمرجع
في مجال الحوار والمطارحات الفكرية والنقاش تُعتبر إيران متقدمة جداً على أنظمة العرب الديكتاتورية لا سيما المخلوعة منها، وحتى من هم ضدها ويُشاركون في مؤتمرات وندوات تُنظمها إيران سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي يشهدون بسعة فضاء حرية النقاش وتبادل الأفكار؛ بيد أن هذا أولاً يبقى في إطار فكري نظري، وثانياً هو نقاش عموميات تخص الأمة أكثر مما تخص الداخل الإيراني.
وعلى المستوى الداخلي في إيران فإن نقد المرشد أو المرجع يُعتبر من المحرمات، وللمرجع قداسة لا يُزيلها إلا مرجع مثله في إطار خلافات أو نزاعات، مثلما حصل مع منتظري مثلاً، وأي مجتمع يوجد فيه محرمات (تابو) من هذا النوع يكون مهدداً، وقد يُبرر هذا بحجج فقهية أو خلافه، أو بالقول بأنه ليس من المعقول أن تُقلل هيبة المرشد برسوم كاريكاتورية أو كتابات ساخرة، أو حتى نقاش رصين ممن يقل عنه رتبة، لا سيما وأن المرشد والمرجع هو صمام الأمان للدولة والمجتمع، وهو الذي يستطيع نزع فتيل الأزمات؛ هذا صحيح من زاوية وخطأ من زوايا؛ فالتقديس وتجنب النقد لأي كائن بشري قد يقوده إلى اتخاذ قرارات خاطئة ويفصله ذهنياً عن واقعه، كما أن سعة الصدر للنقد والأخذ والرد تبني الثقة وتمنع الهمس والحديث الجانبي واللغط الذي قد يستغله الأعداء، والأهم أن الإسلام شجع على النقد البناء والنقاش للقائد بمن في ذلك سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وليس المطلوب هنا فتح الباب على مصراعيه وتحويل الأمر إلى بازار للسخرية والمزايدة والتطاول، بل المفروض أن يكون للجنة مختارة من مجلس الشورى (برلمان إيران) ومجموعة من أهل علوم الدين والدنيا ورجال السياسة هامش واسع للنقد والمناقشة...
على أية حال، كانت القداسة والهالة حول المرشد والمرجع سبباً في تخوف وعزوف جماهير إسلامية واسعة من إيران لأنها عاشت تقديساً إجباريا للديكتاتوريات العسكرية والسياسية وهي ترى في الأمر سلطة دينية تفوق ذلك...
بمشيئة المولى سأناقش في الجزء الثالث الفروق الرئيسة بين الحالة الثورية المصرية ونظيرتها الإيرانية.
ويتبع >>>>>>: «الريّس» مرسي... لا إيران ولا أردوغان (3/5)
واقرأ أيضًا:
الكتابة... لماذا وبأي هدف؟/ الحرية أولاً... الحريـة دائماً.../ فوراً والآن... سحب القضية من أمريكا/ ابن الداية!!