عندما طفت على الساحة في "الإعلام المصرى" أخبار ناقصة تحمل عناوين براقة ومُسيسَـة عن اختراع "علمى" يمكن بواسطته تشخيص أكثر الأمراض البشرية شراسة وضراوة، بل وعلاجها في آن واحد، ولما كان الموضوع قد بدأ الكلام عن مرضين محددين هما (الإيدز، وفيروس الكبد "سي") ثم امتد الكلام ليشمل كل الأمراض الفيروسية، واستمر في الامتداد ليشمل الأمراض السرطانية، ثم استوسع ليشمل داء السكرى؛
وبما أنني وجدت نفسي مستُفزا ومستَنـفرا لما حمله الخبر من ذكريات مؤلمة مع نظام العسكر حينما يحسون بالإفلاس فيسعون لصناعة مجد كاذب وبطولة زائفة كما يحكي التاريخ عن أسطورة المصانع الحربية في اختراع صواريخ القاهر والظافر (صواريخ لم ترَ النور حتى وقتنا الحالى)، وانطلاقا من روح الدعابة التي أعشقها فقد استهوتني شخصيا فكرة السخرية والفكاهة من تلك الأخبار.
وأعترف أن الهدف الرئيسي من السخرية لم يكن إلا لتوضيح فكرة صناعة الوهم التي قام ويقوم بها طغاة هذا الزمان، ومحاولة تنوير العقول المصرية بما حدث ويحدث. فلم أكن في كلامي مستهينا بفكرة الاختراع أو بمن قام بالجهد لانتاج يخدم البشرية بقدر ما كنت مستنكرا لاستخدام تلك الفكرة بشكل عبثي، وبطريقة عرض لا تليق بعلم أو بعالٍم.
لكنني (بعد أن شبعت من الضحك والدعابة) ارتأيت أن أتناول الموضوع من زاوية علمية تخلو من السخرية أوالدعابة حتى أوضح على أي أساس بُني موقفي الرافض (لأهبلة) العلم.
وبناء على ما سبق فقد قمت بتجميع متواضع لموضوع كثرت فيه الكتب والمراجع هو موضوع "البحث العلمي".
فقد حاولت القيام بعرض مُبسط جدًا لأسلوب المنهج العلمي وصفاته وكيفية الوصول للحقائق العلمية عند أهل العلم والطب، حتى يتمكن من يريد أن يتعرف على ما هية العـِلم وأن يستطيع أن يفرق بينه وبين الخرافة أوإدعاء العلم، وحتى نصِل مع القارئ الكريم إلى أساس متفق عليه في أي حوار جدلي حول ما نسمع من حكايات بعد ذلك مبنيٌ على تقييم منهجي وعلمي وليس فقط على الاستنباط غير المدعوم بالدليل أو حتى على بعض الحكايات والروايات المتواترة عن "أهل البَرَكة" من أجدادنا وحتى نفرق بين ما قالته خالتي وخالتك وما رأينَه بأم رأسهيما وبين ما ما تعنيه كلمة "ثبت علميًا"، أو كلمة "أثبتت التجارب العلمية".
وحتى نستطيع أن نميز بين علم العلماء وبين علم أنصاف المتعلمين ممن يطلقون العنان لأحكامهم ويوهمون الناس بأن ما يقولونه هو العلم، ولكي لا ينخدع الناس ببعض ما يصلون إليه من نتائج قد تكون بمحض الصدفة وقد تكون نتائج قابلة للحدوث دون تدخل منهم كما أنها قد تكون فعلا من تأثيرهم ولكنها لا ترقى أبدًا إلى أن تكون من العلم حتى يشرعون في ممارستها وتعميم نتائجها.
نموذج مبسط من البحث العلمي
وأبدأ على سبيل المثال؛ عندما تشفي حالة من السرطان مثلا بعد استخدام نوع معين من الأعشاب الطبية، وبالرغم من ثبوت شفاء أو تحسن في هذه الحالة بالذات واستبعاد الكذب فيه، فإن هذا لا يكفي لأن نقول "إن العلم قد أثبت نفع هذا النوع من الأعشاب في علاج مرض السرطان"، فقد نجد مريضاً ثانياً لم يستفد من نفس النوع من العلاج، مما يطرح العديد من التساؤلات؛ ما أدرانا مثلا أننا لو تركنا الحالة الأولى دون استعمال ذلك العلاج أنها كانت سوف تشفي، فمن الجائز أن تكون هناك عوامل أخرى لم نعلمها كانت سببًا في الشفاء، وما هي تلك العوامل، أهي تعتمد على المريض نفسه أم على نوع المرض أم أنها عوامل أُخرى خارجية لم تتوفر عن المريض الثاني بفرض أن نوع السرطان متطابق؟
وبنفس المنطق نطرح التساؤلات على الحالة التي فشل فيها نفس العلاج فهل هو اختلاف نوع المرض أم أنه اختلاف العوامل الأخرى.
ثم ما أدرانا أن ما حدث من شفاء هو شفاء تام، أم أنه فترة طبيعية مؤقتة من سكون المرض؟
ولدراسة مثل هذا التأثير لذلك النوع من العلاج يقوم فريق البحث من العلماء في التخصصات المختلفة ذات العلاقة، منهم المتخصص في نوعية الأمراض، والمتخصص في التشخيص، والمتخصص في علم الأدوية كما يجب أن يكون من بينهم من هو متخصص في إجراء البحوث والتجارب وعمل الإحصاء الطبي، فيقوم الجميع بعمل دراسة تحليلية مشتركة على عدد كبير من المرضى مع التغيير في أحد العوامل المؤثرة وتثبيت بقية العوامل والظروف، ثم تثبيت ذلك العامل مع تغيير في أحد العوامل الأخرى، ثم يليه البحث في عامل آخر، وهكذا.
كما تستمر التجارب لفترات طويلة تكفي لرصد النتائج، ثم تخضع تلك النتائج السلبية منها والإيجابية لدراسات إحصائية متخصصة، لنتوصل فيها إلى ما يمكن أن نستخلصه من ثوابت تصلح لتعميم استخدام ذلك العقار تحت مقولة أنه "ثبت علميا"ً، فليس من حقي أنا شخصيًا أن أقرر أن هذا النوع من العلاج يستطيع الآخرون استعماله لمجرد أنني استفدت منه، أو أن أحد معارفي المقربين قد استفاد منه معتمداً على أنه معروف عني قول الصدق أوأنني أهل للثقة.
إن قول الصدق أو كلام الثقات من البشر، من غير الرسل "وقد اختصهم الله بالوحي" لا يكفي وحده أن يقيم حقيقة علمية، وليس من حق أي أحد الإعلان عن هذه الفائدة على أنها حقيقة علمية قبل أن تتوفر فيها شروط البحث العلمي.
مفهوم البحث العلمي والمنهجية العلمية
البحث العلمي: هو التحري والاستقصاء المـُنظم والدقـيق للكشف عن حقائق الأشياء من خلال تحديد واضح لمختلف الأبعاد، وتوثيق علاقتها يبعضها البعض ثم التأكد من ثبات هذه العلاقة تحت كل الظروف والأحوال المتغيرة.
المنهجية العلمية: هي مجموعة من القواعد والإجراءات المنظمة يعتمد عليها طريق البحث، ويقوم العلماء بالبحث عن المناهج والأساليب الفنية الجديدة للمشاهدة والاستدلال والتعميم والتحليل.
خصائص البحث العلمي
تخضع عملية البحث العلمي للعديد من الخصائص نلخصها فيما يلي:
* الموضوعية والبعد عن الذاتية.
وهو أن تتم كل خطوات البحث بشكل موضوعي بعيدًا عن الآراء الشخصية، وعن أهواء ومشاعر الباحث التي قد تؤثر على النتائج.
* الدقة وقابلية الاختبار.
أن تكون الفرضية أو المشكلة موضوع البحث قابلة للاختبار والفحص، حتى يتمكن الباحث من تحليل النتائج إحصائيا بطريقة علمية للتأكد من صحة أو عدم صحة الفرضية، وهل هي قابلة للبحث أصلا من عدمه.
* إمكانية تكرار النتائج.
أي أنه يمكن الحصول على نفس النتائج تقريبًا عند تكرار التجربة بنفس المنهجية، وعند القيام بنفس الخطوات مرة أخرى.
* التبسيط والاختصار.
ويتم ذلك من خلال تحديد أكثر العوامل تأثيرًا وارتباطًا بموضوع البحث، والتقيد بمعايير واضحة لتوفير الوقت والجهد.
* أن يتناول البحث العلمي تحقيق غاية أو هدف.
يجب تحديد الهدف من البحث بشكل واضح ودقيق لتجنب التفرع إلى مشكلات جانبية تزيد من المجهود، وتقلل من أهمية الموضوع الأصلي.
* القابلية لتعميم النتائج والتنبؤ بها في الحالات المُشابهة.
يجب التأكد من إمكانية استخدام نتائج البحث لتوقع نفس النتائج في الحالات المشابهة، وإمكانية نـَفي وجودها في حالة عدم التشابه.
دور العامل البشري في البحث
هناك شروط ومواصفات لابد أن تتوافر في الشخص أو الأشخاص القائمين بعملية البحث العلمي وهي:
1- المعرفة الواسعة في موضوع البحث: ويتم ذلك من خلال قراءة ما يتعلق بالبحث من مواضيع، وكذلك الاستعانة بالأبحاث والدراسات السابقة والمراجع المتعلقة بموضوع بحثه.
2- إتقان المهارات الأساسية اللازمة للبحث العلمي: وذلك مثل مهارات اختيار العينات المستهدفة للدراسة، وتصميم استمارة الاستبيان، ومراجعة الدراسات السابقة والاستفادة منها ومن غيرها، والقدرة على صياغة الفرضيات والنتائج، ولا بد أن يتوفر للباحث قدر من المعلومات عن الأساليب الإحصائية – المنهج الإحصائي - وطرق تجميع البيانات وانتقاء الأولويات.
3- القدرة على الحيادية والموضوعية: لا بد أن يكون لدى الباحث القدرة على تجنب التأثر برأيه الشخصي الذي قد يؤدي إلى تزييف نتائج البحث لتخدم ما يريده هو من نتائج توافق ميوله، أو تخدم مصالحه الشخصية، وأن تكون لديه القدرة على تفهم النتائج السلبية والاعتراف بها.
4- الصبر والقدرة على التحمل وعدم تعَجـُل النتائج: يجب على الباحث أن يكون صبورًا ودقيقًا ومتأنيًا خصوصًا عند مقابلة متغيرات جديدة، أو عند مواجهة صعوبات في جمع المعلومات المتعلقة ببحثه.
تطبيق المنهج العلمي في الطب
يتأتى ذلك في المسائل الطبية من خلال دراسة الحالات ووصفها والتحليل والاستقراء، ثم التجربة في ظروف مختلفة على عدد معين من الحالات يشمل الحالات السليمة والحالات المصابة، وهكذا نجد الكثير من التساؤلات التي تتلاشى عندما نلجأ للمنهج العلمي في بحث أي موضوع، حيث إن لهذا المنهج شروطه وقوانينه وخصائصه، ويتضح ذلك من الأمثلة التالية:
1- عند تجربة عقار جديد مقترح على بعض المرضى، يقوم العلماء بتجربة عقارٍ آخر وهمي لا ضرر منه ولا فائدة على البعض الآخر، حتى يتم التأكد من أن تأثير هذا العقار المقترح إنما يرجع إلى فعاليته وليس إلى أسباب أخرى لم نعلمها بعد.
2- عند عمل فحص لمستوى مادة ما في الدم مثلا على كل العينات من الأصحاء والمرضى للتأكد من أن التغيير الحادث إنما هو من تأثير مرض معين ولا يكون حدوثه لسبب آخر، كما يتم البحث في نفس الموضوع في مكان آخر من العالم، ويقوم به أناس آخرون، ويتم أيضًا على عينات أخرى من المرضى والأصحاء، وقد يُعاد البحث في نفس الموضوع على نوع آخر من المواد المصاحبة لهذه المادة للتأكد من وجود علاقة متغيرة أو ثابتة تخضع لقانون ما يتم استنتاجه.
وبالرغم من تلك الدقة في الخطوات وما يترتب عليها من نتائج، فإن هذه النتائج نفسها قد تتغير أو تُعدل مع ثبوت شيء جديد من العلم لم يكن قد تم إدراكه أثناء القيام بالبحث.
وبمجرد ثبوت نتيجة علمية جديدة يتجمع العلماء في أحد المؤتمرات لمناقشة تلك الحقيقة مناقشة علمية موضوعية مباشرة لا تخضع للتحيز أو المجاملة أو للأهواء الشخصية، وعندما يتفق العلماء يُعلـَن عن النتائج في النشرات العلمية ليبدأ الأطباء في كل الأنحاء في استخدامها.
المعالجون الروحانيون يفتقدون للمنهجية العلمية
بتطبيق ما سبق من أصول وقواعد للبحث العلمي على من يدعون العلاج بالقرآن الكريم نجد عدم وجود أسس علمية تدعم أسلوبهم العلاجي، ولم يقم أحدهم بعمل بحث علمي عن الطريقة التي يستخدمها في علاج مرضاه يستطيع من خلاله ادعاء كلمة "ثبت علمياَ".
ولا يوجد لديهم معايير أو ضوابط ثابتة يقوم عليها التشخيص، وليس لديهم دليل ثابت على أن ما يجدونه من أعراض تكون بسب ما يفترضونه من غيب، بل أن معظمهم يفتقدون أصلاً إلى المقومات الشخصية والعلمية التي تؤهلهم لذلك، كما سوف أقوم بتوضيح ذلك بين فقرات كتابي المنتظر (العلاج بالخرافة) إن شاء الله تعالى.
واقرأ أيضاً: