أخضعت نفسي لورش عمل متوالية بدأت بالتركيز على الحركة والجسد كمساحة للوعي، وآداة للتواصل والتعبير، وانتهت بورشة سايكودراما، وهنا أتأمل في بعض الخبرات المستفادة، والمهمة لمجموع الناس، كما أعتقد.
عندي يقين قديم يتجدد أننا "موتى بنعش واحد يدعى الوطن.. أسمى سماءه كفن "كما يقول الشاعر أحمد مطر، وبحثي دؤوب عن سبل الخروج من هذا الموات، وإحياء هؤلاء الموتى!
اكتشفت تدريجيا أن للروح وجودها المتنحي والمهمش في حالتنا، في ظل ممارسات دينية يغلب عليها الطابع الشكلي في آداء الطقوس دون النظر إلى المضمون الأخلاقي، الذي اكتشفت تدريجيا أنه ينبع من الروح بالأساس، وطالما غابت الروح فلا تسأل عن أخلاق، ولا تسأل عن حياة.. أصلا!!
التدبر والتأمل في الأنفس، وفي الكون من حولنا، هو أمر متكرر في آيات الكتاب، ممارسته غائبة تماما، والتفكير والتفكر الذي نبه العقاد منذ عقود أنه فريضة إسلامية.. صار من النوافل، فأصبح فريضة غائبة كما كتب عبد السلام فرج عن الجهاد، سواءا بسواء!!
الأنشطة الأخرى التي تعلمت أنها تتعلق بالوجدان، والروح هي غائبة أو مغيبة تماما عن حياتنا، ممارسات التواصل الإنساني والاجتماعي مهشمة تحت سنابك أساطير شائعة عن الاختلاط، وفتنة النساء، ومجتمعات منفصلة قسريا بين رجال ونساء، أفزعني أنها مهندسة على غرار مجتمع قوم لوط، قبل أن تفشو فيه الفاحشة، وكأن موسوعة مثل ما كتب الراحل محمد عبد الحليم أبو شقة في "تحرير المرأة في عصر الرسالة" لم تصدر منذ عقود!!
نفس أساطير الفتنة، وخرافات الضلال تقيد وتمنع أغلب الأنشطة الفنية، وتمارس رقابة وتشويها لموقف الناس من الفنون، وبالتدريج نجد أنفسنا أمام عزوف عن التعامل مع هذه المساحات أصلا، أو إدانة صريحة لها، ومن ثم لا يبقى فيها إلا صاحب مصلحة، وهوى، أو مناضل شرس مصمم على إنتاج شيء جيد، سرعان ما ييأس حين لا يجد له سوقا، لأن عموم الناس عازفة، أو منكبة على أنواع فنون يستهلكونها، وتستهلكهم، وبعيدة كل البعد عن إيقاظ أرواحهم، بل هي تزيد من غفلتهم، وغيبوبة وعيهم!
في مساحة الجسد سنجد بؤسا مشابها، حيث الرياضة نشاط نخبوي تشاهده الجموع أحيانا، ولا يمارسه إلا البعض في مرحلة من عمره، بينما أغلب الأجساد هي نائمة راكدة يعشش فيها الإحباط، والتوتر، والقلق، والشعور بالفشل، أو الألم، أو الكراهية، وأنواع الضغوطات التي نعيشها، شخصيا واجتماعيا!
التدرب على استعادة هذا كله ممكنة، ومتاحة، لكن الشبهات الشرعية والشكلية تحاصر العقول والأفئدة، وسعار القهر السلطوي السياسي، والكهنوتي يطلق العنان للشر والتقييد، والناس تستسلم للقيود، وللأسوار، وللأخذ بما تعتقد أنه الأحوط.. يحسبون هذا ورعا، وهو محض وأد، ومجرد قتل للحياة.. في مختلف أشكالها، والحديث في هذا يطول!
الخبرات تتوالى، وأنا أتعرض وأتعلم وأتبين أن الموسيقى ليست كلها مزامير شيطان، وأن أنواع الفنون كلها تحمل فرصة لإبداع إنساني يلزمنا الاحتكاك به، وممارسته لتحريك الراكد في وجداننا، وأنواع التأمل والوعي الروحاني، والذكر القلبي، والتفكر، والتدبر.. لها مستويات ودروب، وألوان، وأنواع.. نمنع أنفسنا من التعرف عليها، والانتفاع بها، ومن إعادة اكتشاف ما لدينا.. تراثا، وواقعا، وما يفد علينا منها!!
ثم نحن بعد ذلك نشتكي نفسية العبيد، وجموع خانعة للطواغيت، مغيبة العقل، ممسوخة الفطرة، وأدوات الطاغوت هي تشويه العقل بالتعليم المبرمج، والتعاليم المضللة، وتفكيك الأنسجة المجتمعية، فلا تواصل، ولا تعارف، ولا تواصي بالحق، ولا حوار، ولا مناقشة، لأن اللقاء بين الناس حرام، والصواب يقرره الطاغوت وسدنته من كهنة الدين، وكهنة العلم الأكاديمي، وكهنة الإعلام، والناس تتعاطى إنتاج هؤلاء، تحسبه معرفة، بينما هو سم زعاف يطعمونه أنفسهم بأنفسهم، والطواغيت يفركون أيديهم فرحا بغفلة الجموع، وانقيادهم للهراء الذي يضخ عليهم بكرة وعشيا!!
تكاد مساحتي اليوم تنتهي، وأنا أستعرض الأمراض والتشخيص، وأقول أن استعادة الفطرة السليمة هي الشرط اللازم للانعتاق من هذا التخبط في تيه يبدو غير منته!!
لن تثور أمة مخدرة تتلاعب بعقولها شاشات تضخ الأكاذيب وبذور الضلال والتضليل التي تعمل في العقول لتنتج ما نرى!
ولن يتغير إنسان مغيب الوعي، ممسوخ العقل، قاحل الروح، جامد المشاعر، متحجر الفكر حين يتمسك بهراء ذائع يحسبه أفكارا، ويخلطه بقطوف من هنا، وهناك.. يحسب نفسه على شيء، وهو على خطر عظيم!
أنواع إيقاظ الروح والوجدان، واستعادة الإنسانية، والجماعية توفرها أنواع الفنون، ومدارس العمل الفني الجماعي، وتدريبات الحركة، وإيقاظ الجسد، وتدريبات الأفكار، وتحفيز أنواع التفكير، والتأمل، والحوار المفتوح، والتواصل، وأنواع الإبداع في كل مجالات الحياة، والتدبر في أنشطة عمران الأرض، ونضالات مواجهة شبكات ومصالح إفسادها،و هذا كله تراث و زخم نغيب عنه،و يغيب عنا،ثم نعود نشتكي من جلادينا،و نحن من يعطيهم السوط، ويمكنهم من الهيمنة، ويشيع في الجموع أن للحرية حدودا يضعها الكهنة، وهكذا ندخل زنازين نشيدها بجهلنا، وغفلتنا، في نفس ذات الوقت الذي نعتقد أننا نبحث ونناضل في سبيل.. مستقبل مختلف!!
23/5/2014
واقرأ أيضا:
التربيط/ مسار الثورة لحظة محمد محمود 19/11/2013/ مسار الثورة 7 ديسمبر.... فرصة نادرة !/ أين الخلل ؟