أثار مشهد رقص الرجال والنساء أمام لجان التصويت الأحدث في مصر جدلا واسعا بحيث اتصل بي عدة صحفيين ليطرحوا السؤال حوله، وغطت الموضوع كثير من الفضائيات بحثا عن تفسير، أما المتخصصون في علم النفس، والاجتماع، وكذلك المتابعون لما يجري في مصر.. فقد اختلفوا.
الرقص هو فن حركي يعبر عن حالة مزاجية، وعن ثقافة، وعن مضامين تختلف باختلاف الزمان والمكان، والأشخاص، ولذلك فإن دراسة الرقص، أو تاريخ فنون تحريك الجسد هي من أهم حقول علم الإنسان -الأنثربولوجي!!
وللرقص وظائف نفسية واجتماعية جديرة بالتأمل، فمن الناحية النفسية يعد تحريك الجسد من أهم طرق تحريره من آثار الضغوط، وأنواع الكبت، والحرمان من الحركة، وغياب الإشباع للرغبات الحسية، كما تساعد تدريبات الرقص على الوعي بالجسد، وسيطرة هذا الوعي على التداعيات الوخيمة لغياب التركيز، والتيه خارج الزمان، والمكان!
وقد شاهدت فيلما ألمانيا يوثق لتجربة التدريب على الرقص استعدادا لعرض جماعي، وكيف أن هذه التدريبات قد أسهمت في تهذيب مجموعة من أطفال الشوارع، وشحنهم بطاقات إيجابية، وقدرات تنظيمية ذاتية وجماعية عبر ضبط التوافق العضلي العصبي مع إيقاع الزمن، والتأقيت العالي الجماعي للحركات والإيماءات!!
الرقص الجماعي يؤدي وظيفة شعورية إضافية هي الشعور بالتوحد والانسجام والتجانس مع الحشد، والتنفيس الجماعي عن الضغوط المتراكمة، كما يؤدي وظيفة التعبير الجماعي كما يحصل في أيام الكرنفال سنويا في البرازيل، وكما كان يحصل أثناء حقبة الفصل العنصري/ الأبارتهيد في جنوب أفريقيا.. حيث اشتهرت رقصات أفريقية ترقصها الأغلبية السوداء والملونة تعبيرا عن الرفض لسياسات الفصل العنصري، آنذاك!!
هناك أيضا الرقص الروحي وأشهره رقص المولوية الذي يبدو أنه بدأ في التكايا التركية، وانتشر إلى بقاع كثيرة من العالم، وأفاض المحللون والباحثون في التعليق عليه، ورصد معانيه، وتجلياته، وفي الهند رقصات روحية كثيرة!
نظرة العرب والمصريين إلى الرقص هي نظرة شديدة السلبية تختزله ابتداءا في نوع واحد من تحريك الجسد المرتبط عند الناس بإثارة الغرائز، وإدانة من تمارسه، مع الحرص على مشاهدة جسدها في نفس الوقت، ولو من باب الحسد على امتلاك جسد لين، ولياقة بدنية تفتقدها أغلب النساء، وأغلب الرجال في عالمنا العربي!!
نظرة العرب والمصريين إلى الرقص هي نظرة شديدة السلبية تختزله ابتداءا في نوع واحد من تحريك الجسد المرتبط عند الناس بإثارة الغرائز، وإدانة من تمارسه، مع الحرص على مشاهدة جسدها في نفس الوقت، ولو من باب الحسد على امتلاك جسد لين، ولياقة بدنية تفتقدها أغلب النساء، وأغلب الرجال في عالمنا العربي!!
ولا أنسى مشهد اندهاش موظفي أمن مؤتمر الجمعية الدولية للطب النفسي والمنعقد في القاهرة عام2005، حين اقتحموا علينا قاعة المحاضرة مشدوهين بعدما سمعوا إيقاعا راقصا، وازدادت دهشتهم وهم يرون أخصائية نفسانية أجنبية ترقص ضمن مؤتمر علمي دولي!! ولم يخطر ببالهم أن موضوع الجلسة كان عن العلاج بالرقص، الذي صار اليوم من أهم العلاجات النفسية المنتشرة، ولها قواعد وأنظمة وأنواع، ونتائجه في علاج خلل المزاج، واضطرابات القلق، ورهاب المواجهة أو عسر التواصل الاجتماعي مرصودة وموثقة!!
البعض يرى في الرقص على إيقاعات الأغاني "الوطنية" الأحدث في مصر نوعا من التغييب عن السياسة بحضورها الحاشد المناوئ للسلطة في المجال العام، ويحمل نوعا من المكايدة أو الإغاظة للخصوم ممن يقاطعون المسار الحالي، كما يحمل نوعا من احتلال المجال العام بأشكال صاخبة تسحب من رصيد أنشطة أخرى مارسها المصريون طوال أكثر من ثلاث سنوات، وتلفت وجهتهم بعيدا عنها!
البعض يراه تعبيرا عن رغبة في كسر الكبت المعتاد لحرية وحركة الجسد، والتعبير به، ويرى هذا الكسر يحاول الاحتماء –من محرمات المجتمع -بالسلطة المسيطرة، وبطقوس الاحتفال بنصر، ولو كان نصرا متوهما على عدو وهمي!!
كما يرى آخرون أن النزعة المحافظة في شخصية العرب والمصريين هي مجرد قشرة شكلية هشة من الادعاء، وقد صارت حتى هذه القشرة عبئا يحاول البعض التخلص منه، واختبار قبول المجتمع بممارسات كان يرفضها، وممارسة درجة من التمرد على تقاليد وأشكال قديمة لحياة لم تعد تشبع رغبات واحتياجات متصاعدة لدى الناس في عالم مفتوح على أنواع ودرجات من الحريات المختلفة!!
هل يمكننا قراءة المشهد أيضا في ضوء الغياب المستمر لخطط استثمار ما تدفق من طاقة المصريين، واستعدادهم للتغيير في إدراك ذواتهم، والتعبير عنها، وفهم العالم، والتعامل مع الحياة!!
هل سيجد المصريون في الرقص بأنواعه طريقا وطريقة لتفريغ مشاعر الضغط النفسي بتحريك الجسد، وهل يمكن أن يتغير مفهوم المصريين لأنشطة جسدية أخرى مثل ممارسة الرياضة لتصبح ممارسة مجتمعية عامة!!
لا يبتعد عن هذا حشد من المبادرات والفعاليات المتناثرة التي تحاول استيعاب الرغبة العارمة لدى قطاع من المصريين يبحث عن أشكال وسبل للتعبير عن الذات والتواصل معها في آن واحد، وأغلب ما يقدم لهذا القطاع هي الأساليب الغربية الجاهزة المستوردة، دون كثير نقد، أو تطوير، ومن هذا مشروع ضخم نسبيا يأتي بدعم من الاتحاد الأوربي عبر مكتبة الأسكندرية فيما يسمى "مشروع بذور"!!!
أزعم أن المشهد ربما يتضمن هذا كله، والعمل على هذه المعطيات المتداخلة رفضا، أو قبولا.. استثمارا أو استنكارا، تفسيرا وتطويرا يمكن أن ينقلنا إلى أفق يتجاوز ماضينا بكثير، ويتجاوز منطق التغيير بخطوات متحفظة إلى التغيير بقفزات كبرى يحتملها منطق الثورة، ولا تحتملها عقول أصحابها يعتقدون ويزعمون أنهم على درب الثورة يسيرون!!