الاكتئاب الجسيم مرض فتاك لا يجهل خطورته أي عامل في مجال الصحة النفسية وخلال العقد الأخير من العصر أصبح جميع العاملين في المجالات الطبية والاجتماعية يدركون هذه الحقيقة.
الاكتئاب الجسيم واحد من أول عشرة أمراض فتاكة على وجه الأرض ويتميز بتكراره وخطورته على المريض وعلى من حوله أحياناً. لا يزال الإعلام يناقش علاج الاكتئاب على المذياع والتلفزيون ويكثر من التركيز على أن العلاج الكلامي لا يقل فعالية عن العلاج بالعقاقير ولكن متى ما انتبه المستمع إلى محتوى الحديث سيكتشف بأن ما يتحدث عنه البعض هو الاكتئاب الطفيف إلى المعتدل ولا أحد يتجرأ على القول بأن العلاج الكلامي هو الحل للاكتئاب الشديد القاسي الذي يفتك بالمريض ببطء حتى يقضي عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة. بالطبع لا أحد يتجرأ ويناقش ما هو الاكتئاب الشديد أو القاسي. البعض يصنفه استناداً إلى قلة ساعات النوم وفقدان الوزن ولكن هناك من يعاني من اكتئاب شديد بسبب أفكاره الانتحارية أو منظومته الوهامية التي قد تشمل الآخرين.
هذا الارتباك في تشخيص واحد من أخطر أمراض البشرية أدى إلى سعي العلماء في البحث عن طريقة علمية مختبرية لتشخيص الاكتئاب. كانت فحوص الكورتيزون وهورمونات الغدة الدرقية شائعة في الثمانينيات ولكنها أثبتت عدم فعاليتها ودقتها في الممارسة العملية.
ولكن عصر العلم الآن هو عصر الخلايا والجينات وبدأت عمليات البحث عن مؤشرات بيولوجية نوعية Specific Biological Marker في الجينات المحتمل ارتباطها بالاكتئاب مثل التي استهدفت ما تسمى جينات العامل العصبي المشتق من الدماغ (Brian Derived Neurotrophic Factor (BDNF ومناطق الجينات في الخلايا التي تنظم ناقلات السيروتنين Serotonin Transporters في الخلايا2. ما ترشدنا إليه هذه البحوث هو أن عتبة الإصابة بالاكتئاب المرضي تختلف من فرد إلى آخر ودرجة العتبة ترسمها الجينات الوراثية. يتعرض الإنسان لظروف عائلية في الطفولة تؤدي إلى دفعه نحو عتبة الاكتئاب وأحيانا ترسله ظروف الحياة القاهرة نحوها وبسرعة. متى ما وقع الإنسان الذي يحمل جينات اكتئابية في شبكة الاكتئاب المرضي يحتاج إلى مساندة طبية واجتماعية للإفلات منها واحتمال تكرار الاكتئاب يمنحه تشخيص الاكتئاب المتكرر الأحادي القطب Recurrent Unipolar Depression .
البحث عن جينات الاكتئاب
الجهاد العلمي في البحث عن جينات الاكتئاب عملية مستمرة منذ أكثر من عشرة أعوام واتجهت نحو تعاون علمي بين مختلف الجامعات والمعاهد العلمية العريقة في العالم المتحضر. في خلال مسيرة الجهاد العالمية لاكتشاف الجينات اكتشف الباحثون1 وبدون قصد ظاهرة في غاية الأهمية حتى أن مؤسسة ويلكوم الخيرية الممولة للبحث عن طريق زكاة جميع الناس في العالم الغربي والمؤسسات المالية أصرت على نشر النتائج مبكراً.
كل خلية من خلايا الإنسان تحمل جزيئا يحتوي على حمض الديؤكسي ريبونوكلييك والمعروف عالمياً بالـ DNA. هذا الحمض يحتوي على الجينات التي هي أشبه بأوامر وإرشادات تمت وراثتها لتدفع حياة الإنسان في اتجاه معين. هناك أيضاً في داخل الخلية منطقة تدعى المتقدرة Mitochondria وهي أشبه بمحرك لتوليد الطاقة. اكتشف الباحثون بأن هناك زيادة في كمية الـ DNA في متقدرة المصاب بالاكتئاب ولكن ماذا يعني ذلك؟
التفسير هو أن المتقدرة Mitochondria تكافح في توليد الطاقة اللازمة لبقاء الإنسان على قيد الحياة. عملية توليد الحمض بحد ذاتها عملية شاقة والحمض الجديد في المصاب بالاكتئاب يتميز بقصر نهايته والتي هي أشبه بقبعة تحمي الكروموسومات من التفسخ. بعبارة أخرى الحمض الجديد غير فعال ويحمل علامات الشيخوخة. كلما ازداد الإنتاج تدهورت النوعية.
لم يتسرع الباحثون بإعلان اكتشافهم بصورة هستيرية وإنما توجهوا نحو عمل تجارب على الفئران وتعريضها لضغوط بيئية وكانت النتائج مطابقة تماماً. ولكن الأهم من ذلك اكتشف الباحثون أيضاً بأن هذه التغيرات في الحمض قابلة للانعكاس متى ما تم نقل الفئران إلى بيئة صحية خالية من الضغوط.
أهمية البحث والاستنتاجات:
هذا هو البحث الأول الذي يثبت بأن الاكتئاب مرض فتاك لكل خلية من خلايا الجسم ونتائجه بيولوجية بحتة ولابد من علاجه. الخطوة الثانية هي استهداف حمض DNA ومناطق الجينات بالعقاقير اللازمة.
الرعاية الاجتماعية والسيطرة على الضغوط البيئية لمن يحمل عتبة وراثية واطئة للاكتئاب في غاية الأهمية. متى وصل الإنسان إلى عتبة الاكتئاب المرضي لا يسهل عليه الخروج من شباك هذا الداء ولا يكفي موعظته وإنما لابد من علاجه.
في نهاية الأمر ستنتج المتقدرة الطاقة اللازمة المؤقتة ولكن هذا الوقود بحد ذاته لا يتميز بالكفاءة وبالنهاية يصل الإنسان إلى مرحلة لا يجد فيها هذا الوقود ويودع الدنيا قبل موعده بطريقة أو أخرى.
المصادر