كنت أتابع منذ أيام على إحدى القنوات العربية ندوة منعقدة في تونس تحت عنوان: "السياسة والعنف والتحول الديموقراطي في الوطن العربي", وكان المتحدثون على درجة عالية من الثقافة والوعي والنضج وينتمون لكافة الإتجاهات في المجتمع التونسي, وتباينت آراؤهم وتعددت ولكنها لم تتصارع, وكان رئيس الندوة ينتقل بسلاسة من متحدث لآخر دون حجر على رأي ومع احترام جم لسائر الآراء والتي خلت من أي مظهر للتخوين أو التحقير أو العنصرية أو نزع الوطنية.
وكان واضحا أثر ارتقاء الوعي والتعليم والأدب لدى المتحدثين, وهذه سمات واضحة في المجتمع التونسي ساهمت في نجاحه النسبي في الثورة وفي التحول الديموقراطي وفي التفاعل الناضج لقواه المختلفة (ليبراليين وإسلاميين وعلمانيين وقوميين وحداثيين) على عكس ما حدث في دول عربية أخرى تعثرت خطواتها على هذا الطريق.
بعد انتهاء هذه الندوة الثرية والناضجة تحولت لأقلب في القنوات المصرية أتابع بعض البرامج الحوارية والإخبارية فوجدت فارقا هائلا بين الحوار التونسي والحوار المصري, ورجعت بالذاكرة لأحداث السنوات الأخيرة ولنوعية الحوارات التليفزيونية والاشتباكات الاستقطابية والعنصرية والعدائية على مواقع الفيس بوك بين المصريين لتتشكل صورة أشبه بجلطة في حالة الوعي المصري أدت إلى ضعفه وتشوهه, فعلى الرغم من ارتفاع حالة الوعي في الثمانية عشر يوما الأولى في ثورة 25 يناير إلا أن ثمة حالات من الخوف الشديد وإشاعة الفوضى والبلطجة في المرحلة الانتقالية (بعضها تلقائي وبعضها مصنوع) أدت إلى ترسبات متراكمة في شرايين الوعي وأدت إلى تخثر في الوعي (تجمد وتقطع), وكانت النتيجة انسدادات في تلك الشرايين وإصابات بجلطات في الوعي أدت إلى إعاقة مجتمعية نعاني كثيرا من تداعياتها.
وهذا يفسر لنا ذلك النكوص في السلوك السياسي والمجتمعي في فترات كثيرة فوجدنا العودة إلى الخطاب الأحادي وإلى تخوين أي رأي مخالف واستبعاد أي بادرة للمعارضة أيا كان نوعها أو مصدرها, والنزوع إلى تقديس الزعيم الملهم والزعيم البطل والزعيم القادر على صنع المعجزات بينما الشعب يكتفي بالتصفيق والمبايعة والتفويض والانبهار بالإنجازات القومية الكبرى.
لم يكن متوقعا بعد حالة التوهج الثوري الشبابي أن نرى إعلاما يستنسخ نفس تجربة الخمسينات والستينات من القرن العشرين ويستنسخ التجربة الناصرية في غير زمانها, بينما العالم يتسابق بشدة في القرن الواحد والعشرين, ولم يكن متوقعا بعد ثورة كان عمادها الشباب الذي يشكل أكثر من ثلث المجتمع أن نرى عودة العقل القديم في ممارساتنا اليومية وفي إداراتنا, وأن نرى بطئا في الحركة وتهتهة في التعبير وفقرا في الفكر وتكلسا وخشونة في مفاصل المجتمع وعودة لكثير من الوجوه القديمة التي أفسدت حياة المصريين, وأن نرى حزبا واحدا يأخذ أسماءا مختلفة ليبدو وكأنه متعددا, وأن نرى أهل الثقة مقدمون على أهل الخبرة والكفاءة, وأن نرى تغولا أمنيا في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية, وأن نرى تضخما في السلطة وتضاؤلا في التأثير الشعبي, وأن نرى ضعفا في العقل الجمعي وتراجعا في العقل النقدي يسمح بالقابلية للإيحاء والاستهواء والاستبداد, وأن نرى انسحابا صامتا أو غاضبا للشباب المحبط والمغترب وتغطية لكل هذا بإعلام أحادي الرؤية يفتقد للمعايير المهنية المحترمة وينحني بشدة لقوة السلطة.
إن تدارك هذه الجلطة وهذا التخثر في الوعي ما زال ممكنا إذا صحت النيات ونشطت الإرادات, وذلك من خلال فتح آفاق المجال السياسي (المغلق أو المحظور أو المتقلص حاليا), وقبول الرأي والرأي الآخر واحترام قوى المعارضة ورفع سقف حرية الإعلام وتصديق أن ثورة قامت في مصر لتحريرها من قيود الماضي بكل تشكيلاته, وتحريرها من عناصر الفساد أيا كانت انتماءاتها, والصدق مع الناس واحترام عقولهم والتعامل بشفافية وموضوعية تليق بالقرن الواحد والعشرين وتليق بمصر بعد الثورة وتليق بشباب يتواصل مع العالم بطريقته لحظة بلحظة ولا يتأثر برسائل الإعلام البائسة والتي أعطاها ظهره من زمن.
واقرأ أيضًا:
أنا السيسي / مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد! / الدم الرخيص