لقد شجع نجاح مسلسل "تحت السيطرة" فريق العمل الدرامي لعمل مسلسل جديد يصور المريض النفسي في ظروف أخرى تحوي جريمة قتل وحجز مريضة نفسية في قسم الطب النفسي الشرعي في إحدى المستشفيات النفسية. ومقارنة بمسلسل تحت السيطرة الذي صور مشكلة الإدمان وعلاجه بشكل واقعي ومقنع وقريب جدا من الحقيقة (وكان مشجعا لكثير من المدمنين للبحث عن علاج)، جاء مسلسل "سقوط حر" ليسقط في الكثير من الأخطاء العلمية في تصوير طبيعة المرض النفسي وأعراضه، فما تفعله المريضة النفسية في المسلسل لا ينطبق عليه خصائص المرض النفسي المعروفة لأهل المهنة من ذوي الخبرة، وقد وضع هذا الفنانة نيللي كريم في مأزق إذ بدت تؤدي أوضاعا مفتعلة وغريبة ولم تكن بتلقائيتها المعروفة عنها في الأداء وظهرت تناقضات كثيرة في الأعراض والمواقف يضيق الوقت عن سردها.
كل ما سبق قد نختلف أو نتفق حوله بدرجة أو بأخرى من النواحي الدرامية أو الفنية، ولكن الأخطر في هذا المسلسل أنه عكس أجواءا أسطورية مخيفة في المستشفى النفسي وعكس أحوالا مرعبة للمرضى النفسيين المقيمين بالمستشفى، وأظهر العلاج بتنظيم إيقاع المخ والمعروف قديما بجلسات الكهرباء بشكل يتنافى تماما مع الطرق الحديثة التي يتم بها هذا العلاج في الوقت الحالي بما يحدث حالة من الخوف والفزع تجاه المرض النفسي والمرضى النفسيين ووسائل العلاج النفسي والمستشفيات النفسية.
ولم يكتف المسلسل بذلك بل أكمل المنظومة بوجود طبيب نفسي فاقد لأخلاقيات المهنة يعطي للمريضة علاجات ضارة ومدمرة لجهازها النفسي والعصبي، لكي تصل الصورة في النهاية بشكل غاية في السلبية، وتلتصق الوصمة بالمرض النفسي والطبيب النفسي والعلاج النفسي وقبل كل هذا المريض النفسي.
وقد يعتقد البعض أنه مجرد مسلسل والسلام، وأن اختلافنا حوله اختلافا نقديا فنيا، ولكن الأمر أخطر من ذلك بكثير إذ تؤثر هذه الوصمة التي يصنعها المسلسل على تصورات الناس عن المرض النفسي وتشوه الصورة لديهم وتجعلهم يحجمون عن علاج ما يعتريهم من اضطرابات نفسية ويرفضون دخول المريض النفسي إلى المستشفيات النفسية مهما دعت الضرورة لذلك وقد يترتب على ذلك مخاطر قاتلة تهدد سلامة وحياة المريض أو سلامة وحياة المحيطين به، وتؤخر علاجه وتتسبب في مضاعفات خطيرة يعرفها أهل التخصص، بل ويصبح البديل الآمن للناس هو الذهاب للدجالين والمشعوذين والوقوع في فخ النصابين بديلا للذهاب للعلاج الطبي المقنن والمنضبط والمحكوم بقوانين ورقابة نقابة الأطباء ووزارة الصحة وأخلاقيات مهنة الطب. وقد أخذنا هذا المسلسل كمثال، ولكن للأسف الشديد كان يعرض ثلاث مسلسلات أخرى في شهر رمضان هذا العام عن حالات نفسية مضطربة تؤدي لنفس النتيجة بطريق أو بآخر.
ونحن لا ندّعي بأن المستشفيات النفسية منتجعات سياحية، ولا ندّعي بأن الأطباء النفسيين ملائكة، ولكنهم ليسوا بهذا الشكل البشع الذي عكسه المسلسل. ومن المعروف بأن قانون رعاية المريض النفسي الذي صدر في مصر عام 2009م، قد حدد مواصفات ومعايير المستشفيات النفسية الحكومية والخاصة، ويجري تفتيش دوري على هذه المستشفيات تحت إشراف المجلس القومي للصحة النفسية، ويجري تقييم لأي حالة تحتجز في المستشفيات النفسية للتأكد من ضرورة احتجازها من عدمه، وتوجد لجان حقوق مرضى تتأكد من حصول المريض النفسي على كافة حقوقه، وتعلق لافتة كبيرة في العنابر مكتوب فيها كافة حقوق المريض النفسي، وترفق قائمة بهذه الحقوق بملف المريض يوقع عليها المريض بما يفيد علمه بها – إن كان قادرا على ذلك – أو يوقع عليها أحد أقربائه في حالة عجزه عن فهمها بسبب شدة المرض، وهذه كلها ضمانات وضعت لتحقيق الأمن والسلامة للمريض النفسي خاصة حين يكون فاقدا للبصيرة والإدراك، وأيضا لتحقيق الرعاية النفسية الإنسانية له، ومن هنا جاءت تسمية القانون "قانون رعاية المريض النفسي".
والذي حدث كنتيجة طبيعية للمسلسل على أرض الواقع – كما لمسنا في العيادات والمستشفيات النفسية – هو حالة خوف شديد من إدخال أي مريض نفسي لأي مستشفى نفسية، وتشكك في العلاجات النفسية، وتشكك في الأطباء النفسيين، ونظرة مرعبة وأسطورية للمرض النفسي، وإهمال لعلاج المرض النفسي. هذا على الرغم مما تبذله الهيئات الصحية الدولية والمحلية لإزالة الوصمة عن المرض النفسي والمريض النفسي ولتوفير العلاج الطبي الفعّال في أقرب وقت حتى لا تتدهور الوظائف النفسية والعقلية مع مرور الوقت وتأخر العلاج.
واقرأ أيضًا:
أحداث ماسبيرو: تداعيات تغييب القانوني وتغليب السياسي / الخواجة عبد القادر يعري تشوهات الشخصية المصرية / الحياة الممتلئة / المدينة المحرمة