يشهد العراق هذا العام تظاهرات جماهيرية تطالب باتخاذ قرارات سياسية فعالة لتحسين مستوى المعيشة والسيطرة على الفساد الإداري والمالي. يتم تصنيف التظاهرات الجماهيرية الشعبية كاحتجاج Protest وهناك من يستعمل مصطلح ثورة Revolution. هذا المقال يحاول إلقاء الأضواء على هذه الأحداث من زاوية نفسية اجتماعية.
تعريف الثورة
الاحتجاج غير الثورة. الثورة عموماً في العلوم السياسية الاجتماعية هي تغيير كبير وجذري وعنيف لتغيير الحكومة ومؤسسات الدولة. يتم استعمال المصطلح أيضاً مجازياً للتعبير عن تغيير جذري وشامل في العلاقات الاقتصادية، القيم الاجتماعية، العقيدة الدينية والتكنولوجيا كما هو الحال مع الثورة الصناعية، وثورة الإنترنت وغيرها.
الثورة من أيّام الإغريق إلى العصور الوسطى كان يتم حصرها بقوة تدميرية ناتجة فقط عن انحطاط المبادئ الأخلاقية والقيم الاجتماعية والدينية الأساسية في المجتمع. كانت نظرية فلاسفة الإغريق تشير إلى أن تحصين المعتقدات الراسخة الثابتة في المجتمع يمنع حدوث الثورات، ولكن إذا كانت هذه القيم الثقافية ضعيفة لا تسد احتياجات المجتمع فإنه بالتالي سيكون عرضة للثورة.
الوعود السياسية والتوقعات الجماهيرية ترفع دوماً شعارات المساواة بين المواطنين أمام القضاءوالتنافس النزيه بينهم في التعليم والعمل، والسعي لسد احتياجاتهم الأساسية. متى ما شعر الشعب بأن هذه المبادئ الأساسية لا وجود لها فإن ذلك سيمهد الطريق إلى الثورة.
شهد العراق الكثير من الأحداث على مدى قرن واحد من الزمان منذ ١٩٢٠ إلى الآن وتحن نقترب من عام ٢٠٢٠. رغم الموقع العاطفي لثورة العشرين في قلوب أهل العراق ولكن من الصعب القول بأنها كانت ثورة في التعريف السياسي الاجتماعي، وكذلك الحال مع أحداث "ثورة" رشيد عالي الكيلاني، ١٤ تموز ١٩٥٨، ٨ شباط ١٩٦٣ وبعدها ١٧ تموز ١٩٦٨. لم يتغير النظام الاجتماعي والسياسي كثيراً بل على العكس لا يزال النظام العشائري وقيمه القبلية سائدة في العراق حتى يومنا هذا، وحتى يمكن القول بأنها أكثر ملاحظة اليوم. ربما يمكن الاستنتاج بأن العراق لم يشهد ثورة بالمعنى المتعارف عليه عالمياً في تاريخ الشعوب منذ يوم تأسيسه إلى الآن.
هشاشة المؤسسة العراقية السياسية هي التي سمحت بوصول الجيش إلى السلطة ودخوله في حروب راح ضحيتها مئات الآلاف وبالتالي كان عرضة لتدمير شامل لمؤسساته المدنية والسياسية مع دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد عام ٢٠٠٣. منذ ذلك اليوم إلى الآن لا تزال الفوضى الاجتماعية والسياسية كثيرة الملاحظة ويصاحبها ركود اقتصادي وفساد إداري وتخلف حضاري.
الاحتجاج Protest
الاحتجاج هو قرار وتعبير فردي عن معارضة الإنسان وعدم اتفاقه مع شيء ما. الاحتجاج يصاحبه دوماً عاطفة قوية لا يقوى الإنسان على احتوائها وبالتالي يتخذ القرار بالتعبير عنها شفويا أو سلوكياً. العاطفة التي تعصف بالإنسان المحتج هي الغضب وأحياناً الخوف أو القلق أو اليأس.
الاحتجاج الجماهيري لا يختلف عن الاحتجاج الفردي سوى أنه تفاعل بين المجموعات البشرية في ظل بيئة سياسية معينة. الاحتجاج الجماهيري في العراق هذا الخريف لا يختلف في إطاره عن الاحتجاجات الجماهيرية المختلفة في مختلف بلاد العالم كونه يحدث ضد سياسة حكومية معينة. احتجاجات هونج كونغ هي ضد سياسية الدولة الموالية للصين الشعبية، الاحتجاجات الأوروبية ضد سياسة الحكومات الغربية في حماية البيئة، وكذلك الحال في آسيا وأمريكا الجنوبية. كذلك تشترك الاحتجاجات العراقية مع غيرها بوجود حافز الفعالية الجماعية، ولكنه يختلف عنه في عفويته نسبياً وغياب التنظيم الجماهيري الأكثر ملاحظة في بلاد العالم الأخرى.
يمكن تلخيص الاحتجاج العراقي بعبارة واحدة وهي شعور المواطن المحتج بالظلم. حين يشعر المواطن بالظلم فإن رد فعله قد يكون:
١- سلبي والقبول بالأمر الواقع. هذا الموقف السلبي يؤدي دوماً إلى التقاعس عن العمل والبحث عن طرق ملتوية لتحسين وضعه الفردي. رد الفعل السلبي هذا يفسر تفشي الرشوة والفساد في مؤسسات الدولة العراقية منذ زمن طويل وخاصة في مجال معاملات الدولة الإدارية المختلفة.
٢- إيجابي وهو عدم القبول بالوضع السائد. رد الفعل الإيجابي قد يكون فردياً حين لا يتوقف الإنسان عن التعبير عن شعوره بالظلم والمطالبة بتحسين وضعه. هذا السلوك الفردي قد ينجح أحياناً مع مهارة الإنسان في التعامل مع المسؤولين الذي يفضلون بدورهم الحصول على صمته بدلا من انتشار السلوك جماهيرياً.
ولكن هناك احتجاج جماعي حين تشعر مجموعة بشرية محددة بأن الدولة فشلت في سد احتياجاتها مقارنة بمجموعة أخرى. العراق أكثر عرضة من غيره للاحتجاج الجماعي لتفشي التقسيمات الدينية، الطائفية، القبلية، العشائرية، والعائلية. هذا الاحتجاج الجماهيري يفسر الفوضى التي عصفت بالعراق قبل وبعد الاحتلال الأمريكي عام ٢٠٠٣.
بعد ذلك يمكن النظر إلى الاحتجاج من خلال قطبين. القطب الأول هو ما نسميه بالاحتجاج الجماعي المطابق للمعايير السائدة في المجتمع Normative Protest. الاحتجاجات العراقية المؤخرة في بدايتها كانت تطالب بتحسين مستوى المعيشة وتوفر الفرص للجميع من خلال تعبير مجموعات مختلفة شعورها بالظلم في ظل نظام ديمقراطي برلماني. ولكن القطب الثاني هو احتجاج غير مطابق للمعايير السائدة Non-Normative وهذا بدوره يتميز باستعمال العنف. رد فعل الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمواجهة التظاهرات من خلال استعمال العتاد الحي قد يكون له عواقبه الشديدة في المستقبل مع تفشي استعمال العنف، وفقدان الثقة بالمنظومة السياسية الجديدة التي فشلت في سد احتياجات الكثير من المواطنين.
العنف والاحتجاج
الناس عموماً من صنفين حين يخرجون للاحتجاج:
١- هناك من يؤمن بأن الاحتجاج بحد ذاته سيؤدي إلى تغيير الوضع الحالي عاجلاً أم آجلاً وهذا الصنف من البشر يميل إلى الاحتجاج السلمي.
٢- وهناك من لا يؤمن بأن الاحتجاج يستطيع تغيير الوضع وبالتالي يستهدف إلى استعمال العنف واستغلال الاحتجاج في تنفيذ رغباته باستعمال العنف.
يمكن القول بأن الغالبية العظمى من العراقيين الذين خرجوا للمشاركة بالتظاهرات كان من الصنف الأول، ولكن هناك أيضاً أقلية من لا تؤمن بجدوى الاحتجاج السلمي. رد فعل السلطات باستعمال العتاد الحي بل وحتى الغازات المسيلة للدموع قد ترفع من رصيد المجموعة الثانية.
من جهة أخرى هناك عوامل متعددة تنقل المتظاهر سلمياً إلى موقع العنف كما هو موضح في المخطط أدناه. العنف بحد ذاته أداء سلوك بدائي وهناك من البشر من لا يتجاوز هذه المرحلة في حياته، ولكن هناك أيضاً من يتدهور أدائه من خلال عوامل عدة. هناك من يشعر بالإحباط الذي لا نهاية له مع تصريحات المسؤولين في الدولة. المشاركة في التظاهرات ومشاهدة صور وأفلام عن أعمال العنف يؤدي إلى تهيج عاطفي وبالتالي فقدان الوعي الذاتي عن أهداف الاحتجاج. مع التهيج العاطفي وفقدان الوعي الذاتي يحدث فقدان التنظيم الذاتي واستعمال العنف.
القيمة المتوقعة للاحتجاج الجماهيري Expectancy Value
هناك علاقة طردية بين حجم التظاهرات والقيمة المتوقعة للاحتجاج. كلما ارتفعت القيمة المتوقعة في نجاحها لأحداث تغيير ارتفع عدد المشاركين فيها. ليس من السهولة إحصاء عدد المشاركين في الاحتجاجات الجماهيرية العراقية مقارنة ببقية أقطار العالم، والأرقام تترواح ما بين عشرات الآلاف إلى مائة ألف. تحاول المواقع الاجتماعية أحيانا رفع عدد المشاركين لتشجيع المشاركة في التظاهرات، ولكن نجاح هذا الأسلوب غير مضموناً مقارنة بشعور المشارك بالقيمة المتوقعة للاحتجاج الجمعي.
نجحت الاحتجاجات اللبنانية في دفع زعيم الدولة إلى الاستقالة وكان عدد المشاركين بها أكثر بكثير من تظاهرات بغداد بسبب ثقة المواطن اللبناني بالنظام السياسي السائد رغم اعتلاله المزمن منذ ربع قرن من الزمان. المواطن العراقي حديث العهد بالنظام البرلماني بل وحتى لا يميل اليه بسبب الفوضى الاجتماعية والركود الاقتصادي والفساد السياسي.
الاحتجاج والهوية الاجتماعية Social Identity
الهوية الاجتماعية يتم تعريفها بالتمثيل المعرفي للذات الفردية والمجموعة في إطار اجتماعي مُعرف. الانتماء الاجتماعي بدوره يربط بشدة بين الاحتجاج الفردي والجماعي.
الهوية الاجتماعية الفردية للعراقي تتميز بانتشارها Diffusion انتشار الهوية مفهوم نفسي يمر به الإنسان في أعوام المراهقة التي قد تستمر إلى نهاية العقد الثالث من العمر. هذه الرحلة تتميز بقسوتها أحياناً ويأمل الإنسان في نهايتها إصدار هوية خاصة به وللمجموعة التي ينتمي إليها. من المتوقع أن يكون تمثيل الذات والمجموعة واحداً وهو الهوية الفردية العراقية والمجموعة العراقية الوطنية. ولكن العراقي عموماً ومنذ قرن من الزمان يعاني من تعدد الانتماء الجماعي. هناك الهوية العرقية العربية والكردية التي لعبت دورها في أزمات العراق ولا تزال تفعل ذلك إلى اليوم. هناك المجموعات الدينية المختلفة التي كانت تعكس التسامح الديني العراقي عموماً، ولكن الصراعات السياسية المختلفة دفعت العراقي لاستعمال دفاعات نفسية بدائية لإسقاط اللوم على بعض المجموعات الدينية لتفسير أزماته الاجتماعية المختلفة. هناك أيضاً التصنيف الطائفي الإسلامي في العراق بين الشيعة والسنة منذ "ثورة العشرين" إلى اليوم الذي يطغي على الهوية الفردية والجماعية. ولكن ما هو كثير الملاحظة إلى اليوم هو غياب هوية عراقية تطغي على الهويات الأخرى والانتماء الجماعي المتعدد.
تم استحداث مجموعات جديدة في العراق منذ الاحتلال الأمريكي إلى اليوم وتضاعف عددها بسبب الحروب الأهلية العراقية. اليوم هناك مراكز مجموعات قوى متعددة ينتمي إليها الفرد، وتتميز بسيطرتها على مراكز الدولة المختلفة والهشة في نفس الوقت. الاحتجاج الجماعي يحتوي دوماً على أزمة بين المجموعات المختلفة حين تشعر مجموعة بأن حقوقها ومصالحها أقل بكثير من مجموعة أخرى وتتعارض معها. هذا بدوره يدفعنا للانتباه إلى نظرية كثيرة التداول في تفسير الاحتجاج الجماهيري تدعى نظرية الحرمان النسبية Relative Deprivation Theory. هناك العديد من المجموعات العراقية تشعر بأن حقوقها أقل مقارنة بمجموعة أخرى مثل المجموعة السنية مقارنة بالشيعية، المجموعات المدنية مقارنة بالمجموعات الدينية الإسلامية، والمجموعات الحرفية مقابل الميليشيات العراقية المسلحة. هذا الشعور بحد ذاته يؤدي إلى الإحساس بفقدان الأمل ويبدأ الإنسان البحث عن مجموعة مظلومة ينتمي إليها. هذا الحرمان كذلك يفسر لنا تعدد الهويات المختلفة في المشاركة الجماهيرية والاحتجاجات مما يثير ارتباك السلطات وميولها إلى تفسير الاحتجاج مع استعمال نظريات المؤامرة.
التقسيم الطبقي والاحتجاجات العراقية
التقسيم الطبقي في العراق لا يختلف عن التقسيم الطبقي في جميع أقطار العالم والحضارات المختلفة. هناك الأثرياء والطبقات الوسطى التي تحرك ماكنة الدولة، والطبقة العمالية، يمكن إضافة طبقة من المعدومين والمستضعفين.
القاعدة العامة التي تنتبه إليها الدولة هو تعريف التقسيم والقبول به ولكن في نفس الوقت تستحدث القوانين وتشجع المواطن على التحرك من طبقة إلى أخرى مع ضمان الحقوق الإنسانية لكل مواطن وحماية المعدوم المستضعف. لذلك يمكن القول بأن المرحلة الأولى هو الانتباه إلى وجود التقسيم. المرحلة الثانية هي ضمان الفرص التي تساعد على التحرك الطبقي من مجموعة إلى واحدة أعلى. المرحلة الثالثة هي مبادرة الإنسان بالتحرك لتطوير نفسه في إطار منظومة اجتماعية نزيهة تضمن سلامته قانونياً.
وجود الحواجز التي تمنع التحرك الطبقي متفشية في العراق وربما في مختلف أقطار العالم العربي. هناك حقيقة أخرى هو استحداث طبقة ثرية جديدة من رجال السياسة والدين على حد سواء. انتشار المواقع الاجتماعية عبر الإنترنت ونشر الأخبار الصحيحة والمزيفة ربما ساعد على تضخيم ثراء هذه الطبقة الجديدة، ولكنه في نفس الوقت لم يساعد على تحفيز التحرك الاجتماعي السليم بسبب الفساد الإداري في الدولة. بسبب ذلك يدخل الإنسان مرحلة رابعة هي شلل التحرك وبالتالي لا يجد أمامه سوى المرحلة الخامسة وهي الاحتجاج.
نظريات المؤامرة والاحتجاج الجماهيري
تدخل نظريات المؤمرات في كل احتجاج جماهيري ويستعملها الكثير لتفسير الأحداث سواء كانت الدولة أو الجماهير غير المشاركة في التظاهرات أو التي تتعارض مصالحها مع تغيير الأوضاع.
هناك أولاً الصراعات السياسية المختلفة بين الأحزاب العراقية الجديدة. تتميز هذه الأحزاب بغياب منهج سياسي اصطلاحي للنهوض بالبلد ومؤسسات الدولة وتكتسب شرعيتها عبر الانتماء الطائفي الديني أو القبلي أو العشائري. بسبب ذلك يتم إسقاط اللوم على مجموعة حزبية معينة لتفسير التهيج الجماهيري.
التقسيم الطبقي الجديد في العراق وبروز مراكز رؤوس الأموال الجديدة يدفع البعض إلى توجيه أصابع الاتهام للأثرياء الجدد التشجيع على عدم الاستقرار مما يساعدهم على السيطرة على السوق وشراء العقارات مع غياب الثقة بالاقتصاد وتحركه إلى الأمام.
وبالطبع هناك إسقاط اللوم على دول الجوار وغير الجوار في تفسير الأوضاع. هذه النظريات لا تكفي وحدها لتفسير الأحداث واستعمالها من قبل السلطات يتيح لها الفرصة لتبرير القمع بالعنف.
الطريق إلى الأمام
العراق بلد مريض يعاني من مشاكل متعددة يصعب حصرها في مقال واحد. كذلك يصعب الفصل أحيانا بين تعقل الأوضاع والعواطف المختلفة التي تعصف بالمواطن العراقي وأزماته الوجودية المتعددة وانتشار هويته الفردية.
هناك فساد إداري والبنية التحتية للعراق لا تزال هشة والاستثمار الخارجي والدولي في العراق غير مضمون وبالتالي لا يزال العراق بلدا فقيرا يعتمد فقط على النفط اقتصادياً. النفط بحد ذاته نقمة على العراق والبعض يعاني من وهام مزمن بأن العراق بلد غني بسبب ما يسمى مجازيا الذهب الأسود.
التجربة الديمقراطية العراقية مرتبكة، ولا تزال المؤسسة الدينية والانتماء الطائفي يوثر على أداء الموطن العراقي بصورة ملحوظة. بسبب ذلك لا يصعب تصور العراق على أنه بلد مقسم إلى مناطق عدة لها مميزاتها الاجتماعية والاقتصادية والحضارية.
هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في إدارة العراق بصورة مختلفة ومنح الأقاليم المختلفة الحرية في إدارة شؤونها بعيداً عن بغداد والحكومة المركزية، مع استحداث نظام مدني بكل معنى الكلمة يسد احتياجات المواطن العراقي بعيداً عن انتمائه لمجموعات بشرية بدائية.
واقرأ أيضاً:
الالتهاب والاكتئاب / رهاب المكان المغلق Claustrophobia رهاب الاحتجاز