التحول من اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة إلى نمو ما بعد الصدمة (1)
يمكن للأحداث الصادمة أن تحطم العالم الافتراضي للشخص، ويصاحب ذلك كرب انفعالي شديد، مما يجعله مضطرا للدخول في معالجة معرفية عميقة لاستيعاب هذه الأحداث الصادمة والقاسية، وعند إعادة بناء افتراضات وتصورات جديدة عن نفسه والعالم والمستقبل يمكن أن ينعكس ذلك عليه في صورة تغيرات إيجابية تمثل نمو ما بعد الصدمة Post Traumatic Growth.
وفي هذا المقال وما يليه نستهدف وصف الاحتمالات المترتبة على التعرض لخبرة الحدث الصادم، حيث يتبعه اضطراب كرب ما بعد الصدمة أو الصمود والتكيف والتعافي التلقائي أو حدوث معالجة معرفية قوية تؤدي لنمو الشخص وازدهاره مع التركيز على آلية التحول من حالة اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة إلى نمو ما بعد الصدمة، وطبيعة العلاقة بينهما وأنواع التغيرات الإيجابية المحتملة والمتمثلة في أبعاد نمو ما بعد الصدمة، بجانب العوامل التي تعززه وتدعمه كصيغة من صيغ التدخلات النفسية الإيجابية.
بداية من الضروري الالتفات إلى أن التحول على مستوى النظرية والبحث والممارسة العيادية من التركيز فقط على تقييم وخفض الأعراض السلبية ومنع الانتكاسة ورصد المآلات المتعلقة بالاضطراب والمرض، إلى النظر إلى احتمالات النمو والارتقاء والفعل والتطور الإيجابي العكسي لهو أمر جدير بالاهتمام.
فقد كان من المفترض في الماضي أن النتائج السلبية فقط تنشأ من الصدمة، وركزت الأبحاث على ردود الفعل السلبية التالية للضغوط مثل: اضطراب كرب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder والاكتئاب، والقلق، والضيق. لكن في السنوات الأخيرة، تمت دراسات متقدمة حول الصدمة بشكل أوسع بما في ذلك إمكانية حدوث ردود فعل إيجابية بعد الصدمة مثل النمو والأداء الأمثل Optimal Functioning
ويذكر ستيفن جوزيف في مقال بعنوان "النمو بعد الشدائد: آفاق نفسية إيجابية على ضغوط ما بعد الصدمة" أننا بدأنا نكتشف الطرق التي يمكن أن تيسر النمو بعد الصدمات والشدائد. وينبغي أن يكون المعالجون على بينة من إمكانات وفرص إحداث تغيير إيجابي في الأفراد الذين تعرضوا لعواقب الشدائد. وينبغي أن ينظر إلى النمو الشخصي بعد الصدمة على أنه ناشئ ليس من الحدث، ولكن من داخل الأشخاص أنفسهم من خلال عملية صراعهم مع الحدث وتداعياته (Joseph, 2009, 341).
وهذا يعني أن المرور بخبرة صادمة لا يؤدي فقط إلى احتمال الاضطراب والضغوط، وإنما هناك احتمال للتعافي التلقائي رغم مشاعر الضيق والمشقة الانفعالية، واحتمال ثالث – ما نتناوله في هذا المقال – وهو النمو والازدهار نتيجة التفاعل والمعالجة لهذه الخبرة الصادمة.
أولا: اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة PTSD
هناك مجموعة من العواقب السلبية تنتج من الأحداث الصادمة وتشمل مجموعة واسعة من الاختلالات Dysfunctions. مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب depression واضطراب القلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder بجانب بعض الآثار السلبية الأخرى مثل انخفاض تقدير الذات، وانخفاض الثقة في الآخرين وتدهور مستوى الصحة البدنية وزيادة الشعور بالضعف، كما أن الصدمة قد تؤدي إلى تشوهات كبيرة في النظم العصبية الحيوية والعمليات المعرفية قد تصل لأعراض فصامية وانفصال dissociative عن الواقع وضعف الذاكرة. كذلك بعض الخبرات الصادمة، وخاصة في مرحلة الطفولة، ترتبط بتطور نمط الشخصية العدوانية وارتكاب جرائم عنف.
وفيما يتعلق بتأثير الصدمات المتعددة، فبعد دراسة (Turner and Loyd, 1995) لـ 20 من صدمات الحياة (على سبيل المثال، الإصابة الكبيرة أو المرض، والاعتداء البدني أو الجنسي، أو وفاة أحد الأفراد المقربين)، توصلا إلى وجود علاقة كبيرة بين التعرض لعدد من الصدمات مدى الحياة، وبين حدوث الاضطرابات النفسية وتعاطي المخدرات.
وبالمثل، في دراسة فولتي وآخرون (1996) وجدوا أن هناك علاقة ارتباطية إيجابية ذات دلالة بين التعرض لعدة أشكال وأنواع مختلفة من تجارب الإيذاء (مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال، والاعتداء الجنسي على الكبار، والعنف العائلي) وبين مستوى أعراض ما بعد الصدمة (مثل، القلق، الاكتئاب، التفكك) - مما يدل على الأثر التراكمي للصدمة (Follette et al: 1996).
ومع ذلك، فإن الصدمة ليست النوع الوحيد من الضغوطات التي تؤثر على رفاهية الأفراد بعد الصدمة. فقد اكتشف (Turner and Lloyd, 1995) أن الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من الصدمة التراكمية، يميلون إلى ارتفاع مستويات الإجهاد والضغوط المزمنة مثل: مشاكل في مواردهم المالية، وعملهم، وعلاقاتهم الهامة، وصحتهم البدنية.
ولاحظ العلماء أن ضغوط الحياة لا تؤدي بالضرورة إلى الاكتئاب والقلق والعزلة والانتحار...الخ بل يمكنها أن تحقق هدفا ما وتعيد بناء الذات، وتؤدي لنتائج إيجابية كثيرة فالانفعالات الإيجابية توجد أثناء الضغوط المزمنة" (جبر محمد، 2013، 19).
ويمكننا أن نبدأ في استبدال المنظور الطبي في ضغوط ما بعد الصدمة على أساس فهم أن الصراع مع الصدمة يمكن أن يكون في نهاية المطاف نقطة انطلاق لمستوى أعلى من الأداء النفسي. ولا يمكن للناس أن يعودوا بالزمن أو للتراجع عما حدث لهم، ونحن لا يمكننا استبعاد خبرة وتجارب الألم والمعاناة، ولكن يمكننا مساعدتهم على العيش بشكل أكثر جدية على الرغم من تجاربهم (Joseph, 2009, 341).
ثانيا: نمو ما بعد الصدمة PTG
في أوائل التسعينات أصبح موضوع النمو نقطة جذب للبحوث، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى العمل الرائد لتيدسكي وكالهون Tedeschi and Calhoun اللذين صاغا مصطلح "نمو ما بعد الصدمة" Posttraumatic Growth في عام 1995، حيث قدما لأول مرة كتابهما الصدمة وتحولات النمو بعد المعاناة، وبعد ذلك في مقالهما الذي نشر في مجلة ضغوط الصدمة (Joseph, 2009, 337).
ثم بعد ذلك توالت جهود الباحثين وتنوعت الدراسات، وواكب هذا دعم التوجهات الإيجابية واتساع حركة علم النفس الإيجابي، ومن أمثلة الباحثين الذين أضافوا بعد تيدسكي وكالهون في تنظير وتأكيد مفهوم نمو ما بعد الصدمة بنفس المصطلح أو مصطلحات ذات صلة بالتغيرات الإيجابية بعد الصدمة كل من ستيفن جوزيف Joseph ولينلي Linley، وكان أرين وغيرهم، كذلك تناولتها الأبحاث المتخصصة في علم النفس العلاجي باعتباره مدخلا إيجابيا جديدا للتدخل الإرشادي والعلاجي في تخفيف حدة اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة PTSD.
ثالثا العلاقة بين نمو ما بعد الصدمة PTG وضغوط ما بعد الصدمة PTSD
أظهرت نتائج الدراسات اختلافا إلى حد ما في توضيح العلاقة بين الضغوط والنمو، فتوصلت دراسة تشين وزملاؤه (2009 ,.Chen J, et al). إلى أن نمو ما بعد الصدمة يتنبأ سلبًا بأعراض ضغوط ما بعد الصدمة، أي أن ارتفاع مؤشرات النمو يعني انخفاض مؤشرات الكرب والضغوط، أما دراسة (Phelps, et al., 2009) فتوصلت إلى عدم وجود علاقة ارتباطية ذات دلالة بين نمو ما بعد الصدمة وبين الضغوط. بينما أشارت دراسة (Jin, et al., 2014) ودراسة (Wang, et al, 2015) إلى وجود ارتباط إيجابي بين أعراض ضغوط ما بعد الصدمة ونمو ما بعد الصدمة مما يدل على توافر الأعراض الإيجابية والسلبية في نفس الوقت.
وقد قام (Decker, 2016) بتحليل نتائج (19) دراسة تناولت نمو ما بعد الصدمة وضغوط ما بعد الصدمة وخلص منها إلى أن أغلبية الدراسات (15) تؤيد وجود علاقة ارتباطية بين PTG وPTSD حيث يؤثران على بعضهما البعض. وفي (13) دراسة كانت هذه العلاقة سلبية، مما يعني أن ارتفاع PTG أدى إلى انخفاض أعراض PTSD، وخمسة دراسات أظهرت أدلة على وجود علاقة منحنية من PTSD وPTG. وهذا يعني أنه في حالة درجات PTSD عالية أو منخفضة للغاية لن يحدث PTG. واتضح أن بعد القوة الشخصية في النمو هو العامل الأكثر حماية لحدوث النمو في مقابل ضغوط ما بعد الصدمة.
وترتبط المستويات العالية من التهديد المدرك والأذى مع مستويات أعلى من النمو المرتبط بالشدة. ومع ذلك، لا يبدو أن يكون على الدوام علاقة خطية طردية مستقيمة بين درجة الصدمة ودرجة النمو لكن هناك علاقة منحنية بين الفوائد المدركة (النمو) والتعرض للصدمة، حيث كانت العلاقة في أقوى صورها في المتوسط أكثر من المستويات الأعلى والأدنى من التعرض (Linley & Joseph, 2004, 15).
فقد يكون قليلٌ من الكرب لازمًا للبدء في البحث عن المعنى، وقد يعمل إيجاد النفع (إدراك النمو) على خفض الكرب. والأدلة الحديثة تشير إلى أن العلاقة قد تكون رباعية (منحنى على شكل U مقلوبة) وفيها يظهر الأفراد ذوو مستويات الكرب شديدة الانخفاض وشديدة الارتفاع مستويات منخفضة من إيجاد النفع. وهذا يمكن تفسيره بأن الأفراد الذين ليس لديهم أي مستوى من الكرب أو مستويات منخفضة منه، قد يفتقرون لدافعية البحث عن معنى وبالتالي لا يجدون النفع والنمو، بينما الأفراد الذين يمرون بمستويات شديدة الارتفاع من الكرب قد يكونون بعيدين عن إيجاد معنى نتيجة لامتداد معاناتهم. (سوزان ليشنر، وهاوارد تنين، جلين أفليك، 2017، 999-1000).
وهذا يفيد في أن النمو لابد أن نهتم به أكثر وبزيادته في حالات الضغوط المتوسطة، بينما الضغوط العالية جدا فيكون الاهتمام بالتدخل العلاجي لعلاج اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة بفنيات علم النفس العلاجي، بجانب التدخل الإيجابي لتعزيز نمو ما بعد الصدمة.
وفي المقال التالي نتناول بالتفصيل مفهوم نمو ما بعد الصدمة وأبعاد نمو ما بعد الصدمة.
المراجع:
- جبر محمد جبر (2013). علم النفس الإيجابي. (كتاب جامعي)
- سوزان ليشنر، وهاوارد تنين، جلين أفليك (2018). إيجاد النفع والنمو. (ترجمة) صفاء الأعسر. في: دليل علم النفس الإيجابي (ج2). (تحرير) شين ج. لوبيز، وس.ر. سنايدر. القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص ص 993: 1014.
- Chen J, Zhou X, Zeng M, Wu X (2015) Post-Traumatic Stress Symptoms and Post-Traumatic Growth: Evidence from a Longitudinal Study following an Earthquake Disaster. journal of PLoS ONE 10(6): e0127241
- Decker, V(2016). Posttraumatic growth in combat veterans with PTSD. A literature review. Master-thesis. Faculty of Behavioral, Management and Social sciences (BMS). University of Twente.
- Follette, V. M., Polusny, M. A., Bechtle, A. E., & Naugle, A. E. (1996). Cumulative trauma: The impact of child sexual abuse, adult sexual assault, and spouse abuse. Journal of traumatic stress, 9(1), 25-35
- Joseph, S. (2009). Growth Following Adversity: Positive Psychological Perspectives on Posttraumatic Stress. Psychological Topics 18 2, 335-344
- Jin Yuchang • Xu Jiuping • Liu Dongyue (2014). The relationship between post traumatic stress disorder and post traumatic growth: gender differences in PTG and PTSD subgroups. Soc Psychiatry Psychiatr Epidemiol (49):1903–1910
- Linley.A & Joseph.S (2004).Positive Change Following Trauma and Adversity: A Review. Journal of Traumatic Stress, Vol. 17, No. I , 11-21
Phelps K, Mccammon S, Wuensch K& Golden J (2009). Enrichment, stress, and growth from parenting an individual with an autism spectrum disorder. Journal of Intellectual, 34(2): 133–141.
Wang Yanbo,1 Sheni Huixia & Xie Haixia(2015). Posttraumatic growth, posttraumatic stress symptoms, and psychological health in traumatically injured patients in mainland China. Clinical Psychologist 19 . 122–130
Turner, R. J., & Lloyd, D. A. (1995). Lifetime traumas and mental health: The significance of cumulative adversity. Journal of health and social behavior, 360-376
ويتبع >>>>>: التحول من اضطراب ما بعد الصدمة إلى نمو ما بعد الصدمة (2)
واقرأ أيضًا:
نماء ما بعد الرضح (الصدمة) / النمو الإيجابي لدى أهالي الشهداء الفلسطينيين