ولكن تبقى الأسئلة الحساسة هنا هي: من الذي أطلق صافرة البداية؟ ومن الذين تواطؤا لاحقاً؟ ولماذا؟ وهنا بيت القصيد...
ليس هناك شكٌ في أن صافرة البداية انطلقت من منظمة الصحة العالمية ومن ما يُسمى بمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة. ورغم أن استجابتهما تبدو في الظاهر سليمة ومناسبة من حيث المبدأ ولا تشي بسوء النية، لكن التخبط والملابسات التي رافقت تلك الاستجابة في البداية تستثير الأسئلة، في الوقت الذي يصعب فيه صراحة تجاهل الروابط التي كانت مثار تساؤلات خلال الأعوام الماضية والتي تجمعها بشركات الدواء العالمية، والتي "يصدف" أنها المستفيد الأول من كل هذا بعد أن طورت تقنيات جديدة مناسبة لانتاج لقاحات للفيروس الذي "توقعت" هذه الشركات احتمالية انتشاره بناء على خبرات سابقة. كما أن هذه الشركات بدورها لم تدخر لاحقاً جهداً في الترويج بكل ثقلها ونفوذها المعروف في الأوساط الإعلامية والأكاديمية لضرورة اللقاحات وأهميتها،رغم اعتراف بعضها لاحقاً أيضاً أنها أُقرت ودخلت حيز الاستخدام دون التأكد من فعاليتها في وقف انتشار الوباء.
وأياً ما كان، فمن الظلم تحميل هؤلاء وحدهم المسؤولية عن موجة الذعر تلك، فحتى وإن صحت التكهنات عن دور متعمد لهم في إطلاقها، ففي الأغلب أن الهدف كان إثارة زوبعة محدودة تدفع الحكومات تحت الضغط إلى التعاقد على شراء تلك اللقاحات قبل انتاجها ثم تهدء الأمور تدريجياً وتستمر الحياة، وإن لم يترددوا بالتأكيد في دعم ما حدث لاحقاً والاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن.
إن ما حدث هو أن وسائل الإعلام وجدت مادة دسمة للدراما ورفع نسب المشاهدات في حادثة السفينة دايموند برنسيس التي ربما تفاجأ بالحصيلة النهائية لضحاياها، وأيضاً في اضطرار إيطاليا لفرض حالة الإغلاق بعد أن أدارت أوروبا لها ظهرها بسبب الغموض حول طبيعة الفيروس وأوشك نظامها الصحي على الانهيار . ثم فجأة أدركت وسائل الإعلام ومشغلوا منصات التواصل الاجتماعي طبيعة الفرصة السانحة أمامهم بعد أن أصبح خيارالإغلاق الشامل مطروحاً على الطاولة. فالناس ستكون في بيوتها على مدار الساعة طوال أيم الأسبوع إما قلقة تتابع الجديد بلهفة أو تشعر بالملل، فأي فرصة أفضل من ذلك لرفع نسب المشاهدات وتعظيم الأرباح. وبالتأكيد لم تجد وسيلة أفضل للضغط من أجل تحقيق ذلك من أضافة المزيد والمزيد من الدراما على المشهد وإثارة المزيد من الذعر، والمطالبة بالإغلاق الشامل وقائياً بغض النظر عن الحقائق على الأرض وظروف كل منطقة جغرافية على حدة، وهنا بدأ منحنى الذعر يتصاعد بشكل أسي حتى ظن الناس الفيروس وحشاً قابعاً أمام أبوابهم يترقب منتظراً أولى خطواتهم خارج منازلهم ليفتك بهم! وهنا أيضاً بدأت شرارة ردود الأفعال الرافضة لفكرة التحوط برمتها كردة فعل على سخافة اللحن المعزوف.
ولاحقاً أدرك المزيد والمزيد من الشركات العائد الضخم الذي يمكن لهم تحقيقه في حال فرض الإغلاق الشامل فانضموا للمشهد وشارك كلٌ منهم فيه بطريقته، ومن بين هؤلاء مزودوا خدمات التواصل والتعاون والتعليم عن بعد، منتجوا المستحضرات والمعقمات الطبية، وشركات البيع بالتجزئة عبر الإنترنت.
لقد صار فرض الإغلاق الشامل واستمراره لأطول فترة ممكنة هدفاً لكل هؤلاء، والسبيل الوحيد لذلك كان بث المزيد من الذعر الذي صار يضخ ويوزع هنا وهناك دون رقيب أو حسيب، وفرض رقابة غير رسمية على كل رأي عقلاني لا يتراقص على أنغام معزوفة الرعب تلك. وذلك في الوقت الذي كان فيه عشرات الملايين حول العالم تحترق أعصابهم أينما التفتوا، فقد صار كورونا بالنسبة لهم حرفياً الشبح الذي يطاردهم مع كل نفس.
أما الحكومات فإنها رغم ترددها في البداية لإدراكها ما ستؤول إليه حالة الذعر المستمر تلك، ولكنها في النهاية رضخت وقررت استغلال الفرصة لتحقيق مصالحها الخاصة بدورها، فبعضها استغلت الوضع للتضييق على معارضيها، وبعضها رأتها فرصة لإحداث تغييرات اجتماعية (أغلبها سلبي للأسف) كانت تحلم بتحقيقها على مدى عقود وها هي الفرصة لتسريع البداية على الأقل خلال بضعة شهور، وأغلب الحكومات وجدتها فرصة سانحة للسيطرة على التدفق النقدي والتحول إلى المدفوعات الإلكترونية لتعظيم إيرادتها الضريبية من جهة وخنق شرايين التمويل على من تعدهم مارقين عن القانون، واستوا في ذلك الأخيار منهم والأشرار. أما الدول التي يسود فيها الصوت الإعلامي الواحد فقد كانت فرصة لها لترديد البروباغندا الحكومية على مسامع الناس ليل نهار وهم ملتصقون بالشاشات رغماً عنهم.
أما السياسيون، فحدث ولا حرج. وهنا الكلام يشمل الأفراد والأجسام والمجموعات السياسية على طول الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فالكل استغل الموقف لخدمة مصالحه وأهدافه وأجنداته دون النظر في العواقب المحتملة. فالبعض (وأغلبهم من اليمين) نصب نفسه قائداً لحملات اللامبالاة سعياً لكسب الشعبية وسط من استفزتهم نغمة الرعب تلك، فأسهموا في تزايد الإصابات والوفيات وتغذية دوامة الرعب. وفي المقابل لم يتوان اليسار السياسي عن إطعام نار الذعر بمزيد من الحطب لخدمة مصالحهم الانتخابية (الانتخابات الأمريكية مثالاً)، وأجنداتهم السياسية والأيدلوجية، إذ كانت حالة الإغلاق الشامل فرصة للدفع بجرعة مركزة من أفكارهم وغمر الأجيال الجديدة بها على مدار الساعة عبر وسائل الإعلام التي يتمتعون بنفوذ واسع في أغلبها.
وغير بعيد، وقفت هناك النخبة الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا والمؤسسات الاقتصادية الدولية تتأمل الفرصة النادرة التي بين أيديهم، فلم يترددوا في رسم الخطوط العريضة لكل هذه الإجراءات الاقتصادية الفاشلة والمثيرة للجدل من أجل تأمين مصالحهم والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر أن استمرار موجة الرعب تلك سيقود حتماً في النهاية إلى أزمات اقتصادية طاحنة في الدول النامية بالدرجة الأولى، ما يعني مزيداً من القروض لهذه الدول بمزيد من الشروط المجحفة بحق شعوبها لتصل في النهاية إلى استحواذهم على أصول هذه الدول أو على حق الانتفاع طويل الأجل بثرواتها بأثمان بخسة. ويكفي أن نعرف أن عدد الدول النامية التي حصلت على مثل هذه القروض من صندوق النقد الدولي خلال عام الوباء 2020 كان أكثر من 80 دولة في مقابل 9 دول فقط في عام 2019 .
ومن بين الجميع تبقى مجموعة أخيرة ساهمت بنصيب وافر في حملة الرعب تلك، ولكنها الوحيدة المعذورة كل العذر ولا تلام، ولهؤلاء تحديداً نرفع القبعة احتراماً وتقديراً، إنهم الأطباء والعاملون في القطاع الصحي، والذين لم يسمح لهم تردي المنظومات الصحية بأن يروا إلا الجانب الأسوأ من الوباء على مدار الساعة حتى انهار الكثير منهم سواء نفسياً أو جسدياً.
إن الخلاصة هنا، هي أنه إذا كان هناك ما نتعلمه من محنة كوفيد-19، فإنه قبل الحديث عن الاستعداد للوباء القادم بشكل أفضل، أو عن مواجهة المؤامرات هنا وهناك، فإن الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتعلمه هو أنه قد آن الأوان لمكافحة وباء الفردية والأنانية الذي اجتاح العالم خلال العقود القليلة الماضية. هذا الوباء الذي حول الرعاية الصحية من خدمة للمجتمع إلى مجال تجاري خالص، وحولت مشكلة يمكن التعاطي معها ببعض الحكمة إلى مأساة عالمية على مختلف الأصعدة. كل أولئك الذين شاركوا في رقصة الذعر تلك أعطوا الأولوية للمصالح الفردية الضيقة على الصالح العام للبشرية كلها، ولو لم تكن التبعات لتطولهم في النهاية لما توقفوا حتى يعصروا آخر قرش في جيب آخر إنسان على وجه الأرض.
واقرأ أيضاً:
السر باختصار / التطبيع مع الفساد/