مفهوم الدين -أي دين– يقتضي بالضرورة أن هنالك أناساً يؤمنون به (مؤمنون) وآخرين يكفرون به (كافرون) فـ "التكفير" إذن بضوابطه الصحيحة قضية لا جدل معتبرا حول مشروعيتها وإن أثارها البعض، حيث أنها تلتصق بجوهر الدين بوصفها سمة محورية له ولازما لا ينفك عنها بحال.
غير أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة تعاني من اضطرابات فكرية وانحراف مخيف في مسائل التكفير؛ من خلال تلبس فئة من الناس بالتكفير المنحرف أو الباطل (أي التكفير الذي لا يلتزم بالضوابط الشرعية المقررة، وللاختصار سوف نستخدم مصطلح التكفير).
خطورة التكفير
"ظاهرة التكفير ليست قضية خطرة فحسب بل مركّبة ومعقّدة للغاية، مما يجعلنا مطالبين ببذل جهود بحثية تشخيصية متواصلة لتلك الظاهرة"
وينضاف إلى ذلك غياب التشريعات التي تمنع ممارسة التكفير وتوجب اللجوء إلى جهات اختصاص قضائية عبر إجراءات وقنوات مقننة؛ مما يجعل التكفير أحد أكبر مهددات "الأمن الفكري" في تلك المجتمعات.
حيث يعتبر ذلك اللون من التكفير منطلقاً رئيساً لكثير من حركات وجماعات الغلو/التطرف والعنف/الإرهاب وجرائمها البشعة؛ قتلاً للأنفس المعصومة (مسلمة كانت أو غير مسلمة)، وتدميراً للمباني والمنشآت والمصالح والمقدرات الوطنية، وفق إطار فكري ينبثق من "فهم خاطئ" لـ "أفكار صحيحة" أو "أفكار خاطئة" ضمن مفردات المنظومة الدينية للفئات المتورطة بالتكفير وما قد يترتب عليه من اتجاهات وتصرفات خطيرة.
وقد أدركت المجتمعات العربية والإسلامية خطورة ذلك التكفير، وشددت على ضرورة التصدي له بوصفه متكئاً دينياً مغلوطاً للغلو والعنف، إلا أنه لم ُتبذل جهودُ بحثيةُ معمّقةُ في سبيل تشخيص منهجي لظاهرة التكفير في واقعنا المعاصر.
وظاهرة التكفير ليست قضية خطرة فحسب بل قضية مركّبة ومعقّدة للغاية، مما يجعلنا مطالبين ببذل جهود بحثية تشخيصية متواصلة لتلك الظاهرة.
تجاوز التوصيف التراثي للتكفير
يقضي التشخيص المنهجي تجاوز التوصيفات التراثية للتكفير، ولا يعني هذا هجرها أو الدعوة إلى عدم الاستفادة منها، فذاك غير متصور، وإنما المطالبة بعدم التوقف عند تلك التوصيفات، فقضية التكفير من القضايا المتجددة، مما يجعل لها سمات وتمظهرات وأنماطاً وآثاراً متغيرة؛ نلاحقها ونؤطرها بمنهج تشخيصي يؤمن بضرورة الممارسة الإبداعية في التعاطي مع تلك القضية، من خلال تطوير أدوات جديدة لفهم الظاهرة وتشخيصها وعلاجها وما يتطلبه ذلك من ابتكار مصطلحات انعكاسية ذات عمق نظري وذات قابلية لأن تكون ضمن أدوات التحليل والتفكير، بجانب بناء وتطوير أدوات استكشاف وقياس دقيقة.
"حين يوصف التكفيرُ بأنه من ضمن مهددات الأمن الفكري، فإن ذلك لا يعني أن التكفير يصل بالضرورة بكل فرد إلى حد ممارسة العدوان والعنف، بل قد يقتصر على جعل الفرد يتلبس بحالات العطالة الفكرية أو السلبية الفردية".
وعلى الرغم من المحاولات غير الموضوعية من قبل البعض لربط قضايا الغلو والعنف بدين معين أو مجتمعات محددة(1)، إلا أنه بات جلياً أنها قضايا عالمية تواجه الدول والمجتمعات بنسب متفاوتة وبواعث مختلفة، وقد نالت قضية العنف اهتماماً بحثياً بارزاً، حيث تشهد الأدبيات العلمية آلاف الأبحاث في مختلف دول العالم، في محاولة لفهم تلك الظاهرة والتعرف على مسبباتها والبيئة التي تنمو فيها وتحديد آثارها وطرق علاجها.
وحين يوصف التكفيرُ بأنه من ضمن مهددات الأمن الفكري، فإن ذلك لا يعني أن التكفير يصل بالضرورة بكل فرد إلى حد ممارسة العدوان والعنف، بل قد يقتصر على جعل الفرد يتلبس بحالات العطالة الفكرية أو السلبية الفردية أو الانسحابية الاجتماعية، ويعد كل ذلك خسارة فادحة وفق المؤشرات والمقاييس النهضوية والحضارية.
غياب النماذج التشخيصية وافتقاد التراكمية
هنالك إشكاليات بحثية كثيرة حول ظاهرة التكفير، ولعل من أبرزها ندرة الجهود العلمية التي تستهدف بناء نماذج تشخيصية وتفسيرية لتلك الظاهرة، أخذاً بالاعتبار العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر على تلك الظاهرة بشكل أو بآخر، ولقد تسبّبت تلك الندرة في عدم توجيه جهود بحثية لبناء وتطوير أدوات للاستكشاف الكيفي (النوعي) والقياس الكمي لتلك الظاهرة في ضوء ثقافتنا وإطارنا الحضاري، مما أضعف قدرات المجتمعات العربية والإسلامية على فهم تلك الظاهرة وتفسيرها في سياقاتها المعاصرة بما في ذلك توصيف ماهية التكفير والتعرف على أسبابه وأنماط تشكّله وتطوره ومراحل انتشاره وموجات تمدده وانحساره.
وجلي بأنه لا يمكن بناء تلك النماذج أو الأدوات في أبحاث علمية محدودة، نظراً لتعقد ظاهرة التكفير وتشعبها من حيث أسبابها وبواعثها وأنماطها ومآلاتها، مما يؤكد على أهمية مراعاة جانب التراكمية في الجهود البحثية في ذلك المجال، مع ضرورة الإفادة من الحقول المعرفية المختلفة، نظراً لتوفر كل حقل على منظومته المفاهيمية وأدواته المنهجية التي يمكن أن تسهم بشكل تكاملي في عملية البناء والتطوير لمثل تلك النماذج أو الأدوات، وكل ذلك يدفع باتجاه البدء بتنفيذ أبحاث علمية مع الحرص على إحداث تلك التراكمية والتكاملية.
وهنا نرى ضرورة استدعاء حقيقة أن من السمات الأساسية للمعرفة العلمية "التراكمية الرأسية" إذ أنها تتيح للإنسان أن يراكم النتائج والخبرات السابقة، ليقوم بالعمليات التحليلية النقدية الملائمة؛ التي تمكّنه من استخلاص النظريات والنماذج والمبادئ والمصطلحات.
غير أن الفضاء البحثي العربي -في بعض مؤسساتنا البحثية– يتبنى أطراً وإجراءات لا تعين على تحقيق تلك السمة، حيث تقرر تلك المؤسسات أن "جدة" الموضوع شرط رئيس لقبول العمل البحثي حتى ولو كان الموضوع إشكالياً أو معقداً، مما رسّخ لدى بعض الباحثين عدم الإقدام على دراسة موضوعات سبق دراستها.
وقد فوّتت تلك الممارسة علينا إحداث التراكمية، كما أنها قادت إلى الاعتماد على نتائج دراسات محدودة، قد تكون نتائجها غير دقيقة أو غير مكتملة لأسباب تعود إلى المنهجية العلمية المستخدمة أو تحيزات سلبية لدى الباحثين أو ضعف الخبرة البحثية لديهم.
ونعتقد بأن تلك الممارسة تحتاج إلى إعادة نظر لاسيما في التعاطي مع الظواهر شديدة التشابك والتعقيد.
التكفير.. تعقد ظاهرة وسطحية أبحاث
تتسم ظاهرة التكفير بالتعقيد الشديد من جهتين، فهي ظاهرة معقّدة باعتبار عواملها الذاتية من أسباب وبواعث وسمات وآثار، وهي معقّدة أيضاً من جهة تشابكها بالعديد من الظواهر المعقّدة الأخرى كالغلو والتشدد والتعصب والعدوان والعنف، مما يجعلنا نشدّد القول بضرورة بذل جهود بحثية معمّقة ذات طبيعة تراكمية علها تعيننا على بناء أطر مفاهيمية ونماذج تشخيصية وتفسيرية لتلك الظاهرة في سياقاتها المعاصرة، مما يمهد لنا السبيل لفهمها وتفسيرها ووضع الحلول الملائمة لها على المستويين الوقائي والعلاجي.
"لابد من بذل جهود بحثية معمّقة ذات طبيعة تراكمية علها تعيننا على بناء أطر مفاهيمية ونماذج تشخيصية وتفسيرية لظاهرة التكفير في سياقاتها المعاصرة، مما يمهد لنا السبيل لفهمها وتفسيرها" .
ويمكن لنا تجلية سمة التعقيد في ظاهرة التكفير من خلال القراءة التحليلية للأدبيات العلمية ذات الصلة بظاهرة التكفير والظواهر المرتبطة بها. وبعد القراءة التحليلية لتلك الأدبيات، خلصنا إلى بعض النتائج الهامة والتي نوجزها فيما يلي:
1- لم تفلح أو بالأحرى لم تتوجه جهودنا البحثية لإيجاد نظرية علمية أو نموذج تفسيري لظاهرة التكفير والظواهر ذات الصلة، ولهذا الأمر آثار خطيرة سوف نتعرض لها لاحقاً بقدر لائق من التفصيل.
2- أن نسبة كبيرة من تلك الأدبيات تتجسد في شكل كتب أو كتيبات أو أوراق عمل تعبر عن وجهات نظر شخصية لكتّابها، من دون توضيح للأطر المنهجية التي التزم بها المؤلفون أو الباحثون لدراسة تلك الظواهر.
3- بعض تلك الأدبيات عبارة عن دراسات –يغلب عليها الجانب الكمي- تفتقر للعمق النظري والجودة المنهجية في ضوء ممارسات بحثية لا تعترف بتعقد تلك الظواهر وتشابك العلاقات فيما بين العوامل المؤثرة فيها؛ ومن ثم فهي لا تستجيب للمتطلبات المنهجية للتعاطي معها، سواءً من حيث ملائمة التصميم المنهجي أو شمولية المعالجة البحثية أو ثراء البيانات والمعلومات التي يتم جمعها أو جودة عمليات تحليلها؛ للخلوص إلى نتائج ذات قيمة تفسيرية عالية لتلك الظواهر في سياقاتها المعاصرة.
4- بالإضافة إلى ذلك نلحظ ندرة الدراسات العربية التي تناولت ظاهرة التكفير وفق التوصيف السابق، حيث ركزت أكثر الدراسات على ظواهر العنف/الإرهاب.
وما سبق من ملاحظات لا ينفي ولا يتنكر للجهود البحثية الرصينة التي خلصت إلى نتائج ومؤشرات هامة بشأن ظاهرة التكفير، وما يرتبط بها من الظواهر الأخرى كالغلو/التطرف والعنف/الإرهاب والتعصب والعدوان.
كاتب سعودي
المراجع
1- من الأبعاد الخطيرة في بعض الأبحاث والكتابات الغربية الإصرار على ربط ظاهرة العنف بالإسلام، الأمر الذي يقود البعض إلى تبني الدعوة إلى تجهيز طواقم كافية من الباحثين والمحللين والمترجمين لفهم الإسلام والمسلمين وثقافتهم ومجتمعاتهم بكل تشكّلاتها ، انظر:
McCabe, m. (2009), The Information Confrontation with Radical Islam, Published by Elsevier Limited on behalf of Foreign Policy Research Institute, Winter, p. 99-121.
واقرأ أيضًا:
السنة والشيعة ومفهوم الأمة الواحدة / متى نشخِّص الثقافة؟ / القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية! / حوار مع السيد العلامة: محمد حسين فضل الله/ وعينا متوعك!! / المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون! / ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)! /أسئلة حول (الثقافة القلقة)! / سمات عَشْر للثقافة القلقة!/ حول مكاشفات فضل الله/ مستقبلنا يخاطبنا يجب أن تكونوا عقلانيين ومتسامحين/ الممارسات الرديئة وفصل الدين عن العلم!/ خرافة المفكر - الروائي - الفنان (العالمي)! / الهجرة نحو (الإنجليزي)... تهديد الهوية (2/2)! / هل حقاً يمكننا فصل الدين عن العلم؟ / الفساد ... من الصفاد إلى الجفاد! / رسالة إلى قبيلة النسور: أعيدوا اكتشاف أنفسكم/ نحن بحاجة إلى (التفلسف) وليس (الفلسفة) / وسط (الفيمنيزم) في إسطنبول! (2-3).