من غربة نفسي إلى وطني الحقيقي
هي ليست مجرد فضفضة، أو نواح وعويل، بل هي صحوة تلت غفلة أو تغافل كبير. عشت فيه خلال سنواتي الماضية أكتب، لا أفهم ولا أتعلم ولا أتحرر من سجن الخوف الذي قضيت فيه سنوات وسنوات وأستطيع أن أخرج منه لكنني حائر، وأحيانا متخاذل. لدي زوجة من أروع ما يكون، تفيض حباً وحيويَّة، أعتبر نفسي غير ملبِّي لحاجاتها، حسنا قرأت كثيراً من الاستشارات المشابهة، والتي تدعو الإنسان للبدء بعدم الاستسلام والاستمرار في التحسن، وأرى أنه عين الصواب.
أبحث عن بيئة أو محضن يدعمني من الداخل، خشية الفشل، هو دوماً ما يحبطني ويخيفني، نعم أبدأ المشاريع ولا أتمها لأنني أشعر بأن على أحدهم فعل ذلك، وعندي أفعال أصنفها بأنها وسواسية، مثل أنني أتذكر بعد مدَّة أنَّ لشخص ما مالاً عندي، أي يستحق مني مالاً ولم أعطه له، دوماً هذه الفكرة تؤرقني وتجعلني أكره التعامل مع الناس خشية ظلمهم.
كما أنني حين أفكر باعتدال -أقول لنفسي- ما دام هذا الشخص لم يطلب مني شيئاً فأنا غير محاسب، لكنني أعود وأقول وأين ضميرك، سيحاسبك الله، مع أنني أكون غير متأكدا من صحة الفكرة ١٠٠٪ فماذا أفعل، ماذا أفعل مع حقوق الناس المتوهمة، والتي أعتقد دوما أن لهم حق عندي -هذه الفكرة دائرة معي حيثما كنت، وفشلت حتى الآن في التعامل السليم معها-.
من خلال هذه الفكرة كرهت معنى الأمانة، لأنها بهذا الشكل شيء معيق عن الحياة ومرهقة، بشكل عام أنا لا أحب التعامل مع الناس، لأن التعامل معهم ينشأ عنه خلافات وتعقيدات أنا في غنىً عنها، وخاصة حينما يكونون من المستضعفين، فأنا أكرههم، ربما لأنني أشبههم في الداخل، هذه المشكلة التي تطفو على السطح الآن عندي، وأعلم أنها دلالة على تشوه دفين يكاد يطل برأسه، ويقول لي اكتفيت منك، أريد مغادرتك إلى الأبد.
أرغب بالتواصل معكم، فأنا أشعر بالافتقاد لبيئة متفهمة وداعمة، وإن كنت أعلم أنني بحاجة لمراجعة أخصائي نفسي.
23/8/2016
وبعد يومين أرسل يقول:
عودة إلى نفسي
عندي عسر مزاج دائم وأعلم هذا، وعندي رغبة شديدة في تجنب الناس، والبعد عنهم إلا من يدعمني، أخشى النقد بشكل كبير، أضخِّم الأمور كثيراً ولا أستمتع بحياتي، عملي أكرهه وأكره التعامل بالمال مع الناس، لأنه يجلب لي دوما الكوارث -تضخيم-، دوماً ما يدور في ذهني أنني مدين لأحدهم، وأن عليَّ سدادَ هذا الدين، وأحياناً أنا من يفتش عن الناس لإعطائهم حقوقهم، ليس من باب الورع، لا بل من باب الخوف من أن آكل حق أحدهم خطأ.
عندي فوبيا من ارتكاب الخطأ، ولا أستطيع مسامحة نفسي بسهولة، لدرجة أنني كرهت كل الفضائل لأن الالتزام بها ضرب من الإرهاق، وأصبحت من داخلي أكفر بها، أكثر فكرة ملحَّة على وجداني هي حقوق الناس، على الرغم من أن أحدهم لم يطالبني، بل إن المبرر الأساسي للتفكير في الناس وحقوقهم هي فكرة أنهم ربما نسوا، فأنا مسؤول أو من باب الأخلاق، عليَّ أن أعيد لهم أموالهم، لكني تعبت حقاً، فليس من المنطقِ أن افكر بحقوق الناس طوال الوقت، وأنسى نفسي وأهملها.
أحاول قدر الإمكان ألا أحتك بأحد، وأن أتحاشى الدخول معهم في علاقات تتعلق بالمال، لأنني إن شعرت أن من أمامي غير راضٍ، أشعر بانقباض وعدم راحة، وربما تقول ما هذا العبط، لكن صدقاً هذا ما يسيطر عليَّ من مشاعر، خاصة تجاه المستضعفين الذين أصبحت أمقتهم، ولا أرغب برؤيتهم لأنهم يسببون لي شعوراً بالألم.
أعلم أنني غير منصف ومتحيز، فإذا ما شعرت بأن من هو أمامي طيب أنحاز له وأمجده (يعتمد تقييمي على الارتياح النفسي من قبلي)، وإذا ما شعرت بالعكس فأنا أتعامل معه بحذرٍ شديدٍ لذا أحاول أن لا أدخل في تعامل مالي أو شيء أكون فيه مسؤولا عن حق إنسان، لكي لا تطغى مشاعري على الحكم السليم.
أُبدع في العمل الفردي، وأجد نفسي فيه تماماً، وعملت به لفترة، وكنت مستمتعاً إلى حد ليس بالهين، أشعر على الدوام بالحاجة إلى الدعم، وهذا لا يسعدني، أظنني قد ركنت إلى الدعة، والاعتماد على الآخرين، لكنني لا أثق بإمكاناتي أو أخشى تحمل المسؤولية، لذا أقوم بترك الأمور للآخرين، ومنهم زوجتي التي تحبني كثيراً وأنا أشعر بالخجل الدائم منها ولا أتحرك كثيراً تجاه أهدافي.
نعم لدي شعور بالعجز، ورغبة قليلة في إصلاح نفسي، تاريخي مع أهلي هو أن أمي هي من كان يقود البيت في تهميش تام لأبي الذي لم يكن ليجتهد لتحسين وضعه، وهذه الصورة كانت ملازمة لي، وربما ساهمت في كآبتي الدائمة، وكنت أخشى دوماً أن أكون مثلاً بدلاً من أن أتحدى نفسي وأكون أفضل، لكن يبدو أن هذه الفكرة لازمتني وأثَّرت عليَّ، خرجت منها لمدة أشهر قليلة حين عملت بعمل أحبه، الآن على الرغم من أنني أتحمل العبء الأكبر من مصاريف بيتي، ومشاركة أقل من زوجتي، إلا أنني لا أشعر بالمتعة، أو بأنني افعل شيئاً مهماً، دوماً ما أقلل من مجهودات نفسي.
أشعر بأنني بحاجة للحب، أو للدعم والتشجيع من داخلي بشكل حقيقي، وأرغب بأن يكون هناك شخص أكثر حكمة يحتويني كمعلم أو مرشد، لا أعلم على وجه التحديد، ربما أنا أفتقد لنموذج الأب في حياتي.
أشعر بالدفء مع زوجتي، لكن لا يمكنها أن تسد جميع احتياجاتي العاطفية، فأنا بحاجة لأن أكون مشبعاً بطرق أخرى، أصدقاء، معارف....إلخ، الآن هي كل شيء بالنسبة لي، لأنها لا تتوانى عن نصرتي، والرفع من معنوياتي، لكني أعلم أنَّ ما اقوم به هو استهلاك لها.
عملت السنة الماضية بمشروع خارج العاصمة، وكنت أزور زوجتي وطفلي مرَّة كلَّ شهرين، وشعرت بتغيير ومتعة ربما، لكنني لم أشعر برضا عن نفسي أو إنجاز، رغم إشادة مديري وزملائي بجودة المشروع، لم أشعر أنني ساهمت بشكل يرضيني، كنت طرفاً في المشروع، لكن الطرف الأهم هو مساعدي الأكبر مني سناً وخبرة، والذي استفدت منه واستمتعت بوجوده.
لا أعلم ما الذي أريده، وما الذي أحتاج إليه، وما الذي يلزمني التخلص منه، شعور بالتيه وعدم السعادة. أرغب بالعيش في هذه الحياة، وأخشى أن تكون هذه رغبة كاذبة، وغير حقيقية لأن جهدي المبذول غير كاف. ستقولون ابذل جهداً أكبر وأنا أخشى الالتزام خشية ألا أنفذ وعدي فأصاب بالاحباط مجدداً.
أعلم أن مشكلتي تحتاح طبيب نفسي، وعلاج معرفي، فجملة أفكاري وتصوراتي عن الحياة سلبية ومغلوطة، وتندرج بين نقيضين، خير وشر، أبيض وأسود... إلخ من التوصيفات الحدية، ما هي معرفتي او تصوراتي عن الحياة، مجرد كلاشيهات وقوالب جاهزة ساهمت فيها بالقليل ولست راضٍ عن أغلبها، فأنا الآن أشعر بالكفر، لأغلب قيمي على جميع الأصعدة، وأحاول أن ألملم شتات نفسي، وأبذل مجهوداً، وإن كنت أتراخى أحياناً، لكني مصمِّم أن أخرج مما أنا فيه أشعر بأن تغيير عملي هو وسيلة معينة لي، لأن عملي من الأشياء المثيرة للغثيان عندي، اختبرته سبعة أعوام، ولم أشعر تجاهه إلا بالألم.
لا أعلم ما الذي أفعله حالياً، قبل الذهاب للطبيب النفسي لأحافظ على نفسي كي لا أنهار،
دمتم بكل خير.
25/8/2016
رد المستشار
السلام عليكم ورحمة الله؛
ما كان يبنغي للدكتور وائل أن يحيلك إلي كي لا ترى المرأة مرة أخرى في موقف القوة والقيادة بعد والدتك وزوجتك. لديك اكتئاب واضح يعبر عنه شعورك بالخواء ضمن أمور أخرى لا تستطيع فعل شيء حياله سوى حمل نفسك على الذهاب لطبيب نفسي. تفكيرك واضح ومترابط لديك عدم رضا عن إنجازاتك رغم أن خطوات حياتك مناسبة لعمرك وذلك حسب التصنيف المهام في المراحل العمرية، كي لا تظن الكلام مجرد تشجيع، وهو إنهاء دراستك واختيار تخصص وشريك حياة وتكوين أسرة، ولذا أعتقد أنك ستتحسن على مضادات الاكتئاب.
اختلط علي أمر الحقوق المالية للناس هل هي مجرد فكرة أي أن لا أحد له حق عليك، أم أنك منزعج من مبادرتك بتسديد ما عليك من حقوق دون مطالبة. أعتقد أنك منزعج من حرصك على تسديد الحقوق والديون دون مطالبة تمردا منك على الالتزام والتشدد الذي فرضته والدتك عليك أثناء تنشئتك. الصحيح نفسيا واجتماعيا أن يسعى الإنسان لسداد ما عليه من ديون وحقوق للعباد لما يقدمه له ذلك من شعور بالإنجاز.
انتهت الاستشارة ولكن تبقى لك عندي نصيحة شخصية جرب أن تتقرب إلى الله ولا تكتفي بأن تكون مسلما بالولادة. أصلح علاقتك بالله لتشبع حاجاتك للشعور بالأمان، ولا أعني بالتقرب أداء الفرائض بل إصلاح ما بينك وبينه وأقرب ما أعنيه ما تذكره أبيات أبو فراس الحمداني المنسوبة لرابعة:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب ترابُ”
إذا وصلت لتعيش هذه المعاني في محبة الله سيزول الكثير مما تجد، دعواتي وتحياتي.
* ويضيف د. وائل أبو هندي الأخ الفاضل "محمد" أهلا وسهلا بك على مجانين وشكرا على الثقة، ليس لدي إضافة بعد ما تفضلت به مجيبتك د. حنان طقش والتي أتفق تماما مع ما وجهتك إليه، إلا أن أشير إلى ما لمسته في إفادتك من بعض سمات الشخصية القسرية وفرط التورع والتعمق scrupulosity وهي سمة قد تراها في مريض الوسواس القهري وأيضا في مرضى الشخصية القسرية وأحيانا غير المرضى منهم أو أصحاب الضمير الحي.... وأكثر الاضطرابات النفسية تواكبا مع اضطراب الشخصية القسرية هو الاكتئاب والذي أدى بك تدريجيا إلى فقدان مشاعرك الإيمانية... ليس فقط بالله وإنما أيضًا بقيمك ومبادئك نفسها، أنت فعلا ستتحسن بتناول عقاقير علاج الاكتئاب والوسوسة وتتحسن أكثر وأكثر إذا صاحب ذلك العلاج المعرفي السلوكي المناسب.
واقرأ أيضًا:
طيف الوسواس OCDSD شخصية قسرية وسواسية
ويتبع >>>>>>: حقوق الآخرين المتوهمة رهاب الخطأ : التعمق والاكتئاب م