فضيلة الدكتور أحمد عبد الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جزاكم الله كل خير على ما تبذلونه من جهد جهيد لإنارة بصيرة الشباب، وإفهامهم إسلامنا على حقيقته، وربطه بمعايش الدنيا، وإخراجه من محراب العبادة إلى أرض الواقع.
أنا فتاة من الشام عمري 26 عاما، أعمل مهندسة، مررت بالكثير من المحن والمشاكل حتى وافق أهلي على مضض على خطبتي من الشاب الذي اقتنعت به عقلاً، ثم قررت أن أحبه؛ فكان حباً عظيماً بسبب قناعتي به التي ما تزال تزداد يوماً بعد يوم. ليس هذا هو بيت القصيد إنما هذه نبذة قصيرة جداً عني.
ما أود سؤالكم عنه هو التالي: كان لي في الكلية أصدقاء من الجنسين، وكانوا أصدقاء حقيقيين (وهذا مما ندر في أيامنا هذه) حيث إنني كنت أنتقي أصدقائي بعناية شديدة؛ فكانوا كلهم أهلا لما توقعته منهم، ولم أصادف ما يتكلم عنه الناس من الشباب اللعوب أو المستغل، رغم أنني لم أكن محجبة حينئذ (تحجبت في السنة الخامسة)، وجمالي الخارجي فوق الوسط بشهادة كل من يعرفني.
تخرجت في الكلية، وعملت في أول شركة، ثم الثانية، وطبعاً هذه الشركات فيها شباب، وفيها بنات أكبر مني، ومن سني، وأصغر مني، وأيضاً لم أتعرض لأي إزعاج أو حتى إعجاب من أحد. فقد كنت دائماً واثقة من نفسي، ونظرتي قوية واثقة لا تترك مجالاً للشك في أني لعوب، أو يمكن أن أتقبل أي نوع من الإعجاب، مع كوني مرحة؛ أي أنني لست معقدة، ولا أضع العقدة بين حاجبي أبداً.. بل إن الابتسامة لا تفارق ثغري. وهذا كان من أيام الكلية، وأعتقد أن هذا هو السبب الأساسي لعدم تعرضي لأي إزعاج أو حتى عرض مؤدب لإقامة أي علاقة حتى الخطبة، اللهم إلا خطيبي الذي أعطيته أنا الضوء الأخضر بتصرفاتي وأيضاً بكل أدب حتى فاتحني بالموضوع.
طبعاً الذين في قلوبهم مرض كثر، ولكني دائماً كنت بعيدة عنهم، وليسوا من ضمن الذين ألقي عليهم السلام. منذ أيام قليلة كنت أتكلم مع إحدى صديقاتي، مهندسة أيضا، وتعمل في شركة للبرمجة قالت لي: إن عملنا هذا حرام، وهذا الاختلاط حرام، وإننا يجب أن نقعد في بيوتنا نحفظ القرآن بدلاً من هذه "البهدلة" (طبعاً كما تعرفون يوجد في جو العمل الكثير من الجدال حول العمل، والرئيس يقسو على المرءوس، وحضرتكم أدرى بهذه الأمور)، وقالت: إننا بنات ورؤساؤنا يستضعفوننا و"يبهدلوننا" ... إلخ، قلت لها: وهل تنكرين تأثير هذه السنوات الثلاث من العمل والاختلاط بالناس على تكوين شخصيتك وقوتك ووعيك الاجتماعي، وتأثير كل ذلك على تربية أولادك في المستقبل؟ قالت: لا، ولكن علينا طاعة الله فيما أمرنا به من عدم الاختلاط والجلوس في البيت لتربية الأولاد ورعاية الزوج (مستقبلاً)، وأنا أتكلم هذا الكلام وأنا غير قادرة عليه؛ لأني لا أستطيع الجلوس في البيت وأصاب بالكسل والخمول وأنا ليس لي الآن زوج ولا أولاد (هذا كلام صديقتي).
وسؤالي:
هل صحيح أن علينا بعد كل هذا التحصيل العلمي والإبداع في العمل أن نجلس في البيت حتى لا نكلم الرجال في العمل؟ (طبعاً قبل الزواج والأولاد؛ لأن لهم الأولوية في الوقت والاهتمام وليس لأي سبب آخر)، وعلى ماذا سنربي أبناءنا إذا لم تكن لدينا تجربة وخبرة في الحياة وفي التعامل مع الناس، وهذه لا يمكن الحصول عليها من قراءة الكتب ومواقع الإنترنت كما تدعو صديقتي؟
علماً بأن صديقتي قد تعرضت لموقفين مزعجين في عملها: أحدهما عندما سألها أحد الشباب عن فتوى محرجة جداً؛ لأنها الوحيدة المحجبة، وكان واضحاً أنه لا يسأل للعلم بل للحديث في الموضوع، وقد نهرته بأسلوب حازم، وأصبح مؤدبا بعدها.
والموقف الثاني هو عندما كلمها أحد الشباب ليخطبها وكانت معجبة بأخلاقه، وأخذ يماطل ثلاثة شهور حتى جاءت والدته إلى منزلها، ورأتها بدون حجاب فلم يعجبها جسمها؛ لأنها "عليها صحة" (أي بدينة). وقد استشهدَت بهذين الموقفين على الأذى الذي لحق بها على أن علينا الجلوس في البيت أو التدريس في مدرسة للبنات، بالإضافة إلى الكلام القاسي الذي كانت تسمعه أحياناً من مديرها.
ورأيي الشخصي أن علينا في هذا الزمان المنفتح - شئنا أم أبينا - أن نفتح أعيننا عن آخرها لا أن نغلقها، ونحن البنات أهم من الشباب؛ لأننا نحن من سيربي الجيل القادم. وطالما كانت الفتاة واعية وواثقة من نفسها وقوية في الحق ونظرتها - التي أؤكد عليها كثيراً - نظرة واثقة راشدة وليست مغناجا متدللة؛ فإن أحداً لن يجرؤ على إزعاجها. وأما الذين في قلوبهم مرض فهم موجودون منذ أن أخبرنا عنهم كتابنا الكريم، وليس الحل هو الجلوس في البيت والهرب منهم.
أعتقد أنك ترى أستاذي الكريم أنني سألت السؤال وأجبت عنه، لكني أتعمد إثارة الموضوع؛ لأن صديقتي هذه ما هي إلا نموذج لعدد كبير جدا من المتدينين خاصة في بلدي، ولأنها تتابع استشارات مجانين، وأريد أن أثبت لها صحة رأيي (إذا كان صحيحا).
وكيف أرد على من يقول: إن الاختلاط حرام؟ فأختي مثلاً لا تريد (في المستقبل) أن نأتي أنا وزوجي لزيارتها مع زوجها فنجلس نحن الأربعة مع بعض فهذا من الاختلاط المحرم، بل نجلس أنا وهي في غرفة منفصلة، ويجلس الرجال في غرفة أخرى..
هل هذا صحيح؟ هل يخوّن ديننا النظرة العادية والكلام البريء بين العائلات أو حتى الأقارب إلى هذا الحد؟
شكراً لكم على صبركم علينا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
20/11/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة:
تأخرت في عرض مشكلتك أو - بالأحرى - القضية التي تثيرينها؛ لأنني وجدت من الأنسب أن نناقشها بعد أن تهدأ العواصف والعواطف التي كانت مصاحبة لبدء الحملة العسكرية على غزة، ورغم أن هذه الحملة لم تنته بعد فإنها تحولت من كونها حالة حادة إلى شبه مزمنة، وأصبح مناسبا بالتالي أن نتحدث في بقية أوجاعنا المزمنة.
القضية التي تتحدثين عنها في رسالتك هي قضية متشعبة تشتمل على نظرة الناس إلى المرأة ودورها ومكانتها في المجتمع والتصور الإسلامي لهذا الدور والمكانة، وتشمل أيضا الحديث عن السلوك الأنسب للمرأة الجادة حين تخرج لتقوم بدورها كإنسان يشارك في إعمار الأرض والجهاد في سبيل ما تؤمن به من مبادئ.
واختلاف الآراء في هذه القضايا معروف، وأعتقد أننا على صفحة "استشارات مجانين" قد ساهمنا فيه بنصيب وافر، ورأينا متكرر في أكثر من موضع، وموقفنا واضح عمليا قبل أن يكون مجرد كلام. فالفريق الذي يتعامل مع المشكلات أغلبه من النساء، وقوة العمل الوظيفية في الموقع كله تضم نسبة كبيرة منهن قد تصل إلى النصف أو يزيد.
وبالتالي فنحن لا نرى أن محض خروج المرأة إلى حركة المجتمع - عاملة أو مشاركة - يحمل في ذاته إثما شرعيا، بل هو قد يكون في كثير من الأحيان واجبا دينيا مطلوبا، ولا نرى أن محض الوجود الجماعي الاجتماعي للرجال والنساء سويا يحمل أي إثم في ذاته، وإنما يكون خروج المرأة والرجل أو وجودهما معا يحمل الإثم لهما سواء بسواء إذا كان محتوى هذا الخروج أو نشاط هذا الاجتماع أو أهدافه مرفوضة أو محرمة، ونحسب أن هذه الأمور بديهية من كتاب الله وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وسيرته وحياة أصحابه الكرام، ونحسب أن هذا التصور إنما يصدر عن جهل أو تنطع أو أي مصدر آخر غير اتباع الشرع الحنيف، أو هدي الفطرة السليمة، وكلاهما من الله العزيز الحكيم القوي العليم الرءوف الرحيم. ومن ناحية أخرى فإن الواقع الذي نعيشه يبدو ملتبسا ومشوشا بما يخلط الأمور ويحير العقول؛ فتتخبط الآراء وتتنوع العلل والانحرافات.
وتأملي معي بالله عليك ما هو العمل الجليل الناهض بالأمة الذي يمكن أن نقول بأن الخروج له واجب شرعي، وأغلب مصالحنا الحكومية وأعمالنا الخاصة غارقة في أنواع من الكسل والخمول والجمود والروتين أو أنشطة مكررة ومملة لا تجذب نفسا، ولا ترفع وطنا.بالتأكيد أنا أتحدث عن الأغلبية، ولا أريد السقوط في التعميم، ألا ترين أن هذا الوضع يضرب الدافع النفسي لخروج المرأة للعمل والنشاط في الصميم؟ وربما هنا يخرج الرجال للعمل مضطرين بحكم توزيع الأدوار؟
وتأملي -بالله عليك- في نظرة المجتمع السائدة تجاه المرأة؛ فهو حين يقبل بخروجها وعملها يفعل ذلك مضطرا، وعلى مضض، ومن باب الاعتراف بالأمر الواقع، والتجاوب معه. وغالبا فإنه لا يحتفي به ولا يكترث بتقديم العون لهذه المسكينة التي أرادت أن تحارب وتجاهد على جبهتين؛ فتجد أنها تفعل هذا على مسؤوليتها دون دعم أسري أو اجتماعي يُذكر في أغلب الحيان. أفلا يكون مفهوما أن تلتقط هذه المسكينة من النقاشات الدائرة رأيا تتعلق فيه وتلوذ به، فتقول: إن مكاني البيت بدلا من هذه "البهدلة" كما يقول المصريون؟! أليس طبيعيا أن تختار آلاف الفتيات أن يكون كساؤهن السواد، ومكانهن البيوت ينتظرن العريس ثم الوليد، ويحاولن النجاح في جبهة واحدة -لعلها مضمونة- بدلا من بذل الجهد في جبهتين دون عظيم تقدير من المحيط الأسري أو الاجتماعي أو الوظيفي؟؟
يا أخواتي الفضليات، ويا أختي الكريمة، وأنا أرى أن لديك عقلا وحكمة: المسألة ليست رأيا شرعيا يسمح بالعمل والاختلاط أو يرفضهما، المسألة تكمن في أوضاع نفسية وظروف اجتماعية جعلت جموعا عريضة تختار الآراء التي تقول بالقعود، وجموعا أخرى تضطر للخروج اضطرارا اقتصاديا، ولا يملك ترف الاختيار إلا شريحة محدودة من هؤلاء وأولئك.
أشاهد من حولي كل هذه الأصناف، ولا أرى أن التي اختارت العلم قد حققت كل أو أغلب ما كانت تطمح إليه من بناء وطن وتربية أطفال على وعي، وباهتمام معقول، بل أراها مشتتة، إلا إذا كان لديها إمكانيات دعم مادية واجتماعية تعينها، ولا أرى الكثيرات ممن اخترن القعود تفرغا للزوج والأبناء قد أنجزن بمحض التفرغ ما كان طموحهن في ذلك، وأرثي لهؤلاء وأولئك.
يا أختي: أنا أحييك على الإيجابية والطموح والاستعداد المبدئي للقتال على جبهتين، ولكن جبهة العمل تحتاج إلى تفعيل حتى تصبح جهودنا ووظائفنا تصب في المسار الذي نحلم به، وهذا جهد مطلوب منا رجالا ونساءً، وتحتاجين ومثيلاتك إلى دعم نفسي واجتماعي يعينك على إدارة شئونك، عندما يرزقك الله بإتمام الزواج، ثم إنجاب الذرية. وأرجو أن تجدي هذا الدعم حتى لا تصابي بالإحباط، وتصبحي من أصحاب الرأي الآخر.
أما اللائي اخترن القعود عن النضال في الجبهة الخارجية؛ فأقول لهن وللعاملات أيضا: إن رعاية الزوج والأبناء مهمة تحتاج إلى أكثر من مجرد وقت أكبر وذهن خالٍ، فإذا لم يندرج الرجال والنساء في برامج يتعلمون منها فنون العلاقات الزوجية ومهارات الوالدية الصالحة؛ فإن أي وقت يمكن أن يذهب سدى، وأي أم متفرغة يمكن أن تكون سيئة بجهلها وقصور سلوكها واستيعابها، رغم أنها لا تخرج لعمل خارج المنزل.
وصحيح أن الخروج للعمل النافع ينضج الشخصية، ويشبع بعض رغبات النفس في التحقق والشعور بالذات، ولكنه أيضا له ضغوطه، وصحيح أن عدم الخروج للعمل يعطي وقتا ومساحة، ويرفع ضغوط العمل، ولكنه أيضا له عيوبه، وليست العبرة بشكل الاختيار الذي تختاره المرأة، ولكن بنجاحها في أن تحصد من ورائه ما تطمح إليه، ونجاحها في التعامل مع عيوب أو ضغوط هذا الاختيار أو ذاك.
لا يوجد تعميم يقول بأن كل خروج وكل عمل وكل احتكاك بالآخرين هو بالضرورة مناسب ونافع ويفيد، ولا يوجد تعميم أن كل قعود أو اقتصار على الجهد داخل البيت هو بالضرورة أفضل للمرأة والأسرة. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي نهجر فيه وضع الأمور بطريقة مغلوطة، وأن نبدأ في وضع أو طرح الأسئلة الحقيقية؛ مثل: كيف ندعم المرأة لتقوم بأدوارها بكفاءة؟ كيف نجعل من أعمالنا وأوجه النشاط الاقتصادي والثقافي والوظيفي سبلا حقيقية لنهضة أوطاننا؟ كيف نزيد من مهاراتنا وقدراتنا، ونستثمر كل طاقاتنا الاستثمار الأمثل في مجالات العمل والتربية والتوعية وإدارة الجهود الفردية والجماعية لنتعامل مع أكوام المشكلات التي نواجهها؟
أحزن كثيرا حين أرى قومي يستدعون هذا الدين العظيم ليخدم وجهة نظرهم، أو يسبغ الشرعية على مواقفهم وأوضاعهم أكثر مما يهتمون باستثمار الطاقة التي يدفعها في العروق والنفوس، والحماس الذي يشعله في الأفئدة والعقول، والمشاعر التي يثيرها في العواطف والأرواح.
أحزن حين أراه قد أصبح مجرد أداة في معارك الكلام ومبارزات الجدال، أو حلية تزيد من الجاه أو الوجاهة، أو مجرد هيئة تتخذ وسيلة لاكتساب الاحترام والتميز عن الآخرين. ويقيني أنا محتاجون لنمط آخر، ومستوى آخر، ونوع آخر من الالتزام بهذا الدين وفهمه، ومن ثم استثماره والعزة به.أشكرك على رسالتك، والله معك.
واقرئي أيضًا:
اختلاط وملابس فاضحة: يوميات الزيت والزعتر