أثارت حركة المحافظين الأخيرة في حكومة عصام شرف تحفظات كثير من الناس في أكثر من محافظة، وبعض المحافظات شهدت مظاهرات واحتجاجات ضد محافظيها. في البداية انتقدنا هذا السلوك وحسبناه نوعا من التمرد الشعبي على كل شيء، وأنه نوع من الأعراض الجانبية للفوران الثوري، وأن هذا انتقاص من هيبة الحكومة وسلطتها، وأنه لا يصح أن يتحكم الناس في كل الوظائف فيرفضون هذا ويطالبون بذاك، والنهاية تكون فوضى تؤثر على حركة الحياة وتعوق نمو الاقتصاد.
ولكن حين تنظر في اختيارات المحافظين تصل إلى دلالات كثيرة تستحق المراجعة والتأمل، وإليك بعض الأمثلة:
٠ يوجد ثلاث عشر لواء شرطة وجيش بين المحافظين الذين يبلغ عددهم 27 محافظا، أي أن نصف المحافظين غير مدنيين. والسؤال هو: وما العيب في ذلك؟.. أليس رجال الشرطة والجيش هم الأقدر على الضبط والربط والانضباط؟.. ألا ترى أن المدنيين يتسمون بالرخاوة والتسيب والقابلية للفساد؟...
والإجابة هي أنه نفس منطق النظام السابق في التعيين للمناصب القيادية كالمحافظين، ورؤساء مجالس المدن ورؤساء مجالس إدارات الشركات والمشروعات الكبيرة والصغيرة، وكان هذا يتم بناءا على فكرة أن اللواءات الشرطيون أو العسكريون هم الأكثر انضباطا والأقدر على السيطرة والتحكم والأكثر ولاءا للنظام والأكثر تعاونا مع جهاز أمن الدولة أو الأجهزة السيادية الأخرى.
يضاف إلى هذا الاعتبار اعتبارا آخر وهو أن النظام السابق كان يعتبر المناصب القيادية العليا مكافأة نهاية الخدمة لضباط الشرطة والجيش يوزعها عليهم بعد انتهاء عملهم جزاء ولائهم وإخلاصهم للنظام. وكانت النتيجة عسكرة الدولة التي رأينا آثارها السلبية في السنوات السابقة، وهذا ليس خطئا في الضباط وإنما الخطأ هو في وضع الإنسان في مجال لم يهيأ له، ولسنا في حاجة إلى أدلة على فشل نظرية أن الضباط هم أكثر الناس قدرة على إدارة المحافظات والمدن والمؤسسات والشركات، فأحوال مصر حتى الآن لهي خير دليل على خطأ هذه النظرية، وتفسير هذا الفشل بسيط جدا ويكاد يكون بديهيا، فالضابط (في الشرطة أو الجيش) يتم إعداده ليقوم بمهمة محددة في موقعه، وتكون لديه عقيدة خاصة في عمله، وتكون الطاعة في تنفيذ الأوامر أحد المتطلبات الهامة منه، وطبيعة وظيفته لا تميل إلى فكرة التعددية في الآراء أو الإبداع في المجالات المدنية المختلفة، أو المرونة في مواجهة الأحداث والمواقف، فالحياة العسكرية تهتم بالطاعة والحزم والحسم والشدة والسرعة في تنفيذ الأوامر والتعليمات، وهذه السمات هي عوامل نجاح مطلوبة في أداء مهامها الأمنية أو العسكرية. وهذه السمات تجتذب أشخاصا بعينهم لهذه الوظائف يتوافقون مع متطلبات وظيفتهم، وكل ميسر لما خلق له.
فإذا جئنا إلى الحياة المدنية وجدناها تحفل بالكثير من التعقيدات والتداخلات التي تحتاج إلى رؤى متعددة المستويات والجوانب، وتحتاج إلى ترتيب أولويات، وتحتاج إلى حلول إبداعية أو توافقية، وتحتاج إلى قبول الرأي والرأي الآخر، وتحتاج إلى التعددية في الأفكار والأشخاص، وتحتاج إلى المرونة، وتحتاج إلى الصبر وطول البال والاحتمال والتأمل والقراءة والحساب وتقليب الأمور على وجوه شتى قبل اتخاذ القرار. إذن فنحن نظلم ضابط الشرطة أو ضابط الجيش حين نضعه في غير موضعه، فهو قد عاش وسط جنود وأفراد تعود منهم الطاعة والانضباط، وتعامل مع قادة له لا يسمحون له بالاختلاف أو الاعتراض وتربى على عقيدة الولاء.
وبقاء هذه النظرية القديمة حتى الآن ممثلة في هذا العدد الكبير من اللواءات يعتبر تكريسا لفكرة عسكرة الدولة ويعتبر ابتعادا عن مفهوم الدولة المدنية والتي تعرف بأنها دولة ليست عسكرية وليست دينية.
٠ أحد هؤلاء المحافظين كان يعمل في مصلحة السجون وجئ به منذ فترة ليكون محافظا لواحدة من المحافظات الكبيرة في مصر والتي يبلغ تعداد سكانها خمس ملايين، وكان السؤال وقتها: ما علاقة مصلحة السجون بوظيفة المحافظ، والإجابة (أيضا وقتها حين كان أمن الدولة يحكم البلاد) أن نظام مبارك يرى هذا الشعب مجموعة من المتمردين والمجرمين والخارجين على القانون وبالتالي لا يحكمهم إلا شخص لديه خبرة طويلة في التعامل مع المسجونين، وهذه النظرية في الحكم كانت تتأكد من خلال توحش الجهاز الأمني وتمدده في كل مكان للتحكم والسيطرة على المصريين المشكوك في ولائهم جميعا لدى النظام . والأغرب من كل ما سبق أن يتم الاحتفاظ بنفس المحافظ (بعد قيام الثورة وافتراض سقوط النظام القديم) ونقله إلى محافظة أخرى لا تقل أهمية عن المحافظة السابقة.
٠ أحد المحافظين وهو لواء شرطة شارك في مواجهة الثورة حين كان مديرا لأمن أحد أهم المحافظات المركزية في مصر، وهو خريج مدرسة أمن الدولة وسبق اتهامه في قضايا تعذيب، وبدلا من محاسبته يتم مكافأته، ثم ما هي المهارات الاستثنائية التي يتمتع بها هذا الرجل ليقود بها محافظة مترامية الأطراف وتعدادها يفوق تعداد بعض الدول؟... هل درس في كلية الشرطة العلوم الإدارية المتقدمة التي تسمح له بتولي هذا المنصب الهام؟.. وهل تلقي الأوامر من القيادات الأعلى، ثم إعطائها للضباط والجنود هي نفس المهارة المطلوبة لإدارة ملايين من البشر بينهم من الاختلاف أكثر مما بينهم من الاتفاق.
٠ عدد من المحافظين ينتمون إلى جهاز أمن الدولة الذي تم حله بسبب ما لحق به من فساد، وما اتهم به من تعذيب حتى الموت وتلفيق للقضايا وتزوير للانتخابات وتدعيم للرئيس السابق وأسرته وحزبه ورجال أعماله الذين هم رهن التحقيق في قضايا فساد جميعهم بما فيهم رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، فهل هذا يجعلنا مطمئنين وأحد رجال هذا الجهاز يتربع على عرش المحافظة.
٠ عدد ليس بالقليل من هؤلاء المحافظين لم يتغير بل تم نقله من محافظة إلى أخرى على طريقة التباديل والتوافيق، وهؤلاء لم يكونوا أفذاذا في محافظاتهم القديمة لكي نحتفظ بهم، بل لقد لاحقت بعضهم تهما بالفساد، أو على الأقل ينتمون إلى الحزب الوطني وهذه وحدها تهمة أثبتها القضاء الإداري وهو يصدر قرار حل الحزب الوطني، وبهذا أصبح كل قياديي الحزب الوطني مطلوب على الأقل استبعادهم من المناصب القيادية لأنهم شاركوا بفاعلية في حزب أفسد الحياة في مصر. ومصر ليست بلدا فقيرا في القيادات الصالحة حتى نعيد تدوير القيادات الفاسدة على مثل هذا المستوى.
إذن ما يحدث له من الدلالات ما يلي:
1 – ثمة احتمال كبير أن جهاز أمن الدولة ما زال يعمل تحت مسميات أخرى، ومازال يتحكم في اختيار القيادات
2 – العقيدة القديمة التي تؤمن بعسكرة المناصب وتميز اللواءات والباشوات مازالت مسيطرة حتى بعد قيام الثورة وموت مئات الشهداء وإصابة الآلاف
3 – النظرة للشعب على أنه لا يحكمه إلا الكرباج (على طريقة الباشا التركي القديم) ما زالت قائمة، ولم تمحها تلك الثورة العظيمة في 25 يناير
4 – أن الذين قاموا باختيار المحافظين لم يدر بخلدهم رد فعل الناس، أو لم يضعوا الناس في الحسبان، وهذه مدرسة في الحكم ظننا أنها قد ولت مع مبارك ونظامه، ولكن يبدو أنها مازالت قائمة
5 – لم يفكر القائمون على الأمور في تداعيات تعيين محافظين مرفوضين على حالة الاستقرار في البلد، وها نحن أمام موقف متأزم في قنا وقد يتأزم في أماكن أخرى، في الوقت الذي يحاول كل مخلص في هذا البلد أن تستقر الأمور ليتعافى المجتمع ويتعافى الاقتصاد حتى تنطلق مصر بعد الثورة لتحقق أهدافها
ما الحل؟
والأمر أصبح أزمة في الوقت الحالي، إذ يصبح تراجع الحكومة عن التعيينات مشكلة تؤثر على هيبة الحكومة وتدفع الناس إلى مزيد من الاحتجاجات على كل مسئول لا يعجبهم فتعم الفوضى، كما أن استمرار المحافظين المرفوضين لأشخاصهم أو لتاريخهم أو لانتماءاتهم خطرا على استقرار الأوضاع في بعض المحافظات، ولا نظن أن الحل القمعي الأمني يمكن أن يحل المشكلة ويعيد الناس إلى بيوتهم، فالمزاج الثوري الحاد لدى الناس في هذه الفترة لا يسمح بذلك أو على الأقل يجعل هذا الحل الأمني عالي التكلفة.
ولهذا نقترح للخروج من هذه الأزمة أن تتبنى الحكومة حلا سياسيا بأن تعلن أن المحافظين الحاليين هم مؤقتون بالضرورة ولمدة لا تتجاوز شهور قليلة، على أن يتم تغييرهم بعد هذه المدة المحددة وخاصة قبل إجراء انتخابات مجلس الشعب، وأن يكون منصب المحافظ بالانتخاب من بين شخصيات تطرحها المؤسسات الرسمية والشعبية بالمحافظة ولها تاريخ مهني يسمح لها بتولي هذا المنصب الهام.
وقد تعودنا من الحكومة الحالية احترام إرادة الشعب وتلبية احتياجاته، والمرونة في التعامل مع المواقف المتأزمة (عكس ما كان يفعله مبارك وحكوماته من العناد ومصادمة إرادة الشعب)، وهذا يطمئننا على أنها ستأخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، وأنها ستصحح ما وقعت فيه من أخطاء.
وننصح وننبه بكل إخلاص أن لا يتكرر هذا الخطأ في اختيار رؤساء الجامعات أو عمداء الكليات في نهاية العام الدراسي، وأن نسارع بتغيير لائحة المجلس الأعلى للجامعات لكي تكون هذه المناصب العليا بالانتخاب الحر المباشر بواسطة أساتذة الجامعات.
وأخيرا نجدد ما سبق اقتراحه من وجود لجنة استشارية مدنية من الشخصيات العامة المشهود لها بالكفاءة والحكمة والحيادية والوطنية، يتم أخذ رأيها في القرارات الهامة حتى نتفادى الهزات والأخطاء ونحافظ على الاستقرار وننطلق للبناء في أقرب وقت ممكن، وأن نسرع في تفعيل النقابات وسائر وسائل التعبير المشروع للناس حتى لا يضطروا إلى الخروج للشارع كلما حدث أمر لا يعجبهم، وأن نطالب الناس بضبط النفس والتعبير بأشكال متحضرة والحفاظ على الممتلكات العامة والابتعاد عن مظاهر التخريب أو تعطيل عجلة الإنتاج.
واقرأ أيضاً:
المرشحون للرئاسة بين الكاريزما والضمير2/ ديمقراطية كى جي ون (2 من 3)/ قنا: البحث عن.. جملة مفيدة/ أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة