الإخلاص من ثمرات التوحيد الخالص
الفصل الثاني عشر
للإخلاص ثمرات طيبة في النفس والحياة نجملها فيما يلي:
1 . تحويل الأعمال العادية إلى عبادات:
والإخلاص هو "إكسير" الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباح أوالعادات حوله إلى عبادة وقربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "إنك ما تنفق نفقة تبغي بها وجه الله تعالى إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تضعها في في (أي فم) امرأتك".
وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: (..... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ*وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (التوبة:120، 121).
فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يسجل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشياء في سبيل الله إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا. وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة من ارتبط فرسا ليجاهد عليها في سبيل الله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله، في ميزانه يوم القيامة"… يعني: حسنات!
وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، من عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.
2 . الاستمرار في العمل
ومن آثار الإخلاص: أنه يمد العامل بقوة الاستمرار، فإن الذي يعمل للناس، والذي يعمل لشهوة البطن أو الفرج، يكف إذا لم يجد ما يشبع شهوته، والذي يعمل أملا في شهرة أو منصب، يتراخى إذا لاح له أن أمله بعيد المنال، والذي يعمل لوجه الرئيس أو الأمير، ينقطع أو يتوانى إذا عزل الرئيس أو مات الأمير. أما الذي يعمل لله فلا ينقطع ولا ينثني ولا يسترخي أبدا، لأن الذي يعمل له لا يغيب ولا يزول، فوجه الله باق إذا غابت وجوه البشر، أو هلك الخلق كل الخلق: (..... كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (القصص:88). ولهذا قال الصالحون: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل! وهذا ما صدقه الواقع، وما رأيناه ولمسناه، ولازلنا نراه ونلمسه في كل زمان ومكان.
3 . إحراز ثواب العمل (بالنية الصالحة وإن لم يتمه أو لم يعمله):
ومن بركات الإخلاص لله: أن المخلص يستطيع أن يحرز ثواب العمل كاملا وإن لم يقدر على إتمامه بالفعل، لنستمع إلى قول الله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفورا رحيما). بل يستطيع المسلم بنيته الخالصة لله أن يدرك ثواب العمل كاملا، وإن لم يؤده ولم يشرع فيه، ولهذا أمثلة كثيرة جاءت بها الأحاديث. روى البخاري عن أنس بن مالك قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر".
وروى النسائي وابن ماجه عن أبي الدرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان صدقة عليه من ربه".
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". وقال أيضا: "من طلب الشهادة صادقا، أعطيها، ولو لم تصبه"، والحديثان يؤكدان وصفا أو شرطا لابد منه، لمن يحصل على "الشهادة" وهو على فراشه، لم يقتل ولم يصب، وهو أن يكون سؤاله للشهادة "بصدق"، أن يطلبها "صادقا"، فما كل من يسأل الشهادة بلسانه، يكون صادقا في أعماقه، فالمدار على السرائر، والله أعلم بها.
وقد يتقرب المخلص إلى ربه بعمل فيخطئ في تأديته، ويضعه في غير موضعه، فتأتي نيته الصالحة شفيعا، فتصحح له خطأه، وتكمل له نقصه. وفي هذا جاء حديث الصحيحين في الرجل الذي تصدق في ثلاث ليال فصادفت صدقته مرة رجلا سارقا، ومرة امرأة زانية، والثالثة رجلا غنيا، ولكنه حمد الله على كل حال، وأراد الله تعالى أن يثبت قلبه ويشرح صدره، فأتاه في المنام من يقول له: "أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله"، وتقبل الله صدقته ببركة نيته، ولم يضع أثرها في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك جزاء المخلصين.
4 . تقدم المجتمعات واستقامة الحياة:
ولا يفوتنا أن نذكر بما نبهنا عليه من قبل: أن ثمرة الإخلاص ليست مقصورة على الآخرة، بمعنى أننا لا نطلب الإخلاص لتكون أعمالنا مقبولة عند الله، ونفوز في الآخرة بالجنة، ونزحزح عن النار فحسب، فهناك فوق هذا: أن الإخلاص مطلوب لكي تستقيم الأمور في هذه الدنيا، ويقوم العدل، ويزول الظلم والظلام، وتتخلص المجتمعات من آثار الفساد.
إنما تفسد الحياة، وتختل موازينها، إذا اختفى الإخلاص، وبرز النفاق، وارتفع صوت المنافقين، وراجت بضاعتهم، إن هؤلاء لا يبالون ـفي سبيل شهوات أنفسهم ومصالحهم الآنية المادية الدنيوية العاجلةـ أن يجعلوا الأقزام عمالقة، والشياطين ملائكة، واللصوص أشرف الناس، وأن يتهموا الشرفاء، ويخونوا الأمناء، ويكذبوا على الأبرياء، وأن يجعلوا السراب ماء، كما رأينا ذلك في بعض الشعراء قديما، وبعض الإعلاميين حديثا.
إن حب الدنيا، وحب مظاهرها الكاذبة، من المال والجاه والمنصب والزعامة والظهور، هو الذي صنع الفراعنة والجبابرة، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، والذي مكن لهؤلاء ومهد لهم الأرض، هم المنافقون الذين يتمسحون بأعقابهم، ويبررون كل تصرفاتهم، ويجعلون كل أقوالهم حكما ودررا، وكل أعمالهم بطولات وانتصارات. ولا ينقذ الأمم من الضياع والكساد والفساد إلا المخلصون الذين يقومون لله لا للناس، ويعملون للحق لا للهوى، ويجاهدون لإعلاء كلمة الله، لا لإعلاء كلمة فلان أو خلان.
5 . السكينة النفسية
فهو يمنح صاحبه سكينة نفسية، وطمأنينة قلبية، تجعله منشرح الصدر، مستريح الفؤاد، فقد اجتمع قلبه على غاية واحدة، هي رضا الله عز وجل، وانحصرت همومه في هم واحد، هو سلوك الطريق الذي يوصل إلى مرضاته، ولا ريب أن وضوح الغاية، واستقامة الطريق إليها: يريح الإنسان من البلبلة والاضطراب بين الاتجاهات، وتنازع الرغبات، وتعدد السبل.
وقد ضرب الله مثلا للمؤمن الموحد بالعبد الذي له سيد واحد، عرف ما يرضيه وما يسخطه، فجعل كل همه في إرضائه، واتباع ما يحبه وللمشرك بالعبد الذي يملكه شركاء متشاكسون، كل واحد يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، وكل يريد منه غير ما يريد صاحبه، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر : 29 ). ومعنى "سلما" له: أي خالصا له لا يشاركه فيه أحد.
وبهذا تحرر الإنسان المؤمن ـبإخلاصه العبودية للهـ من تعاسة العبودية لغيره: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة" وسعد بالعبودية لله وحده. لقد جمع همومه في هم واحد هو رضوان الله تعالى، وجعل نيته وقصده في الآخرة، فهان عليه كل ما يلقى في هذه الدنيا. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهموم هما واحدا، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم، لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك".
ومعنى: تشعبته الهموم: توزعته وتقسمت قلبه وإرادته: بين المال والجاه والشهوات وما أكثرها، بخلاف المؤمن الذي ركز كل همه في إرضاء ربه. ويقول عليه الصلاة والسلام: "من كان الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا، وهي راغمة".
6 . القوة الروحية:
يمنح الإخلاص المخلص قوة روحية هائلة، مستمدة من سمو الغاية التي أخلص لها نفسه، وحرر لها إرادته، وهو رضا الله ومثوبته. فإن الطامع في مال أو منصب أو لقب أو زعامة: ضعيف كل الضعف، إذا لاح له بادرة أمل في تحقيق ما يطمع فيه من دنيا، ضعيف أمام الذين يملكون إعطاءه ما يطمح إليه، ضعيف إذا خاف فوات مغنم يرجوه، أما الذي باعها لله، فهو موصول بالقوة التي لا تضعف، والقدرة التي لا تعجز، ولهذا كان في تجرده وإخلاصه أقوى من كل قوة مادية يراها الناس. وقد صور حديث ـرواه الترمذي بسند ضعيفـ مقدار القوة الروحية الهائلة التي يملكها من أخلص قلبه لله، يقول الحديث الذي رواه أنس بن مالك:
"لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، هل في خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه، ويخفيها عن شماله".
وهكذا يصور لنا هذا الحديث أن القوة الروحية أعظم من كل القوى المادية، وأن قوة الإيمان والإخلاص تفوق قوة الجبال التي تمسك الأرض أن تميد، وقوة الحديد الذي يقطع الجبال، وقوة النار التي تذيب الحديد، وقوة الماء الذي يطفئ النار، وقوة الريح التي تحرك الماء، أقوى من ذلك كله قلب ابن آدم حين يخلص لله، فيتصدق بيمينه لا تعلم بها شماله. وهو تصوير نبوي بليغ معبر عن اجتهاده في إخفاء صدقته بعدا عن مظنة مراءاة الناس. وذكر الغزالي في "الإحياء" قصة ترمز إلى هذا المعنى، وهو: ما يمنحه الإخلاص من قوة غير عادية لصاحبه، لا توجد عند غيره.
إنها قصة العابد الذي سمع أن شجرة يعبدها الناس من دون الله، فحمل فأسه، وذهب مصمما على أن يقطعها، ويقطع معها دابر فتنة تقديسها وعبادتها، وفي الطريق قابله إبليس فأراد أن يثنيه فأبى، فتصارعا، فصرع العابد إبليس، وبدا كأنه ريشة في يده، وهنا بدأ إبليس في مفاوضة ماكرة مع العابد: أن يعود ويدع الشجرة، فإن قطعها لا يفيد، فقد يعبدون شجرة أخرى، وتعهد أن يعطيه كل يوم دينارا، يجده تحت وسادته، فينتفع به، وينفق منه على المساكين، ومازال إبليس بالرجل، حتى اقتنع، وسلمه مبلغا مقدما، ثم ظل مدة يتسلم فيها الدينار كل صباح وفق ما اتفقا عليه.
ولكن العابد فوجئ يوما بأنه لم يجد الدينار تحت الوسادة، كما اعتاد، فصبر عدة أيام، لعل صاحبه يفي له بما وعده، بيد أنه لم يفعل، فما كان من العابد إلا أن حمل فأسه، وذهب ليقطع الشجرة من جديد، فقابله إبليس، فتحداه، وتنازعا واصطرعا، فصرع إبليس الرجل هذه المرة، وكان كأنه عصفور بين رجليه!
وهنا سأله العابد: ما الذي جعله يغلبه هذه المرة، بعد أن انتصر على إبليس بجدارة في المرة الأولى؟ هنا قال له إبليس: لقد كان غضبك في المرة الأولى لله، فكان لديك من القوة ما لم يكن لي قبل بها!!، ولا طاقة لمواجهته، فهزمت أمامك بسرعة، أما هذه المرة فكان غضبك لانقطاع الدينار، فلم يكن عندك من القوة ما كان من قبل، وهزمت أمامي بسرعة البرق!!. وهنا ظهر الفرق بين الغضب للدرهم والدينار والغضب للواحد القهار.
إن المخلص لله لا يلين للوعد، ولا ينحني للوعيد، لا يذله طمع، ولا يثنيه خوف، أسوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه الملك والشرف والمال وسائر أعراض الدنيا ليكف عن دعوته، فقال في إصرار وصلابة: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
أما لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم شهوة خفية في مال أو ملك أو سيادة لضعفت مقاومته أمام العروض المغرية، يقدمها له سادة قريش، لكنه عرف غايته فأخلص لها، وعرف ربه فلم يشرك به شيئا.
7 . النصر والكفاية الإلهية:
ومن ثمرات الإخلاص: أن المخلص مؤيد من الله، منتصر به سبحانه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.... ) (الزمر:36).
وعلى قدر إخلاص المرء لربه، وتجرده له، يكون مدد الله تعالى وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد: إمداد الله بالنصر والتأييد، أو بالتوفيق والتسديد، على حسب ما في القلوب من تجريد النية، وصفاء الطوية، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (الأنفال : 70 ).
ويقول: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (الفتح:18). وقد جاء عن عمر رضي الله عنه في رسالته الشهيرة في القضاء قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله".
قال ابن القيم في شرح هذه الكلمات في "الإعلام": "هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع: فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟
فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مئونتها، وجعل له فرجا ومخرجا، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل لم ينصر، وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول. وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب الحمد والشكر والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي، كان هو المقصود أولا، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق. وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدا، فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه، مفوضا إليه، بريئا من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.
قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس".
8 . تأييد الله تعالى ومعونته في الشدائد والأزمات:
ومن ثمرات الإخلاص: أن الله تعالى يمد المخلص بعونه، ويحرسه بعينه التي لا تنام، ولا يتخلى عنه إذا حلت بساحته الخطوب، وأحاطت به الشدائد والكروب، فهو سبحانه يستجيب دعاءه، ويلبي نداءه، ويكشف عنه الغمة.
ومن عجيب ما ذكره القرآن في ذلك: استجابة الله تعالى دعاء المشركين، إذا جرت بهم الفلك في البحر، وهاجت عليهم الريح، وأحاط بهم الموج من كل مكان، فيدعون الله في تلك اللحظات بصدق وإخلاص، فيستجيب لهم، وإن غيروا بعد ذلك وبدلوا، يقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .....)(يونس:22، 23).
وإنما أنجاهم واستجاب لهم، لأنهم (دعوا الله مخلصين له الدين) فقد رجعوا في تلك اللحظة إلى الفطرة، وسقطت الآلهة المزيفة، ولم يبق لديهم إلا الله يدعونه بإخلاص ويتجهون إليه.
ومن أبرز الأمثلة والوقائع في أثر الإخلاص في إنقاذ المكروب من كربته: قصة الثلاثة "أصحاب الغار".
فمن رحمة الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضا منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.
بدأ الحافظ المنذري كتابه "الترغيب والترهيب" بالترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، ثم جعل أول حديث في كتابه حديث "أصحاب الغار". فمن رحمه الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضها منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.
بدأ الحافظ المنذري كتابه "الترغيب والترهيب" بالترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة، ثم جعل أول حديث في كتابه حديث "أصحاب الغار" الذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصتهم، لما فيها من عبرة لأولي الألباب.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر ـزاد بعض الرواة: "والصبية يتضاغون عند قدمي" ـ فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيع الخروج منها".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلى بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال لي: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك!، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي!، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فساقه: فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون" (رواه البخاري ومسلم).
ويتبع >>>>>>>>>>> كلنا دعاة إلى الله تأكيد الذات مشاركة4