كتاب عقلاء المجانين
للمفسر أبي القاسم بن حبيب النيسابوري
مقدمة
بالصدفة البحتة وفي أثناء تصفحي لصفحات الإنترنت وجدت هذا الكتاب، فقمت بتقسيمه إلى حلقات صغيرة، لا يتجاوز كل منها خمس صفحات، وكان مجموع الحلقات 22 حلقة، ثم أرسلته لأخي وصديقي الدكتور وائل أبو هندي لنشره على الموقع في شكل مقالات متنوعة؛ فالكتاب يحمل جزءاً من شعار الموقع دون أن ندري بوجوده!، ولأن الكتاب دسم في مادته العلمية والأدبية اتفقت مع الدكتور وائل على شرح بعض أبيات الشعر فيه قد استطاعتي، مع التأكيد على بعض المعاني المهمة في متن الكتاب، وشرح معاني بعض الكلمات الصعبة، واستخدمت في ذلك الأقواس مع اللون البرتقالي، أما الآيات القرآنية فاستخدمت لها اللون القرمزي الغامق، واستخدمت للأحاديث النبوية الشريفة اللون البني، واستخدمت للعناوين الفرعية وأبيات الشعر اللون القرمزي، وقد غيرت الخلفية إلى اللون البرتقالي الفاتح لعمل تغيير في شكل موقع "مجانين"؛ وذلك بعد أن سئمت من اللون الأزرق ودرجاته على الموقع!.
هذا الكتاب قد كتبه مؤلفه مفسر القرآن الفاضل أبو القاسم بن حبيب النيسابوري في أواخر القرن الرابع الهجري، وهذا هو أوج العصر العباسي الثاني، حيث بدأ انحدار الخلافة العباسية في بغداد، وازداد نفوذ الأتراك في بلاط الخلفاء، وظهرت الخلافة الفاطمية في مصر، والدولة الغزنوية في فارس، والحمدانية في الشام، وبداية ظهور ملوك الطوائف بالأندلس وانتهاء الخلافة الأموية بالأندلس، وقد انتشر التصوف كتيار مضاد للانحلال الأخلاقي، والصراعات الفكرية والدينية التي تزداد في مثل تلك الأوقات من الانحلال والضعف السياسي للأمة، ومع ازدياد أعداد المتصوفة ننتظر أيضاً أن يزداد أعداد الدراويش، كما اصطلح الناس على تسميتهم، وهؤلاء غالبا ما يتسمون بالزهد في مغريات الدنيا، والبساطة في أمور المعيشة، وتجري الحكمة على ألسنتهم، وفي نفس الوقت يندهش الناس لثيابهم الرثة وشظف معيشتهم، ولكن لأفعالهم الزاهدة في الدنيا، ولفصاحة ألسنتهم، ولتدينهم أطلق أهل العلم على غريبي الأطوار منهم مصطلح "عقلاء المجانين"، وهو بلا ريب أسم موفق من صاحب هذا الكتاب، وخصوصا أن من يعبد الله عز وجل ويتقيه هو ليس مجنونا أبدا، وإن كان مصاباً في عقله، إنما المجنون الحقيقي هو من يبتعد عن عبادة الله عز وجل وعن حظيرة الإيمان.
وأطمح أن يقوم بعض المهتمين بكتب التراث بترجمته إلى اللغات المختلفة وبالذات إلى اللغة الإنجليزية؛ وذلك حتى نقول للمتعجرفين من معتنقي الفكر الصهيوني: "أن أجدادنا قد عرفوا الجنون وشخصوه وعالجوا أصحابه ببعض طرق العلاج النفسي التي يدعوا إليها علماء الغرب اليوم، وأن المرضى العقليين في بلادنا كانوا يخالطون مجتمعاتهم برحابة صدر وود من أبناء تلك المجتمعات؛ وذلك منذ أكثر من ألف عام، بينما كان الغربيون في ذلك الزمن البعيد يحرقون كل مريض عقلي يظهر بينهم مخافة أن تنتقل عدواه وشياطينه إليهم!!".
وأنا أعتبر هذا الكتاب -في الحقيقة- مفخرة من المفاخر العلمية والفكرية لأجدادنا من أبناء الأمة الإسلامية، ويزداد احترامنا وإجلالنا لمؤلف هذا الكتاب عندما نعلم أنه ابن من أبناء "خراسان" بشمال شرق إيران المسلمة اليوم، والتي وصل إليها الإسلام منذ القرن الأول الهجري، وسيعجبك في هذا الكتاب بإذن الله دقة التوثيق لقصص عقلاء المجانين مع الاختصار غير المخل، وجمال لغة وأسلوب الكتابة، والحكمة المتدفقة أحيانا، أما الأشعار فيه فحدث عنها ولا حرج.
والله نسأل أن يجعل عملنا هذا مُتقبَلا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا تعالى الإخلاص في السر والعلن.
أد. مصطفى السعدني
وهذا جزء مما كتبه عنه الإمام "السيوطي" في كتابه "طبقات المفسرين".
الحسن بن محمد بن حبيب بن أيوب أبو القاسم النيسابوري الواعظ المفسر قال عبد الغافر : إمام عصره في معاني القرآن وعلومه مصنف التفسير المشهور وكان أديبا نحويا عارفا بالمغازي والقصص والسير انتشر عنه بنيسابور العلم الكثير وسارت تصانيفه الحسان في الآفاق وكان أستاذ الجماعة حدث عن الأصم وأبي زكريا العنبري وذكره في كتاب سر السرور وقال: هو أشهر مفسري خراسان وأقفاهم لحق الإحسان وكان الأستاذ أبو القاسم الثعلبي من خواص تلاميذه وقال السمعاني: كان شافعي المذهب وقال الذهبي: سمع أبا حاتم بن حبان وجماعة روى عنه أبو بكر محمد بن عبد الواحد الحيري الواعظ وأبو الفتح محمد بن إسماعيل الفرغاني وآخرون وصنف في القراءات والتفسير والآداب وعقلاء المجانين مات في ذي الحجة سنة ست واربعمائة.
ومن شعره أورده ياقوت:
رضا بالدهر كيف جرى وصبرا ففي أيامه جمع وعيد .
ولم يخشن عليك قضيب عود من الأيام إلا لان عود
وله:
في علام الغيب عجائب فاصبر فللصبر الجميل عواقب
ومصائب الأيام إن عاديتها بالصبر رد عليك وهي مواهب
لم يدج ليل العسر قط بغمه إلا بدا لليسر فيه كواكب
وله :
بمن يستغيث العبد إلا بربه ومن للفتى عند الشدائد والكرب
ومن مالك الدنيا ومالك أهلها ومن كاشف البلوى على البعد والقرب
ومن يدفع الغماء وقت نزولها وهل ذاك إلا من فعالك يارب
وقال البيهقي في شعب الإيمان: أنشدنا أبو القاسم الحسن.
بن محمد بن حبيب في تفسيره قال: أنشدني أبى:
إن الملوك بلاء حيثما حلوا فلا يكن لك في أكتافهم ظل
ماذا تؤمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وان أرضيتم ملوا
فان مدحتهم خالوك تخدعهم واستثقلوك كما يستثقل الكل
فاستغن بالله عن أبوابهم أبدا إن الوقوف على أبوابهم ذل
(وهذه الأبيات الأربعة تذكرنا بتأكيد الذات والثقة والاعتزاز بالنفس، وهي صفة يضيفها الإمام السيوطي إلى شمائل وأخلاق مؤلف كتاب عقلاء المجانين).
وفي مرجع آخر عرف (ابن حبيب)بالتالي:
العلامة أبو القاسم, الحسن بن محمد بن حبيب بن أيوب, النيسابوري, المفسِّر الواعظ، صاحب كتاب: "عقلاء المجانين" والذي
صنف في التفسير والآداب. توفي في ذي الحجة سنة ست وأربع مائة من الهجرة النبوية الشريفة.
بداية الكتاب:
قال الشيخ أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري المفسر رحمة الله عليه: سألني بعض أصحابي، عوداً على مبدأ، أن أصنف كتاباً في عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم، وكنت أتغامس (أتلكأ) عنه إلى أن تمادى به السؤال، فلم أجد بداً من إسعافه بطلبته، وأجابته إلى بغيته، تحرياً لرضاه، وتوخياً لهواه، وكنت في حداثة سني سمعت كتباً في هذا الباب مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا وأحمد بن لقمان وأبي علي سهل بن علي البغدادي رحمهم الله فوقع كل كتاب منها في جزء أو ما يقارب جزءاً، تتبعتها وتيقنتها، وضممت إليها قرائنها، وعزوتها إلى أصحابها، وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب، وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله. والله الموفق والمعين.
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الذي لا يخيب لديه أمل الآملين، ولا يضيع عنده عمل العاملين، فهو جبار السماوات والأراضيين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين.
أما بعد: فإن الله تعالى خلق الدنيا دار زوال، ومحل قلق وانتقال، وجعل أهلها فيها غرضاً للفناء، ومقاساة الشدة والبلاء، فشاب حياتهم فيها بالموت، وبقاءهم بحسرة الفوت، وجعل أوصافهم فيها متضادة، فقرن قوتهم بالضعف، وقدرتهم بالعجز، وشبابهم بالمشيب، وعزهم بالذل، وغناهم بالفقر، وصحتهم بالسقم، واستأثر انفراد الصفات لنفسه: قوة بلا ضعف، وقدرة بلا عجز، وحياة بلا موت، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر. وكذلك بسائر صفاته.
ثم أقسم بها أجمع فقال تعالى: "والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر". واختلف الناس فيها من ثلاثين وجهاً، وأشار أبو بكر محمد بن عمر الوراق، رحمه الله، إلى ما ذكرناه: حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، قال: حدثنا أبو عبد الله ختن أبي بكر الوراق قال: سأل أبو بكر عن قوله عز وجل "والشفع والوتر" فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين والوتر انفراد صفات الخالق ثم ذكر نحواً مما قلنا.
وعلى هذا المثال قرن خبرتهم بالعبرة، وفرحهم بالترح، ولذلك قالت الحكماء وكفاك بصحتك سقماً، وبسلامتك داء. حدثنا أبو عبد الله بن عبد الله بن أحمد الخطيب الميداني، قال: حدثنا أبو قريش محمد بن خلف الحافظ، قال: حدثنا محمد بن زنبور المكي قال حماد بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالسلام داء.
سمعت الفقيه أبا حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله، قال: سمعت أبا داود سليمان بن معبد الشنجي يقول أنشدنا بعض الأدباء:
كانت قناتي لا تلين لغامز وألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً لمعيشتي فإذا السلامة داء
(هذان البيتان للبيد بن ربيعة، ومعناهما أن تقدم العمر بالإنسان وازدياد خبراته يجعلانه أكثر مرونة وتفاهما وتقبلا لما كان الشخص لا يقبله وهو صغير فتي أرعن، وأنني دعوت الله –عز وجل- السلامة من كل مكروه في حياتي، ولكنني اكتشفت أن الدعة والسلامة من المكروه، مرض من أمراض الحياة، لأن الإنسان يعتاد الدعة في حياته مع الوقت ويفقد القدرة بعد ذلك على مواجهة مشاكل ومصائب الحياة، وهذا يتفق مع قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم").
وأخبرنا محمد بن عيسى بن علي بمرو الروذ قال: أخبرنا
يوسف بن موسى قال: حدثنا بشر بن عبد الغفار الواسطي عن يحيى بن هاشم السمسار قال: قال مسهر لعطية العوفي: كيف أصبحت؟ قال:
"في سلامة مشوبة بداء، وعافية داعية إلى فناء".
قال: وحدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون قال: حدثنا أبو حامد المستملي: حدثنا محمد بن الحجاج: حدثنا جميل بن يزيد، عن وهب بن راشد، عن فرقد السنجي، قال: مكتوب في التوراة: "يا ابن آدم أنت في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك".
وقيل للحسن: إن فلاناً في النزع. فقال: ما زال في النزع منذ خرج من بطن أمه ولكنه الآن أشد: وهذا حميد بن ثور وهو من فحول الشعراء يقول في بعض قصائده:
أرى جسدي قد رابني بعد صحة وحسبك داء أن تصح وتسلما
وأنشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله السرخسي، قال: أنشدنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن المدغولي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن حاتم المظفري:
يحب الفتى طول البقاء وإنه على ثقة أن البقاء فناء
زيادته في الجسم نقص حياته وليس على نقص الحياة نماء
إذا ما طوى يوماً طوى اليوم بعده ويطويه إن جن المساء مساء
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ولا لهما بعد الجميع بقاء
وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقلهم بالجنون فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون. ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أبلى شبابه في المعصية فسماه مجنوناً، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا أبو إسحاق حبان البلخي قال: حدثنا محمد بن مدويه الكرابيسي الترمذي، قال: حدثنا خالد بن خداش عن صالح المرسي عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مر به رجل فقال بعض القوم: هذا مجنون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "هذا مصاب إنما المجنون على معصية الله تعالى". (هذا الحديث الشريف على درجة كبيرة من الأهمية في مفهوم الجنون؛ فالمجنون هو من يفرط في دينه ويضيع آخرته ويعصي الله عز وجل مجاهرا بمعصيته، أما المريض العقلي فهو مصاب).
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أحيد القطان البلخي يقول: سمعت أبا شهاب معمر بن محمد العوفي يقول: سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سمعت خلف بن أيوب، وسأل عن الأحمق، قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه.
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يبال ما نقص من دينه بعد أن سلمت له دنياه. وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعة وهو يسعى في عمارة دنياه. وسئل آخر: من الأخرق؟ فقال: من خرب آخرته بدنيا غيره.
أنشدنا أبو جعفر محمد بن علي الطيان القمي بمرو الروذ قال: أنشدنا محمد بن سعيد بن سهيل الطباخي بالبصرة:
خلقنا لأمر وإن لم نكن به مؤمنين فإنا لنوكى (مجانين)
وإن نحن كنا به مؤمنين ولسنا نخاف فإنا لهلكى
وأنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا بن دينار الهلالي قال: أنشدنا عبد الله بن محمد بن عائشة:
ومن كانت الدنيا هواه وحلمه فذلك مجنون وإن قيل عاقل
قال آخر: المجنون ممن التمس رضى الناس بسخط الله عز وجل.
أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن مسعود قال: أنشدنا نفطويه، عن الخليل بن أحمد:
إني بليت بمعشر نوكي أخفهم ثقيل
نفر إذا جالستهم نقصت بقربهم العقول
ومر صلة بن أشيم بقوم قد اجتمعوا على رجل مقيد، فقال: من هذا ؟ قالوا: مجنون، فقال لا تقولوا مثل هذا إنما المجنون مثلي ومثلكم يعمر الدنيا ويخرب الآخرة.
أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد بن ملحان البصري، قال: أنشدنا بشر بن موسى الأسدي:
إلى كم تخدم الدنيا وقد جزت الثمانينا
ثبت العلم في قوم يروحون يوغدونا
فلا هم بك يعنون ولا هم عنك يغنونا
لئن لم تك مجنونا لقد فقت المجانينا
ويتبع >>>>>: كتاب عقلاء المجانين1