في حياة الأمم -كما في حياة الأفراد- لحظة فارقة، إن أمسكت بها ارتقت في طريق صاعد برأس مرفوع ويدين طليقتين. وإن حدث العكس وترددت في لحظتها الفارقة هوت أقدامها في هوة سحيقة تحتاج أجيالاً كي تنهض من جديد. ونحن الآن في لحظة فارقة في تاريخ الأوطان.
حتى وصول البرادعي لم أكن أصدق بوجود شيء اسمه «الحل الجماعي». كنت أشعر بالغضب ممن يتلاعبون بعواطفنا الوطنية، أو يسوّقون وهماً اسمه «مصر». كنت أقول دائماً: «مصر سفينة غارقة والكل يتسابق على قوارب الإنقاذ، ولأن قوارب الإنقاذ شحيحة استولى على معظمها السادة، فحياتنا في حقيقتها -وإن لم نعترف بهذا- صراع من أجل البقاء». ولأن أيدينا لا تطال المتسببين في غرق السفينة فإننا نتعامل مع بعضنا بكثير من القسوة تلخصها أخلاقيات الزحام، وصدقني: ليس هناك أقسى على الفقير من الفقير.
حتى أيام قليلة كنت خالياً من الأمل، وأغلب ظني أنني سأغادر هذه الحياة وحال مصر أسوأ مما كان عليه يوم مولدي. كانت الأمور في ذهني واضحة: سفح كبير متسع، وهضبة صغيرة مرتفعة. السفح مليء بالبؤس والمرض والمنازل الضيقة والشوارع الحقيرة المليئة بالمجاري والقمامة، وفوق الهضبة العالية منتجعات جميلة وحدائق متسعة، ونحن-الشعب المصري بأسره- نزحف على بطوننا من أجل الوصول لقمة الهضبة، تسقط الأغلبية وتصل الأقلية المحظوظة التي أسعدتها أقدارها بالكفاح ضد الطبيعة القاسية والظروف غير الملائمة.
كلها حلول فردية: تسافر للخليج لتجمع ثروة، أو تغامر بحياتك عبر البحر إلى إيطاليا، أو تكون طبيباً يتصادف أن عيادته رائجة، أو مهندساً حالفه الحظ في المقاولات، أو محترف دروس خصوصية. تغرس أصابعك، في الرمال المتحركة وتستجمع قواك الكامنة وتزحف صوب الهضبة. لا تبالي أن تتسخ ثيابك أو تتسلخ ركبتك، المهم أن تصل، بعد عشرين عاماً ربما تصل، بعد أربعين عاما قد تصل، وربما لا تصل، في الأغلب لن تصل، سوف يركلك أحد المتسلقين بقدمه وهو يزحف فوقك، في كفاح الطبقات المتصارعة من أجل البقاء.
لم يفكر أحدنا في الحل الجماعي.. إننا نستطيع ببذل نفس الجهد أن نُحوّل السفح إلى جنة، وبدلاً من صراعنا المستميت صوب الهضبة العالية، في المنتجعات الجديدة، التي صار الوصول إليها جواز سفر أو جنسية موازية، كان لدينا مشروع قومي انهار بعد هزيمة سبعة وستين، ثم استجمعت الأمة إرادتها في ثلاثة وسبعين، فهل نحن في حاجة إلى هزيمة أخرى حتى نستجمع قوانا الكامنة؟.
ومنذ وقتها وحتى الآن، سبعة وثلاثون عاماً كاملة عشناها بدون مشروع قومي، واليوم جاءت اللحظة الفارقة، مع رجل طويل القامة، مصري الملامح قمحي اللون له عينان متعبتان وصلعة أبوية، ويبدو عليه الوقار.
لا أحد يطلب من الشعب القتال أو العصيان، وإنما قليلا من الإيجابية. أشياء في بساطة استخراج بطاقة انتخابية، إشاعة الأمل بين الناس، التحذير من اليأس. لو قلنا كلنا إنه لن يحدث شيء فبالفعل لن يحدث شيء. فليكن شعارنا شعار حملة أوباما «نعم أنت تستطيع».
أرجوكم، من أجل أطفالكم، لا تضيعوا هذه «اللحظة الفارقة».
واقرأ أيضاً:
البرادعي رئيسا، لماذا؟ وكيف؟!/ نبوءة نجيب محفوظ للبرادعي وزويل