التوجيهات المبدئية لعلاج الاضطرابات النفسية بدأت بالانتشار في عالم الطب والصحة النفسية منذ تسعينيات الألفية الماضية. هذه التوجيهات تم استحداثها لعدة أسباب في مقدمتها ضغوط شركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتولى دفع مصاريف العلاج الطبي والنفسي، تطلب هذه الشركات تشخيصاً واضحاً وصريحاً، وتتوقع أن العلاج سيتم في ضوء التوجيهات التي تنشرها الجمعية الأمريكية للطب النفسي.
أما العامل الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول فهو الضغط الاقتصادي على المؤسسات الطبية الحكومية منها والأهلية. ما أن وصل حزب العمال إلى الحكم في بريطانيا حتى حرصت الدولة على استحداث المعهد الوطني للممارسة السريرية المتميزة (National Institute of Clinical Excellence (NICE وبرغم أن ليس هناك ما يلزم الطبيب بالالتزام بتوجيهات المعهد، إلا أنها تعتبر مقياساً لتقييم الخدمات أحياناً.
بعد هذه المقدمة، السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو موقع العقاقير الطبية في علاج اضطراب الشخصية الحدّيّة ضمن هذه التوجيهات؟
الجواب ببساطة هو: التوجيهات تقول أن لا دور للعقاقير في علاج الشخصية الحدّيّة2. إن الممارسة الطبية تثبت عكس ذلك تماماً؛ قلمّا ترى مرضى هذا الاضطراب يراجعون العيادات الطبية، كما لا يتعاطون عقاراً أو أكثر، ما هي الأسباب؟:
1. هناك من يقول أن التوجيهات لم تستحدث إلا لسبب واحد وهو أنها معرضة للتجاوز. رغم أن هذه المقولة لا تخلو من الصحة، إلا أنها أقرب إلى الاستثناء منها إلى العموم في الممارسات الطبية. لكن السبب الأقرب إلى الحقيقة هو أن المصاب باضطراب الشخصية الحّديّة في عملية تحدٍّ مستمرة وصراع مع من يقوم بعلاجه، أكان ذلك طبيباً نفسانياً أو معالجاً نفسياً. عملية التحدي هذه تتطلب جهوداً لفظية وسلوكية يصعب توفيرها في مساحة زمنية ضيقة، واللجوء إلى العقاقير ربما يكون أقصر الطرق للوصول إلى هدف معين في فترة زمنية محددة.
2. السبب الآخر هو أن سلوك المريض أحياناً لا يمكن فصله عن اضطراب اكتئاب أو قلق أو ذُهان حادّ. يتوخى الطبيب الحذر ويلجأ لاستعمال العقاقير خشية تعرضه للانتقاد مستقبلاً إذا ما حدث ما لا تحمد عقباه كنتيجة لسلوك التهور وإلحاق الأذى بالنفس. نسبة الانتحار في اضطراب الشخصية الحدّيّة يتراوح بين 1 – 3 %، وفي الاكتئاب بين 10 – 15%! في ضوء ذلك، ليس من الصعب الاستنتاج أن الاكتئاب الحاد قد يكون السبب وراء حالات الانتحار المنتهية.
3. ربما يمكننا إدراج سبب آخر لشيوع استعمال العقاقير في اضطراب الشخصية الحدّيّة يتعلّق بالعوامل النفسية الديناميكية للاضطراب نفسه. يميل المريض إلى استعمال الاستقطاب في تعامله مع معالجه و/أو طبيبه النفسي. هذا الاستقطاب بدوره قد يكون عاملاً لرد فعل طبيّ لا يقل استقطاباً، ويبدأ الطبيب بدوره باللجوء إلى استعمال العقاقير مستنتجاً أن مريضه مصاب بأعراض ذهانية ووجدانية بينما يترك التفسيرات العلاجية النفسية جانباً.
4. اضطراب الشخصية الحدّيّة كتشخيص لا يتقبله الكثير من المصابين به. هناك من يفضّل استبدال هذا التشخيص باضطراب الثنائيقطبي الثاني أو الأول، وهناك من يتجاوز ذلك ويتقبل حتى بتشخيص الفصام! الثنائيقطبي والفصام يعفي المريض من مسؤوليته عن سلوكه، وربما يكون أقل عناءً للطبيب أو المريض أو كليهما، وهو ما قد يفسر استعمال عقار لا يخلو من أعراض جانبية مريعة في هذا الاضطراب ألا وهو الكلوزابينClozapine 3.
التوجيهات العامة
الحقيقة أن 90% من المصابين باضطراب الشخصية الحدّيّة يتناولون عقاقير طبية نفسية، بيد أن تقييم تأثيرها ليس سهلاً لعدة أسباب وهي:
1. الأعراض النفسية التي يستهدفها العقار تعتمد كثيراً على ظروف المرحلة العلاجية وسياق الحالة المرضية.
2. العقاقير بحد ذاتها كثيرة الاستعمال، وكأنها واسطة نقل لعملية إسقاط نفسي لعواطف متأججة عند المريض والطبيب على حد سواء.
3. فعاليتها على المدى البعيد والقصير نادرة للغاية.
في ضوء ما سبق، لابد للطبيب النفسي بالالتزام بالقواعد التالية عند وصف العقاقير الطبية:
٠ العقاقير قد تساعد في علاج الحالة لكنها ليست بديلاً للعلاج النفسي والاجتماعي.
٠ الحذر من رفع معنويات المريض بأن العقاقير هي العلاج الذي سيحل مشاكله.
٠ التركيز على الأعراض التي يتم استهدافها بالعقار وتوضيح ذلك للمريض مع وضع جدول زمني لاستعمال العقار وسحبه.
٠ تشجيع المريض على الاطلاع والقراءة حول فعالية العقار وأعراضه الجانبية.
٠ التأكيد على المريض أن هناك صعوبة في تقييم فعالية الدواء، ونصيحته بضرورة تعاطيه بانتظام في تلك المرحلة.
تصنيف المرضى علاجياً
يحرص الطبيب النفسي دوماً على تصنيف حالة المريض إلى خمسة أصناف، وهي:
1. الصنف الوجداني Affective.
2. الصنف التهوري Impulsive.
3. الصنف العدائي Aggressive .
4. الصنف الاعتمادي (أو الاتكالي) Dependent.
5. الصنف الخالي Empty.
يكثر استعمال العقاقير وتتضح فعاليتها في الأصناف الثلاثة الأولى، بينما يقل استعمالها بالنزول من الأعلى إلى الأسفل كما هو موضح في المخطط أعلاه.
أهداف العقاقير
يمكن تقسيم أهداف استعمال العقاقير في علاج اضطراب الشخصية الحدّيّة إلى ثلاثة أهداف4 وهي:
٠ السلوك.
٠ المزاج .
٠ الأداء المعرفي.
السلوك الذي يشكل خطراً على المريض وعلى من حوله يستهدف أحياناً باستعمال العقاقير؛ مثل التهور وإلحاق الأذى بالنفس وتعاطي مواد كيمائية محظورة، وغير ذلك. يمكن ملاحظة التحسن مع استعمال عقاقير مضادة للصرع مثل الكاربامازابين Carbamezapine والفالبرويت Valproate، ومثبطات إعادة قبط السيروتنين الانتقائية (م.أ.س.أ) SSRI 6. في حين أن الليثيوم والعقاقير المضادة للذهان أقل فعالية من العقاقير السابقة، ويستحسن تجنّب عقاقير "الزاء" (البنزوديازيبن) Benzodiazepines مثل الدايازيبام Diazepam.
التعبير عن المزاج والحالة الوجدانية في المرضى المصابين باضطراب الشخصية الحدّيّة يتصف بغموضه وقوته. الغموض في التعبير عن الحالة الوجدانية يمكن تفسيره بكثرة الشعور بالغضب، فنرى استعمال تعبير "اكتئاب مع ألم" أكثر شيوعاً من التعبير عن الاكتئاب وحده5. عند استهداف الحالة الوجدانية يستحسن استعمال عقاقير م.أ.س.أ، ويمكن إضافة الليثيوم أو عقاقير مضادة للذهان، أمّأ عقاقير "الزاء" والمضادة للصرع ليست ذات فعالية.
يقصد بالأداء المعرفي هنا هو كثرة استعمال الإسقاط Projection كعملية دفاعية ينتج عنها الشك بالآخرين وإلقاء اللوم عليهم1. كذلك يشمل الأداء المعرفي أعراضاً انفصالية مثل تبدد الشخصية والشكوى من صورة الجسم Body Image، والنصيحة هنا هو تجنب العقاقير جميعها.
خلاصة الأمر؛ إن موقع العقاقير في علاج اضطراب الشخصية الحدّيّة لا يخلو من الشبهات، وهو غير مدعّم بدراسات علمية قاطعة لا تقبل الجدال.
المصادر:
1- Blechner M (1994). Projective identification, countertransference, and the "maybe-me. ". The Journal of Psychotherapy Practice and Research (8): 155–161
2- Borderline Personality Disorder: Nice Guidelines. Nice.org.uk. 28 January 2009.
3- Chengappa, R; Ebeling, T; Kang, J.; Levine, Joseph P(1999). Clozapine reduces severe self-mutilation and aggression in psychotic patients with borderline personality disorder. G Clin Psych 60(7), 477 – 484.
4- Gunderson J (2001). Borderline Personality Disorder A Clinical Guide. American Psychiatric Association. Washington DC.
5- Koenigsberg HW, Harvey PD, Mitropoulou V, et al. (2002). Characterizing affective instability in borderline personality disorder. Am J Psychiatry 159 (5): 784–8.
6- Rinne T, Wim van den Brink, Luuk Wouters, Richard van Dyck, (2002). SSRI Treatment of Borderline Personality Disorder: A Randomized, Placebo-Controlled Clinical Trial for Female Patients With Borderline Personality Disorder. Am J Psychiatry 159:2048-2054
ويتبع>>>>>: العلاج النفسي لاضطراب الشخصية الحدية
واقرأ أيضاً:
استشارات الشخصية الحدية
التعليق: الذي فهمته من مقال حضرتك .. إن العقاقير ممكن تبقى عامل مساعد في حالة الشخصية الحدية وأنها لا تغني عن اهمية العلاج النفسي .....
أنا سؤالي بقى هل ممكن لصاحب الشخصية الحدية انه يساعد نفسه ويتحسن من دون مساعدة طبيب أو معالج مختص ؟