رغم أن وجود محكي التشخيص الرئيسين لاضطراب الوسواس القهري وهما الوساوس Obsessions (المحتويات العقلية التسلطية) والقهور (الأفعال القهرية) هو أساس عملية التشخيص لأي حالة وسواس قهري، إلا أن كلا من هذين العرضين يمكن أن يأخذ صورا متباينة وغير متجانسة إلى حد بعيد، وهذا هو ما يبرر محاولات التقسيم المتعددة الأسس كما بينا من قبل في مقالنا هل هناك أنواع من الوسواس القهري، وتشير الدلائل التجريبية إلى أن الاختلافات في أعراض الوسواس القهري يمكن تقطيرها إلى عدد أقل من الأبعاد المعرفية السلوكية بحيث ترد نوعية معينة من الأعراض إلى اضطراب في بعد معرفي معين أي أن الوسواس القهري يعرف بشكل متزايد على أنه نتيجة اضطراب في أبعاد معرفية شعورية معينة، والبعدان الأهم حتى الآن هما بعد تحاشي الضرر (أو الأذي/الخطأ/الإثم) Harm Avoidance وبعد الشعور بعدم اكتمال الفعل أو الخبرة أو اللااكتمال (أو اللاّكتمال إن جاز لغويا) Incompleteness.. وحقيقة فإن التقسيم على أساس الأعراض قد يكون خادعا لأن نفس العرض مثل تكرار الغسيل القهري قد ينتج عن وساوس التلوث مثلما يمكن أن ينتج عن وساوس عدم الشعور باكتمال الغسيل.... وكذلك هناك من مرضى قهور (الترتيب التنسيق العد التكرار) من هم مدفوعون ببعد تحاشي الخطر كمن يشترط العد سبعة مرات أثناء الغسيل ليتخلص فعلا من الجراثيم كنوع من الكمالية غير المصحوبة باللاّكتمال فهذا النوع من المرضى يمكن أن يكون مدفوعا فقط بتحاشي الخطر وليس لمشاعر اللاكتمال دورٌ في حالته أو قد نجد مزيجا من البعدين التحفيزيين في نفس الحالة .... وتبدو العلاقة بين بعدي تحاشي الضرر واللاّكتمال أكثر تركيبا مما تصورته سومرفيلدت (Summerfeldt, 2004) في بداية دراستها وبحثها
رغم ذلك فإن التقسيم على أساس الأعراض الموجودة ما يزال هو الأكثر شيوعا في الممارسة السريرية وقد شرحنا قبل ذلك اثنين من أكثر صور الوسواس القهري شيوعا وهما وسواس التلوث الغسيل القهري و.ت.غ.ق والذي يعتبر تحاشي الأذى أو الإثم هو البعد المعرفي المولد لأعراضه، ثم وسواس الشك التحقق القهري و.ش.ت.ق، والذي أيضًا يعتبر تحاشي الأذى أو الإثم هو البعد المعرفي المولد لأعراضه، ومن المهم الانتباه هنا إلى أن العاطفة المصاحبة لهذا البعد تكون الخوف والقلق وربما الحزن، وهذا المكون الانفعالي لبعد تحاشي الضرر يميزه عن بعد اللاّكتمال وما يرتبط به من مشاعر وأحاسيس: إدراكات ليس صحيح تماما not-just right experiences (إ.ل.ص.ت NJREs والتي سنخصص لها مقالا).
إذن بينما مخاوف مرضى الوسواس القهري غالبًا ما تركز على نوع ما من العواقب المخيفة (مثلا التحقق من إطفاء الموقد مخافة نشوب حريق)، فإن مرضى وسواس قهري التناظر/التماثل Symmetry Obsessions غالبًا ما يجدون صعوبة في التعبير عن نتيجة مخيفة (Starcevic, & Brakoulias, 2008) أو عاقبة مخشية إذا لم ينفذوا القهور وكل ما يحفزهم هو الرغبة في التخلص من الشعور بعدم الراحة والضيق بسبب عدم الاكتمال أو إ.ل.ص.ت. NJREs وهو بالضبط ما يعبر عنه بعض المرضى بما يشبه مرضى اضطراب العرات حين يصفون ظواهرهم الحسية كمحفزات منذرة بالفعل Premonitory Urges....
هل هناك أنواع لشعور اللااكتمال ؟
من المهم التفريق بين نوعين من مشاعر اللاكتمال أحدهما لاّكتمال متعلق بالذات Self-Related Incompleteness وهو إحساس بتغير الخبرة الذاتية أثناء أو مباشرة قبل أو بعد الفعل القهري.... وهذا كثيرا ما يصفه مرضى الشك التحقق القهري و.ش.ت.ق، وأحيانا يصفه مرضى وسواس السب القهري ومرضى وسواس الطلاق وهو شكل من أشكال الانفصال في الوعي (أو الانشقاق) خاص بمرضى الوسواس القهري، حيث يصف المريض مشاعر اختلال الإنية (كالانفصال عن الذات أو الآلية أو كأنه في حلم أو يراقب نفسه ...إلخ) تأتيه مع و/أو قبل و/أو بعد الفعل القهري وقد تصحبها مشاعر تبدد الواقع وكلها مشاعر في غاية الإزعاج، وقد تبدو تلك المشاعر غريبة بالفعل لمن يسمعها مثل (Ecker w. & G Gönner, 2017) من يقول أنه لا يشعر أنه أغلق الإضاءة وهو غارق في الظلام لا يشعر باكتمال فعل إغلاق مفتاح الكهرباء فيضيئ ويطفئ عدة مرات أو كالذي يشعر وهو خارج من الحمام أنه أو صورته لم تخرج جيدا من المرآة ! فيدخل باب الحمام ويخرج عدة مرات، ومثل من يشعر أن صنبور الماء لم يغلق مع أنه لم يعد ينزل منه الماء فيراه لا ينزل الماء ويعرف أنه أغلقه لكنه يكرر الغلق!!.
والنوع الآخر هو اللاّكتمال المتعلق بإداراكات أو خبرات ليس صحيحا تماما «إ.ل.ص.ت NJREs»، ولـ «إ.ل.ص.ت» أربعة أنواع :
1- إ.ل.ص.ت متعلقة بإنهاء الفعل.... وهي خبرة تنتج عن عجز الشخص على الحصول على إشارة وقف الفعل لأنه تم بالفعل.
2- إ.ل.ص.ت متعلقة بإدراك البيئة. وهي خبرة تنتج عن غياب التماثل التناظر التساوي في مدرك بيئي ما.
3- إ.ل.ص.ت متعلقة بسمة الكمالية وهي خبرة تنتج عن تعذر الوصول إلى المواصفات الكمالية فيظل الشخص يشعر بأن المواصفات المنشودة لم تتحقق ! بعبارة أخرى فإن الكمالية تتداخل مع إتمام المهمة، فمثلا، لأنها تعني الحاجة إلى إكمال المشروع بطريقة صحيحة تمامًا. وقد يستمر التردد والتأملات المفرطة حول الأولويات والشكوك -حتى بعد اتخاذ القرار أيضًا- بسبب مشاعر إ.ل.ص.ت المستمرة، فرغم أن "الإيجابيات والسلبيات" قد تم تكرارها عقليا عدة مرات فإن الاجترار يستمر قبل وحتى بعد اتخاذ القرار. وأحيانا يمثل الانشغال بالتفاصيل طريقة الموسوسين لتجنب إ.ل.ص.ت، إذ يجب تحليل المشكلة بدقة عالية من أجل تحقيق الحل الصحيح تمامًا.
4- إ.ل.ص.ت متعلقة بالظواهر الحسية Sensory Phenomena وهي التي يشعر بها ثُلُثا مرضى الوسواس القهري وتعني الأحاسيس الجسدية المزعجة التي يصفها مرضى الوسواس القهري مدعمة للفكرة الوسواسية، أو ربما مسببة لها!، أو على الأقل مزعجة بما يكفي لتدفع للفعل القهري.... وقد وصفت الظواهر الحسية أول ما وصفت في مرضى اضطرابات العرات Tic Disorders وسميت أسماء عديدة طبقا لباحثين مختلفين لكن أشهرها كان الظواهر الحسية (Miguel et al., 2000) أو الظواهر الحِسِّيـَّةٌ الجسديةٌ Somatosensory Phenomena وتعرف الظواهر الحسية بأنها أحاسيس أو مشاعر غير مريحة أو إدراكات جسدية أو عقلية، وبؤرية Focal أو عامة ويمكنها أن تسبق القهور في غياب الوساوس (Shavitt et al, 2006)... ومن المهم هنا بيان أن مفهوم الظواهر الحسية أوسع من مفهوم إ.ل.ص.ت NJREs والتي اعتبرتها مجموعة ميجيل وشركاه شكلا من أشكال الظواهر الحسية.
الصورة الإكلينيكية لو.ل.ت.ق :
الوساوس والقهور المتعلقة بالتناظر/التماثل و/أو الترتيب/التنسيق (وسواس قهري التماثل/التناظر/السواء) شائعة في مرضى الوسواس القهري وتوجد في حوالي 57٪ منهم (Pinto et al., 2008). وفي هذا النوع من الوسواس يجد الشخص نفسه مرغما على محاذاة وترتيب الأشياء سواء فيما حوله أو في حالة وأداء جسده. فمثلا إذا واجهت رفًا مليئًا بالعلب أو الأواني وكل شيء في حالة من الفوضى، فقد يزعجك ذلك أو يشعرك بالضيق، وسيكون رد فعلك الطبيعي هو تغيير ترتيب العناصر على هذا الرف حتى يبدو مرتبا لكن قيامك بهذا من عدمه سيعتمد على متغيرات كثيرة من أهمها استعدادك الحالي لبذل الجهد والوقت في الترتيب وقد تؤجل ذلك أو لا تفعله، أنت ببساطة تستطيع أن تتحمل الفوضى ولو كنت لا تحبها، لكن مريض وسواس قهري التناظر دائما لا يستطيع تحمل الفوضى، وسيجد نفسه مضطرا للقيام بالترتيب والتنسيق ولو احتاج ساعات من العمل، ومن الأمثلة على ذلك:
- الانشغال بترتيب وتكرار ترتيب العناصر على المكتب حتى تكون المسافات بينهما متساوية... والشعور بالاكتمال.
- الانشغال بترتيب ودرجات ميل الكتب على الأرفف أو في خزانة المدرسة أو في الحقيبة... بطريقة معينة صحيحة.
- ترتيب الملابس في الخزانة بطريقة معينة.
- ترتيب وتكرار ترتيب أي مجموعة من الأشياء بطريقة محددة مثلا كل الأحذية متوازية باتجاه واحد ..إلخ.
ولنأخذ مثلا آخر : أغلبنا إن لم نكن كلنا جربنا الكتابة في دفتر ملاحظات مسطر... أغلبنا لا يهتم كثيرا بتساوى نهايات الأسطر .. ولا بمدى استقامة الخط على السطر وتجربة الكتابة اليدوية في كل الأحوال لا تكون مزعجة لنا، لكن الشخص المصاب بوسواس قهري التناظر سيشعر بالقلق أو الانزعاج إذا لم يتم تشكيل الحروف التي يكتبها بشكل صحيح أو إذا كانت الكلمات لا تجلس على خطوط السطور تمامًا... أو إذا لم تكن الأسطر متناسقة البدايات والنهايات .....إلخ وهو بالتالي يجد نفسه مضطرا للكتابة بانتباه وإتقان شديدين قدر استطاعته ليحقق المعايير المطلوبة لتحقيق التماثل التناظر التساوي والذي يعني له الانضباط والاكتمال...
وهناك أمثلة أخرى لوسواس التماثل التناظر تتعلق مثلا بالمشي كأن يركز شخص مصاب بالوسواس القهري بشكل متعمد على تطبيق نفس مقدار الضغط على كعب كل قدم عند وضع إحدى القدمين أمام الأخرى أثناء المشي أو السير على خط واحد أو لون أو نوع معين من بلاط الأرضية ! ومساواة شراشيب سجادة صلاة (أو غير ذلك) لتوجيهها جهة القبلة. أو محاولة مساواة شراشيب سجادة عادية، ومن الأمثلة أيضًا غسل الجسد بطريقة معينة أثناء الاغتسال بحيث يغسل العضو اليمين ثم الشمال وبحيث يتساوى الماء المصبوب، وتكرار الغسل حتى يتحقق المطلوب، وكذلك الانشغال بالمحافظة على التوازن بين الركعات أثناء الصلاة فلا يقرأ سورة أطول من سورة !.
يتميز هذا النوع من المرضى كذلك (وبعض ذوي السمات القسرية كالكمالية) بحساسية فوق عادية للأخطاء (لكل ما ينبئ عن عدم الانتظام أو عدم الصحة) ... فهم يلتقطونها بسهولة ودون جهد حتى ليبدو للآخرين وكأنهم يمتلكون في عقولهم نسخا مثالية لكل الأشياء !... كما في صاحب استشارة للساقطة واللاقطة : قاعد على الواحدة وهذا سلاح ذو حدين أحدهما يوجهه المريض لنفسه فيعيش فائق الحرص على الكمال والانضباط والاكتمال (كمشاعر يحصل عليها حين يحقق التماثل والتناظر والسواء) ويكون لذلك ما يكون من التأثير على أدائه الأكاديمي كدارس في الطفولة والرشد والمهني في وظيفته، وأما الحد الآخر فقد يوجهه المريض للآخرين طالبا منهم الوفاء بالمعايير التي تحقق له التماثل والاكتمال.... يمكن أن يكون هؤلاء زملاء عمل أو مرؤوسين كما يمكن أن يكونوا أعضاء الأسرة وسيكون بطبيعته صياد أخطاء أينما رأى أشياء.... ومن الطبيعي كذلك أن نتوقع القيود التي تفرض في البيت على لمس أو تحريك أشياء المريض.... مثلا لأن أحد لا يستطيع إرجاعها كما كانت بشكل صحيح تماما أو لأنه سيضطر إلى ترتيبها من الأول ...إلخ.
المراجع :
1- Summerfeldt, L. J. (2004). Understanding and treating incompleteness in obsessive-compulsive disorder. Journal of Clinical Psychology, 60(11),1155–1168.
2- Starcevic, V., & Brakoulias, V. (2008). Symptom subtypes of obsessive-compulsive disorder: Are they relevant for treatment? Australian and New Zealand Journal of Psychiatry, 42(8), 651-661.
3- Ecker w. & Gönner (2017) Current Status of Research Concerning Incompleteness in Obsessive-Compulsive Disorder. (English Version of) Verhaltenstherapie 2017;27:120–128 Published online: June 8, 2017
4- Miguel EC et al (2000) Sensory phenomena in obsessive–compulsive disorder and Tourette’s disorder. J Clin Psychiatry 61(2):150–156 (quiz 157)
5- Shavitt RG, Belotto C, Curi M, Hounie AG, Rosario-Campos MC, Diniz JB, Ferrao YA, Pato MT, Miguel EC. (2006): Clinical features associated with treatment response in obsessive-compulsive disorder. Comprehensive Psychiatry. 2006;47(4):276–81
6- Pinto, A., Greenberg, B. D., Grados, M. A., Bienvenu, O. J., Samuels, J. F., Murphy, D. L., … Nestadt, G. (2008). Further development of YBOCS dimensions in the OCD Collaborative Genetics Study: Symptoms vs. cat- egories. Psychiatry Research, 160(1), 83–93.
واقرأ أيضًا: