ما يجري اليوم في فلسطين وإن كان يَضرِبُ أمثالَ الشَّرفِ في كفاح الشعوب، واسْتِبسَالِها في السَّعي خلف تحرير أَرضِها، وبَذْلِها لأرواحِ بَنِيها طَلَبًا لحقِّها، إلَّا أنه أيضًا يَعكِسُ بشكلٍ واضحٍ تُناقُضًا صَارِخًا بين المواقف والاتجاهات السياسية للأنظمة العربية وبين هَوَى وعَقِيدَة الشعوب تجاه القضية الفلسطينية. فبَيْنَما نَجِد أبناء الوطن العربي هَبُّوا وانْتَفَضُوا جميعُهم دِفاعًا عن قَضِّيَتِهم الخالدة ونُصرَةَ لإخوانهم الفلسطينيِّين بِمَا أُوتُوا من أساليب المُناصَرَة كالتَّروِيج هنا وهناك لِعَدَالِة القَضِيَّة ومَظلُومِيَّة الشعب الفلسطيني، وتَسْلِيط أنظار العالم على وَحْشِيَّة المُعتدِي الصهيوني وتَزيِيفه للحاضِر كمَا اعْتَادَ تزييف التاريخ، وقبل ذلك وبعده الدُّعاءُ الصَّادِقُ لهم، نجد على الجانب الآخر حالَ الأنظمة العربية يَتَأرْجَح بين مُتَبَجِّحٍ يُساوِي بين طَرَفي الصِّراع ويَضَعُهُما في كَفَّةٍ واحدةٍ، وآخرٌ غَارِقٌ في حالةٍ من الرومانسية السَّمِجَة يَدِّعي فيها الحِيَادَ ويطلب من الجميع ضَبْطَ النَّفس وإِعْلاء قِيَمِ التَّسامح والجُنُوح لِسَلامٍ مَزعُوم، وثالثٌ مُتَخَاذِلٌ لا ندري أهو أعمى لا يرى ما يحدث أم أَخرسٌ لا يستطيع الحديث عمَّا يرى. على كُلٍّ، فتقَاعُسُ تلك الأنظمة عن اتِّخاذ مواقف واضحة ومُؤثِّرَة تجاه ما يجري في فلسطين يَجْلِب إلى الأَذهَانِ وبقوَّة قصّة الأَسَد والثِّيران الثلاثة.
يُحكَى أنَّه كان في الغابة يعيش أسدٌ وثلاثة ثِيران (أبيضٌ وأسودٌ وأحمر)، وكان الأسد يريد بشدَّةٍ أن يفتَرِسَ الثِّيران، إلَّا أنَّه كان لا يَجِدُ سَبيلًا إلى ذلك لأن الثيران كانت لا تُفارِقُ بعضها، وبالتأكيد هو لا يستطيع أَكْلَهُم ما دامُوا مُجتَمِعِين.
وَجَدَ الأسد أنه لن يستطيع تحقيق غايَتِه من الثِّيران إلَّا إذا فرَّق وحدَتَهُم وبَذَرَ بينهم بذور الشِّقَاق والأنانِيَّة والمَصْلَحَة الفردية، فاجتمع الأسد بالثَّورين الأسود والأحمر دون الأبيض، وقال لهما بِلِسَان النَّاصِح الحريص "إنَّ الثَّور الأبيض لَونُه ناصِعٌ يَلفِتَ أنظار الصيُّادين، وبالتالي فهو يُعَرِّضُنا للخطر، فَمَا رَأيُكُما أن تَترُكانِي آكُلَهُ دون أن تُدافِعَا عنه حتى نأمَنَ جميعًا من سِهَام الصَّيَّادين؟". وبعد تفكيرٍ من الثَّورين قرَّرَا أن يُترُكَا الأسد يأكُل أخاهُم لِظَنِّهم أنه بتَخَلُّصِهِما منه سيكونان في أمانٍ أكثر.
أَفْلَحَت خُطَّة الأسد، غير أنّه كان طمَّاعًا فقَرَّر أن يُنَفِّذ المرحلة الثانية حيث اجتمع بالثِّور الأحمر مُنفَرِدًا، وقال له "إن الثَّور الأسود يأكل كثيرًا ويشارِكُنا خَيْرَات الغابة، فما رأيك أن تتركني آكُله دون أن تَقِفَ بجانبه لِنَنْفَرِد أنا وأنت بالغابة وَحدَنا، وفي النهاية أنا وأنت لَونُنا أحمرٌ وبيننا تَشَابُهٌ كبير". وبعد تفكيرٍ قرَّر الثّور الأحمر أن يترك الأسد يفترسُ أَخاهُ ظَنًّا منه أنه يُشَكِّلُ عِبأً عليه، وطَمَعًا في خَيْر الغابة.
مرَّت الأيام، ثم جاع الأسد مجدَّدًا، فهو لا يَشْبَعُ أبدًا. وحينها وجد الأسد الأمر سَهلًا أن يَنَقَضَّ على الثَّور الأحمر ويَفْتَرِسَه، فهو آلان وحيدٌ ضعيفٌ لا يقدر أن يَدْفَع أَذَى الأسد بمُفرَدِه. وبالفعل ذهب الأسد ليُكمِلَ خطَّتَه. ولَمَّا أدرك الثَّور الأحمر نِيَّة الأسد تجاهه قال له "ألم نَكُن اتفقنا أن نعيش معًا في أمانٍ وسلامٍ، ونَنْعَم بخيرات الغابة سوِيًّا؟!" فأجابه الأسد ضاحكًا ضحكةً خبيثةً: "بالطبع لا يا أيُّها الأَبْلُه، بل كان يَصْعُب عليَّ افْتِرَاسُكم مَعًا وأنتم مُجتَمِعين، ففَرَّقْت بينكم لِآكُلَ كُلَّ واحدٍ منكم على حِدَة". حينها أَدْرَك الثور الأحمر بعد فَوَاتِ الأوَان أنَّ هذه لحظة هَلاكِهِ الحتمِيَّة بِمَا فرَّط أوّل الأمر في الدفاع عن أَخَوَيْه. حينها قال الثّور الأحمر "أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثَّور الأبيض".
أخشى أن بلَاهَةَ الأنظمة العربية السياسية أَعْمَت أعينهم عن مَطامِع العدوّ التَّوَسُّعِيَّة التي لن تنتهي بإخْضَاع فلسطين _لا قدَّر الله ذلك_، وإنَّما ستَطَالُهُم جميعًا واحدًا تِلوَ الآخر. أخشى أنهم آمَنوا فعلًا أنَّ تَطْبِيعَهُم مع المُعتَدِي المُحتَلّ سيَضْمَن لهم العيش بجواره في سلام، واقْتِسَام الخيرات والتعاون الاقتصادي والسياسي معه. أخشى أن الكيان الصهيوني قد نجح في إقْنَاعِهِم أن فلسطين قضيَّة خاسِرَة، وأن الدِّفاع عنها عِبءٌ عليهم، وأنَّ الحرب حربَها وَحْدَها. وأخشى أكثر من ذلك أن نَجِد سوريا أو الأردن أو لبنان أو مصر في يومٍ ما يقولون "أُكِلنَا يوم أُكِلَت فلسطين".
مع كامل احترامي للأسود إذ شبَّهْت بهم الصَّهايِنَة الخنازير، وكامل احترامي للثِّيران إذ شبَّهت بهم الأنظمة العربية المُتَخاذِلَة.
واقرأ أيضًا:
غزة تدخل التاريخ من حيث يخرجون / حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس