لا يمكن للمعرفة أن تنهض، ولا للعلم أن ينمو في مجتمع لا يكترث للأطر والسياقات والكيانات والسُلط المجتمعية، وما تحمله من أفكار وأنساق ورؤى تجاه العلم وحركته المثالية والواقعية في المجتمع والتاريخ. وإذا سُلم لنا بهذا، فإن ثمة ضرورة للاعتناء بحقل علم اجتماع المعرفة (سوسيولوجيا المعرفة)، وهو أحد حقول نظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا. سأضرب مثالاً واحداً فقط للبرهنة على ذلك طلباً للاختصار، وعبره سنتبين مدى دقة صوغنا لتلك النتيجة الخطيرة التي حقناها عنوان هذا النص.
هذا المثال ثابت في تاريخ المعرفة (وهو حقل آخر للإبستمولوجيا)، ومعروف أيضاً لدى المتخصصين، وهو مُستخلَص من مجتمع معرفي عريق، ليكون الاستشهادُ في سياق معرفي ثري، يحتمل أن نؤسس عليه نتيجة ثقيلة كهذه، وهو المجتمع اليوناني. يعتقد اليونانيون أن تراث الشرق هو ضرب من “التجربة” Empeiria، بخلاف تراث اليونان إذ هو “معرفة” [1] Episteme، وهذا ما دفعهم إلى: الفصل الحاد، والتمييز الخشن، والعزل الفظ بين: النظر والعمل، فيقال هذا “صاحب نظر” لمن يشتغل بالمعرفة النطرية، وذاك “صاحب عمل” لمن يتخصص في المعرفة التطبيقية أي ترجمة المعارف إلى أعمال أو تطبيق المنهج التجريبي للوصول إلى المعارف والنتائج.
والخطورة نبعتْ من تشكّل أنساق مجتمعية يونانية تحتقر التجرِبة لأنها عمل اليد البائسة، بخلاف المعرفة حيث ينهض بها العقل المزكّى، مما جعلهم يترفعون عن التجربة بوصفها منهجاً ناجعاً يسهم في الوصول إلى الاكتشافات العلمية والاختراقات المعرفية، جاعلين العمل والتجارب من شأن العبيد فقط ضمن طبقتيهم الصلفة، وأما السادة أو النبلاء فلا يشتغلون بغير النظر والفكر، أي المنهج الاستنتاجي العقلي الصرف، فهم يطبخون القضايا والظواهر في رؤوسهم، بعيداً عن المنهج الاستقرائي أو التجربة.
قد يظن البعض أن المنهج التجريبي كان مجهولاً تماماً عند الإغريق، وهذا غير صحيح، إذ إنهم كانوا على معرفة بأبجديات المنهج التجريبي على أقل تقدير، ومن الشواهد الدالة على ذلك، أن الفيلسوف الكبير أرسطو (الذي يمكن تصنيفه بأنه من الفلاسفة العلماء، حيث كان فيسلوفاً بالدرجة الأولى وعالماً بالدرجة الثانية)، كان على دراية جيدة بعلم الأحياء، وفي اشتغالاته العلمية في هذا الحقل مارس المنهج الاستقرائي حيث وصف 500 نوع من الحيوان، وشرّح بنفسه أكثر من 5 أنواع منها، مطبقاً بعض جوانب المنهج التجريبي عليها [2]. ومع كل ذلك، مات الاستقراءُ وضمُر التجريبُ، لمَ ؟ بسبب رعونة النسق المجتمعي تجاه هذا المنهج العلمي الراقي، وهو ما يجعلنا نقرر بإطمئنان بأن: ما قد تحييه الابستمولوجيا قد تميته السوسيولوجيا.
ثمة استثناء واحد في سياق التجريب اليوناني، حيث طبق اليونانيون بعض أبعاد التجربة في مجال الطب، من جراء الإيمان بـأن الجسد له كرامة خاصة، وهذا ما جعلهم يتنزّلون فيشتغل بعض السادة في مجال الطب، ولم ينسحب ذلك على تطبيق المنهج التجريبي في الفلك والطبيعيات، للسبب الذي ذكرناه آنفاً، ولهذا يصف بيكون علم اليونان ببراعة ودقة فائقتين بأنه “عذراء لم تُنجب“[3].
وحينما تسنّم الإسلامُ قيادة الفكر الإنساني إبان الحضارة العربية الإسلامية، وطّد المنهجَ التجريبي وطوّره وأفاد منه في مختلف الحقول المعرفية، ووضع منظومة مفاهيمية وإجرائية دقيقة، وسعى لنقد المنطق الأرسطي العقيم، وقام بعقد صداقة بين البراهين وتدعيم التحاشد بين المناهج والحقول المعرفية[4]، وذلك لكون الأنساق المجتمعية التي شكّلها الإسلامُ تقوم على حقيقة الإعلاء من شأن النظر والعمل معاً (الأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم)، فكلاهما وسيلة لغاية أكبر، وهي تحقيق المصالح للمجتمع ودرء المفاسد عنه، ما أمكن، أي عبر استخدام كافة المناهج العلمية الاستنتاجية والاستقرائية، فضلاً عن منهج الاستخبار في العلوم الدينية، حيث إنها تقوم على استحضار الهدايات والمعارف من النصوص الدينية (القرآن الكريم والسنة النبوية)، الأمر الذي أدى إلى حدوث ثورة علمية مذهلة في فترة زمنية قياسية، وذلك في جميع العلوم: العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية، والعلوم الدينية، فضلاً عن علوم الآلة كعلم اللغة وأصول التفسير وأصول الفقه وأصول الحديث.
أعتقد جازماً أننا بأمس الحاجة إلى تلمس الأدواء التي أصابت أنساقنا المعرفية في مجتمعنا العربي المسلم المعاصر، عبر تحليلات سوسيولوجية معمقة للمعرفة، والسعي لبلورة إجابات ناجعة لأسئلة محورية، ومنها ما يلي:
لماذا فشلتْ الروحُ العلمية في أن تجد لها جسداً مجتمعياً صالحاً حاوياً منمياً لها ؟
كيف يسعنا تبوئة العلم ورجاله مكانة عالية في المجتمع ودعمهم بما يحتاجونه من جوانب مادية ومعنوية؟
ماذا عن الممارسات المعرفية الزائفة، والتزين بالمناهج الشكلانية، والألقاب الكاذبة، والسرقات العلمية الفاضحة، في المؤسسات والسياقات المعرفية المختلفة؟ وما آثارها؟ وكيف نعالجها؟
كيف يمكن حماية العلم من السلط المجتمعية والسياسية والدينية والاقتصادية، بحيث لا تمارس اختطافاً أو تشويهاً للمعرفة لضمان تدفق مصالحها؟
ماذا عن الجماعات العلمية أو المعرفية، كيف تتشكل، وكيف تنمو وكيف تتشظى ولماذا تتشوه وتنحرف في أداء أعمالها في بعض السياقات المعرفية؟
كل ذلك يقودني إلى أن أختم هذا النص المختصر بباقة من التوصيات العملية:
الدعوة إلى ترسيخ الأعمال البحثية الرصينة في مجال علم اجتماع المعرفة ودعم الحركة البحثية في هذا المجال.
تشجيع تخصص بعض النابهين من طلبتنا في هذا الحقل الرفيع بطرق ملائمة.
تنظيم مؤتمرات وندوات علمية متخصصة وذات نفس تراكمي.
السعي لتأسيس مجلات علمية محكمة، وتأليف كتب رصينة وترجمة النصوص التي تستحق في هذا الباب.
تخصيص مسارات معرفية متخصصة في هذا المجال في أقسام علم الاجتماع وبقية الأقسام ذات الصلة.
هوامش:
[1] صلاح قنصوة، فلسفة العلم، بيروت: التنوير، 2008، ص 102-107.
[2] السابق، ص 107.
[3] السابق، ص 110.
[4] عبدالله البريدي، ابن تيمية فيلسوف الفطرة – نحو كبسلة الفيسلوف، الدمام: دار أثر، 2021، ص 89.
عبد الله البريدي
10/09/2021
واقرأ أيضًا:
يا أطباء العالم تفحَّصوا أنفسَكم! / الإنسانُ يُقرُّ سلبياتِه بالجملة ويُنكرها بالتقسيط !