الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity 3-3
قدمنا بخمس مقالات لهذا الموضوع عن عَرْضٍ من عروض Presentations اضطراب الوسواس القهري (و.ت.غ.ق ثم و.ش.ت.ق ثم و.ل.ت.ق ) وأخيرا و.ذ.ت.ق أو وسواس الذنب التعمق القهري، قدمنا بمقالين عن الشعور بالذنب ودوره في الوسواس القهري وثلاث مقالات عن التعمق المرضي كمفهوم وعلاقته الوطيدة بمرضى الوسواس القهري والشخصية الوسواسية، وقد برز مفهوم التعمق التنطع بين المسلمين مبكرا على لسان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بمعنى التعمق والتنطع والتشدد والغلو في أكثر من حديث شريف منها (إن أقواما يتعمقون في الدين، يمرقون كما يمرق السهم من الرمية) ومنها (هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون)، لكن في المسيحية جاءت أولى الإشارات الموثقة عن التعمق الديني Scrupulosity في خطبة قدمها الأسقف جون مور في عام 1691 ووصف الأسقف هذا بأنه "حزن ديني"... ولهذا السبب ربما كان طبيعيا أن أكتب في ما كتبت عن التعمق أني ظننته مفهوما يخص الفقه الإسلامي ويرتبط بكثرة تفاصيل وأحكام العبادات اليومية المتكررة، وبالضمير الحي في تفاعله مع حياة المسلم اليومية، لكنني قرأت بعدها وعرفت أن المفهوم مشترك في كل الديانات... ثم رأيت بعد ذلك عددا من المرضى المسيحيين وقد جاءوا بوساوس تعمقية أي و.ذ.ت.ق... فعرفت أني أحتاج أن أتعمق أكثر في وساوس غير المسلمين الدينية، وعرفت أن الجوهر الواحد والمفاهيم الأساسية للخوف من الإله والخوف من الذنب مشتركة مثلما تمثيل الأمور الدينية في المخ مشترك في بنى الفص الصدغي والجزيرة واتباطاتهما العصبية.
ويتميز هذا العرض للوسواس القهري أي و.ذ.ت.ق بأعراض وساوس وقهور دينية أو أخلاقية عقدية أو جنسية أو عدوانية مع تطرف في تقييمها.... وفي غمار شعور مرهف بالخوف من الذنب أو الخطأ أو التقصير يلجأ المريض إلى التعمق بفعل واجبات أو نوافل دينية بإفراط أو أفعال خيرية ويفرط في ذلك، أو يستفتي ويكرر الاستفتاء في حكم التوافه من الأحداث غالبا عن الماضي أو الطفولة، أو يتحاشى أنشطة مهمة ...إلخ ليناجز مشاعر الذنب الديني أو الأخلاقي التي تستفزها الوسواس المستمرة)... وهي حالة مرضية يعرفها الأطباء النفسانيون ويصنفونها وسواس قهري ويحاولون علاجها كأي حالة وسواس قهري أو يصنفونها اضطراب شخصية وسواسية وغالبا ما يخفقون إلا في إعطاء المريض بعض التثبيط الانفعالي الذي تنجزه عقاقير الم.ا.س.ا...
واقعيا هذا هو الحال الذي تكرر في أغلب أنحاء العالم لهؤلاء المرضى ربما لأن البحث العلمي في القرن العشرين اتسم بالنظرة المادية العلمانية للظواهر البشرية وأعراض الأمراض واحدة من الظواهر البشرية، لذلك (وربما لأسباب ذكرتها سابقا في مقالين عن الدين والعلاج النفسي (1-2)) لم يكن مستغربا أن يُنظر في كل أنحاء العالم إلى أعراض الوسواس القهري الدينية بعيون تحاول إفراغها من مضمونها على غرار أن الوضوء غسيل ... والأفكار الكفرية مزعجة كأي أفكار مزعجة والشعور بالذنب هو مسؤولية متضخمة....إلخ. ... وهكذا كأنه كان من بين شروط أن تكون علميا أن تجرد الأشياء من كل ما هو مجرد فيها لتصفها كما توصف الأشياء العينية... هذا فعلا حدث ... وكان أحد أسباب تأخر البحث في أعراض الوسواس القهري الدينية بشكل عام من قبل الأطباء النفسانيين في العالم الغربي بشكل خاص وغيره بشكل عام، بالتالي فإنه... رغم قدم هذا النوع من المرضى إلا أنهم ظلموا كثيرا بعدم الالتفات إلى خصوصية حالاتهم لاسيما المرضى من المقيمين في دول مسيحية.... حيث لم يكن الطبيب النفساني قادرا على مساعدتهم إلا بالعقاقير، ومن المبشر أن تطور التواصل الذي واكب أزمة كوفيد-19 مكن نسبا كبيرة من هؤلاء من الحصول على العلاج من خلال من يشاركهم نفس الديانة من المختصين عبر الإنترنت.
من الأسئلة المهمة خاصة للمبتدئين أو قليلي المعرفة بالممارسات الدينية الطبيعية لمريض معين أن نتعلم كيف تفرق أعراض و.ذ.ت.ق أي الممارسات الدينية التعمقية من الممارسات الدينية العادية ؟ وقد اقترح اقترح الطبيب النفساني ديفيد جرينبيرج (Greenberg, 1984) خمسة مبادئ لفهم الفرق بين الممارسات الدينية التعمقية وتلك "العادية" أو "المتوسطة":
أولاً ، غالبًا ما تجد المتعمق ذي منظور تركيز سلوكي ضيق إلى حد كبير ففي حين يتفاقم حرص المتعمق بالالتزام في موضوع أو مجال بعينه بينما يحرص المتدينون على الالتزام قدر استطاعتهم في كل المجالات، وحتى على المستوى الشخصي دون مقارنة بآخرين يظهر المنظور السلوكي الضيق مثلا حين يبرر المتعمق القهري في تطهير (كل شيء) من الجراثيم (المحتملة) ما يفعله من طقوس طويلة لتطهير يديه بأنه يخشى أن يكون نشر التلوث للآخرين ذنبا....، وينسى أنه يشاركهم مثلا الطعام والشراب وهي احتمالات انتشار أكبر أي كأن قهور الغسيل والتطهير التعمقية فقط هي رؤيته لكيف يتعامل مع كونه يوسوس أنه قد يؤذي أحدا فيرتكب ذنبا.. (وهناك نماذج عديدة لمريضات وسواس النجاسة من نوع و.ذ.ت.ق ... كن يقضين الساعات في تحاشي وتطهير كل ما يمكن أن يؤثر على طهارتها للصلاة ! .... وتنسى أنها تاركة بيتها مهملا متسخا وتنسى البنت/الولد الصغير/ة في حفاضته حتى يكاد ينزل منها بول الصغير/ة أو إسهاله ... وهي مصادر نجاسة يمكن بسهولة تجنب حدوثها وعواقبه المؤلمة فقط بالاطمئنان كل فترة على جفاف الحفاضة .... لكن في الأساس تتحاشى لمس حفاضة بنتها أو ابنها من الخارج إلا لضرورة ! ... لأن العاقبة تكون نصف ساعة على الأقل من التنظيف والتطهير الذي إذا تكرر عدة مرات يوميا يؤذيها ... وهي تتحاشاه كما تتحاشى النجاسة...... وبذلك تكون محصورة الكفاح في منظور ضيق للتعمق في تحاشي النجاسة الشخصية لأنها ستقف بين يدي الله تصلي ...إلخ.... بينما التفكير الراجح أن عليها تنظيف أطفالها أولا بأول ما استطاعت، وأن إهمالهم ذنب صريح الوضوح بالمنطق)............. هذا بالتأكيد منظور ضيق في تعامل المسلم الطبيعي مع مصادر النجاسة.
ثانيًا، يهتم المتسمون بالتعمق عادةً بأمور قليلة الأهمية للآخرين من نفس مجتمعهم الديني.... وينطبق هذا على المتعمقين في الأمور الشكلية وغير الأساسية من الدين، ونجد هنا أمثلة كثيرة من الأسئلة الفقهية التافهة أو غير المناسبة أو غير معقولة الحدوث لكنها تسير حياة المريض من صاحب عمة لآخر ومن مقدم فتوى لآخر ... وهكذا تدور حياته شهورا أو سنين، كما نجد أمثلة من أسئلة (على لسان المتعمق وغير من الموسوسين) الأصل فيها إن سئلت واضحة أن يستغرب المسؤول السؤال لسبب بسيط هو أن السائل أولى بمعرفتها من المسؤول ... وهذا الاستغراب أول ما يحدث من المسؤولين ... ثم يردون مطمئنين ... ثم يتكرر طلب الطمأنة من جانب مريض الوسواس ويتكرر حتى يتحول الاستغراب إلى إشفاق وبعدها يلجأ هو إلى طلبات الطمأنة المستترة ... وسبب السؤال (الذي لا يسأله أحد) هنا هو ضعفه هو في التواصل مع ما في داخله لاكتمال معرفته بما فيها فهو يعجز عن التواصل الكامل مع دواخله أو حالاته الداخلية، وليس هذا خاصا بمرضى و.ذ.ت.ق وإنما بكثير وغالبا كل الموسوسين كما بينا في ط.ب.ح.د .... لكن المشكلة في مريض و.ذ.ت.ق تأخذ بعدا آخر لأن الدواخل مسألة تتعلق بالقصد والنية والإيمان مثلما تتعلق بالحب والخير والعدل .... أي أن المواضيع التي يوسوس فيها صاحب الحس المرهف والحساس للذنب أي أشياؤه اليومية التي تشغله معرفيا وسلوكيا تحتاج إلى تواصل سلس مع الدواخل ليحدد موقفه الديني/الأخلاقي بسهولة ! وهو كأغلب الموسوسين عاجز عن ذلك.
ثالثًا، تميل الوساوس أو القهور الدينية للمتعمق (و.ذ.ت.ق) إلى التعارض مع قدرته على أداء واجباته الدينية بالشكل النموذجي..... (فمثلا تجد المتعمقين من الموسوسين المسلمين بعضهم يتأخر عن الصلاة في المسجد بسبب وساوس وقهور التطهر أو الوضوء، وبعضهم يجمع الصلاة، وبعضهم يتركها بالكلية، ناهيك عن اضطراب حياتهم وضعف قيامهم بواجباتهم فيها).
رابعًا، لدى المتعمقين بعض الفهم بأن أفعالهم المرغوبة غير عادية لأنهم ككل مرضى الوسواس غالبًا ما يقاومون أفعالهم القهرية، في حين أن الأشخاص الذين ينخرطون في السلوكيات الدينية المتوسطة عادة ما يفتقرون إلى الإحساس المؤلم بأن لديهم مشكلة.(مثلا، تعامل الجميع مع عمليات الإخراج بشكل عادي والمريض نفسه عاش مثلهم قبل المرض لكنه مع ذلك الإدراك قد يستسلم للإفراط في الاستكمال والاستنجاء أو قد يحاول مقاومة الرغبة في الإفراط... لا أحد من المسلمين (أي من نفس الدين) يمر بمثل هذه الخبرات ضمن السلوك الديني العادي).
خامسًا، ينبه جرينبيرج إلى أن الفرد ذي الميول التعمقية حين يعرف في مجال الممارسة الدينية، فإنه دائمًا ما تكون أعراض وسواس قهري أخرى خارج هذا المجال الديني في نفس الفرد وقد يسهل ذلك التعرف عليه. (ومن جانبي أقول أن هذا ربما غير صحيح دائما فهناك مرضى و.ذ.ت.ق لا تظهر عليهم أعراض تخرج عن بعد الخوف من الذنب التعمق، وقد تأكدت من هذا بالقياس، هناك مرضى تبقى وساوسهم وقهورهم دينية فقط كذلك وبعضهم تابعته أكثر من 20 سنة). لكن في نفس الوقت من المتواتر أن يلتفت المسلمون في المسجد إلى من يطيل في الوضوء ربما حتى تفوته الصلاة في الجماعة أو من يكرر الصلاة أو يكرر السؤال، لكن كذلك ليست وساوس أو قهور هؤلاء تعمقية أي ليسوا بالضرورة مرضى و.ذ.ت.ق.
وأخيرا رغم أن مبادئ جرينبيرج الخمسة لا توضح مجمل الكيفية التي يختلف بها المتعمقون عن الأعضاء العاديين في مجتمعهم الديني، إلا أنها مفيدة في تقييم الحالة الطبيعية النسبية لأي سلوك ديني، وبالتالي فهي مفيدة في تقييم المشكلات المحددة للمتعمقين (Cobb, 2014).. لكن من المهم هنا أن نكرر نقطة هامة هي أن الوساوس الدينية ليست كلها وساوس تعمقية... خاصة وأن وجود تاريخ مرضي لوساوس وقهور دينية عابرة (سواء تعلقت بمخافة الذنب أو أداء العبادة) في الطفولة أو المراهقة ظاهرة غالبة الحدوث في غالبية مرضى الوسواس القهري بغض النظر عن العرض الحالي للوسواس القهري والذي قد يكون و.ت.غ.ق، أو و.ش.ت.ق، أو و.ل.ت.ق أي ليس عرْض وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق.
المراجع :
1- Greenberg, D, (1984). “Are Religious Compulsions Religious or Compulsive?” American Journal of Psychotherapy 38 (1984): 524–32.
2- Cobb, KF. (2014) "Understanding scrupulosity: psychopathological and Catholic perspectives." MA (Master of Arts) thesis, University of Iowa, 2014. http://ir.uiowa.edu/etd/4595.
ويتبع>>>>> : وسواس الذنب التعمق القهري و.ذ.ت.ق2
واقرأ أيضًا:
الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2 / الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity 3-3