في لقائه الأخير مع الإعلامي عمرو أديب كشف محمد صلاح عن أسرار كثيرة ومهمة تخص حفاظه على عبقريته ولياقته النفسية لكي يحقق أعلى درجات الإنجاز الكروية، ويحتقظ بتوازنه النفسي وتألقه الإنساني، فمثلا ذكر أنه يقوم بعمل جلسات تأمل واسترخاء بشكل يومي لكي يحتفظ بحالة من الهدوء والسلام الداخلي على الرغم من ظروف حياته الضاغطة.
وقال "أنا باعمل Meditation كتير، وباحاول أبعد عن السوشيال ميديا، وماباحاولش أعرف الناس بيقولوا عليا إيه". وذكر أن له روتين يومي ثابت لا يحب تغييره" أول ما أصحى أقعد وأربع رجلي وأغمض عينيا وأركز في نفسي، خمسه بره وخمسه جوه (يقصد الزفير والشهيق) لمدة خمس دقائق". وقال أيضا "بانزل الملعب برجلي اليمين وأخرج برجلي اليمين"، وهو نوع من التفاؤل بالتيمن المحمود دينيا، ونوع من الثبات في الطقوس يلطف من تقلبات الحياة وتحدياتها.
كما ذكر صلاح أنه يقوم بتخيل المباريات التي يلعبها والأهداف التي يحرزها لعدة ليال قبل أن يقوم بها في الواقع، وهذا عمل عبقري بكل المقاييس إذ يقوم بعمل تدريب مسبق للمخ لكي يطوعه لتحقيق أهدافه في الواقع، وهذا يعكس حالة من التركيز الشديد والاهتمام الخارق بما يعمله، فهو يعيش مهنته التي أحبها حتى في أوقات خلوته، ويقوم بخيال استباقي، ويكيف مخه وجهازه العصبي والعضلي لمتطلبات المواقف المختلفة المتوقعة في المباراة ويصحح أي أخطاء محتملة قبل دخوله فيها، ويتخيل إحراز الأهداف وفرحته وفرحة الجمهور بذلك فيشحن نفسه بشحنة هائلة من الفرح تهيؤه لانتصارات متتالية بلا توقف.
وهو هنا أشبه بالطالب الذي يتدرب كثيرا على حل الامتحانات طوال السنة حتى إذا دخل الامتحان النهائي كان بالنسبة له سهلا ميسرا وحقق أعلى الدرجات. ولا يفعل هذا إلا شخص يحب ما يفعله حبا جارفا يجعله يعيشه في الخيال والواقع معا، ويستمتع بذلك في الحالتين. وهو كما قال "كل تفكيري الفرقة تكسب وازاي أجيب اجوان"، وهي حالة من التركيز الشديد في الهدف المنشود فلا تتشتت قواه الذهنية أو الجسدية في اتجاهات عديدة، وذكر أنه لا يشغل باله كثيرا برونالدو أو ميسي حين يكون أحدهما في الفرقة المنافسة له في الملعب، وهذا أمر غاية في الذكاء إذ لو شغل نفسه بخصمه القوي ربما يفت هذا في عضده، أو يضعف همته، أو يتشتت في مقارنات ربما تؤثر في ثباته.
وذكر أنه متسامح مع المدرب مورينيو (الذي أهمله في الملعب عام كامل، وتعامل معه بعنصرية، ولم يعرف قيمته وكاد أن يدفن موهبته لولا أن صلاح أفلت من يده بانتقاله لنادي آخر)، وأنه يقابله ويسلم عليه ويتحدث إليه ولا يحمل له أي ضغينة، وهذه الحالة من التسامح تجعله يتخفف من أي مشاعر غضب أو حقد أو ضغينة أو كراهية تضعف قدرته على الانطلاق اللامحدود في مسيرة نجاحه.
وحين سئل عن رأيه في عيوب الدوري الإنجليزي رد قائلا : "مابفكرش في عيوب الدوري الإنجليزي ولا بفكر في عيوب غيره .. دائما بافكر في الاتجاه الإيجابي"، وهذه صفة العباقرة المتميزين الذين يندفعون بتوجه إيجابي نحو تحقيق الأهداف العظيمة ولا يشغلوا أنفسهم بالسلبيات أو العيوب، وهذا ليحافظوا على طاقتهم من الاستنزاف السلبي.
وهو يتميز بصورة إيجابية نحو الذات وذلك يتضح في قوله حين سئل: "هل يرى نفسه أحسن لاعب في العالم ؟": "أنا في عقلي إني أحسن لاعب في العالم .. أنا كل حاجة بابقى عايزها بوصل لها .. هتيجي هتيجي في وقت ما .. أنا مش قلقان"، وهذه الثقة في تحقق الأهداف تحميه من قلق المستقبل الذي يعاني منه الكثيرون، وربما هذا يفسر حالة الرضا والسعادة التي تظهر على وجهه دائما وتعكسها ابتسامته التي تملأ وجهه.
وحين سأله عمرو أديب: "الشهرة غيرت فيك إيه ؟" .. رد عليه قائلا : "خلتني أهدا بقيت هادي أكتر" فعاوده عمرو باستيضاح أكثر : "الشهرة والفلوس الكتير بتعمل للناس صدمات .. حصل لك كده ؟ " ... رد عليه في هدوئه المعتاد: "هي خلتني صريح مع نفسي أكتر .. ما بقتش محتاج أثبت حاجه لحد .. أنا باثبت حاجة لنفسي" . ونستطيع قراءة هذه التعبيرات من حيث أن الشهرة طمأنته على ذاته فشعر بالهدوء، ولم يعد لديه قلق إثبات الذات أو الجدارة، كما أنه يشعر بالطمأنينة والسلام والهدوء لأن شهرته شهرة حب من كل الناس، إذ ما يقوم بها يجلب الحب والإعجاب دائما، وهو محبوب في كل العالم حتى من المنافسين له كرويا، وهو لايفعل شيئا يغضب منه أحد، وهو محبوب على مستوى تميزه الكروي الفائق، ومحبوب لتميزه الخلقي الرائع، ومحبوب لكفاحه وعصاميته، ومحبوب لهيئته وابتسامته وكاريزمته، ومحبوب لتواضعه، ومحبوب لتدينه، فكيف لشخص مثل هذا أن يقلق؟ .
وحين سئل عن علاقته بالشراب (بمعنى الكحوليات) خاصة وأنها منتشرة بشدة في المجتمع الغربي الذي يعيش فيه، كانت إجابته غاية في الذكاء، إذ لم يدخل في مسألة حرمتها دينيا، ولكن قال "عمر نفسي ما راحت إني أشرب حاجة .. مش عايز أجرب"، وهذه الإجابة الذكية أعفته من أن يدخل في سجال ديني ومجتمعي ربما يجلب له الكثير من المتاعب.
وأيضا حين وجه له المحاور سؤالا ملغما : "مين لعيب كل شويه بتفتكره ؟"، وكان المتوقع أن يذكر اللاعب "أبو تريكه"، فهو فعلا ملهم وقدوة له في سنوات بدايته وصعوده، وقد ذكر ذلك من قبل في أحاديث كثيرة وذكر فضله عليه وتوجيهه إياه، ولكنه بذكائه الفطري أدرك أن هذه الإجابة في هذه الظروق سوف تجلب عليه الكثير من المتاعب لاعتبارات سياسية لا يريد التورط فيها، لذلك رد بذكاء شديد : "دايما أسأل أسئلة كتير للعيبه اللي قبلي واتعلم منهم .. وحتى أشوف اللي فشلوا فشلوا ليه علشان اتجنب الفشل".
وحين سئل عن علاقته بالمعجبات رد بدلوماسية قديرة : "أنا طبعي هادي .. طول مانا بعيد عن الناس في هدوء وسلام .. أنا بيتوتي قوي .. بمشي من البيت الساعة 12 الضهر واقعد في النادي للساعة 8 مساءا مابين تدريب وجيم .. ماعنديش حرية زايدة إني أخرج .. بحاول أبقى في جنب شوية" .
وكان السؤال الأخير : إيه اللي بيقلقك في الحياة؟ ... فرد والابتسامة الهادئة الصافية الحقيقية تملأ وجهه المنير (وكأنه فرغ لتوه من الوضوء والصلاة) : "ما اعرفش ... حياتي تمام .. الحمد لله" .
وهكذا نجح محمد صلاح ليس فقط أن ينجو من الكثير من الأسئلة الشائكة والملغومة من محاور شديد الذكاء والدهاء، بل نجح في أن يرسم صورة حقيقية أكثر بهاءا وجمالا وإلهاما للصغار والكبار في كل أنحاء العالم ويثبت بحق أنه خير سفير لمصر وللعرب وللمسلمين في كل أنحاء العالم، وأنه ليس مجرد لاعب كرة متفرد، ولكنه أيقونة إنسانية، ومنظومة خلقية تبني شيئا جميلا في هذا العالم المضطرب.
واقرأ أيضاً:
المخدرات فالضلالات فالقتل البشع / سيكولوجية الصدمة والمتفرج والصورة والأنا مالي