دعونا نتخيل أن العالَم (الطبيعة) عشوائي أو مزاجي، أي أنه كل يوم يتجلى لنا بطريقة مختلفة. مثلاً، لنفترض أن الطقس يختلف بطريقة فوضوية، فلا يرتبط بنمط لحظي ولا يومي ولا إسبوعي ولا شهري ولا سنوي، والشمس لا تشرق ولا تغرب وفق نمط محدد، وإنما وفق مزاجية فلكية مبهمة، فنعيش نهاراً طويلاً وليلاً طويلاً غير منضبطين، وعلى هذا فقِس بقية الأشياء الحادثة في العالَم. هل تستقيم حينذاك حياتُنا في عالَم كهذا؟ هل يمكن لنا أن نكتشف هذا العالَم وأسرارَه وقوانينه؟
لا تستقيم حياتنا ولا يتأسس العلم إطلاقاً. وهنا ندرك أهمية التوحيد في المجال العلمي فهو تأسيسي للعلم، فالتوحيد يقضي بالإيمان بخالق واحد؛ بخالق وضع خطة محكمة لهذا العالَم لغاية محددة، فهو يسيّره وفق نواميس أو سنن أو قوانين ثابتة، لتكون حياة الناس ممكنة، وليكون العلم ممكناً من جهة ثانية، “فالتوحيد مبدأ يضفي على الكون نظاميته التي تجعل العلم التجريبي ممكناً، وإعمال العقل أمراً واعداً” (يمنى الخولي، نحو منهجية علمية إسلامية، 2017، ص 57).
إذن، يسعنا القول إن المعرفة تتأسس على نوع من الاطراد في الوجود (العالَم)، والاطراد هو الانتظام في حوادث العالم في قالب متكرر معلّل أو مسبّب، فما حدث بالأمس يحدث اليوم والغد بشكل منسق منظم متتابع؛ لعلةٍ أو لسببٍ ما، ولو تعذر هذا الانتظامُ لما كان ثمة إمكانية لقيام العلم من حيث الأصل أو المبدأ، إذ كيف يطارد العلمُ حوادثَ تتخلق كل يوم على نحو متغير. العلم في جوهره هو اقتناص الاطراد في الوجود. والذي يقتنصه العلم إنما هو الاطراد الظاهري (الفينومين) لا الحقيقي (النومين)، أي ما يظهر لنا متجلياً بطريقة يمكن للعلم أن يقبض عليه، وهو في حالة من الثبات أو الانتظام الذي يعول عليه. ومثل هذا الاطراد “الظاهري” في الطبيعة قابل للترجمة إلى قالب رياضي محكم (=رياضيات الجزئي: الإنسان)، وأما الاطراد “الحقيقي” أي الاطراد- في-ذاته، فهو يمثل نوعاً من الرياضيات التي لا يمكن لنا الوصول إليها بحال من الأحوال (=رياضيات المطلق: الله).
وبناء على ما سبق، نضع هذا المبدأ: لا معرفة بدون اطراد، ولا اطراد بدون توحيد. القرآن الكريم يؤسس لهذا المبدأ بطريقة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. دعونا نتأمل شيئاً من ذلك عبر المحاور المختصرة الآتية:
تأسيس الاطراد في العالَم من جهة وجودية (انطولوجية)، ومن ذلك قوله تعالى “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” (الأنبياء: 22). القرآن يطرح هنا دليلاً عقلياً وجودياً صرفاً، حيث يقرر بأن الأرض والسماء لو كان فيهما أكثر من إله لفسدتا، لم؟ لأن كل إله له خطة معينة في العالَم (الطبيعة) وفق حكمة مطلقة وعلم مطلق وإرادة مطلقة وقوة مطلقة، فهل يسوغ إذن أن يكون فيهما أكثر من إله؟! لا يمكن أن يتصور عاقل هذا ألبتة، إذ النتيجة الحتمية إنما هي الفساد والاضطراب التامين في العالَم، مع نشوب الحروب بين الآلهة المتصارعة كما في التصورات الوثنية للأمم الغابرة كالرومان واليونان، حيث نجد بأن المدونة الأسطورية (الميثولوجية) مليئة بأساطير الحروب الطاحنة بين الآلهة المتنافسة على حكم العالم وإنفاذ مشيئتها في هذا المجال أو ذاك. ولا يمكن أن يتصور عاقل أن ثمة اطراداً في العالَم، وهو محكوم من قبل آلهة متشاكسة متحاقدة متعاركة. العقول الوثنية محوطة بالفوضى والاضطراب، وهو ما يفقدها المبدأ التأسيسي المعمق للمعرفة، بخلاف العقل الموحد المسلم، حيث يتأسس على مبدأ التوحيد المفضي للاطراد المؤسس لإمكانية المعرفة من جهة الأسس الوجودية (الإنطولوجية) والأصول المنهاجية (الإبستمولوجية).
بعد التأسيس الوجودي السابق لمبدأ الاطراد في العالَم من زاوية عقلية صرفة (=عقلانية)، يضعنا القرآن أمام دليل عقلي حسي (=تجريبية)، كما في قوله تعالى “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ” (الملك: 3-4). هذه الآية تشغل المكنة الحسية في الإدراك والتفكير، حيث المطالبة بتفعيل البصر بالملاحظة الحسية للسماوات، وما فيها من الأفلاك العظيمة، مع المطالبة بتكرار الملاحظة الحسية مرتين بعد الأولى، لنكون قبالة ثلاث محاولات للتجربة الحسية، فهل ترى أيها الإنسان أي تنافر أو عشوائية أو تصدع أو ثغرة أو خطأ أو عيب أو نقص فيما يراه بصرك؟ الجواب: قطعاً، لا، وهذا ما دفع بالقرآن إلى حسم النتيجة: “يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ“. قد يُقال: لماذا حسم القرآن النتيجة بهذه السرعة؟ فيقال له: هذا التحدي قائم مؤبد، فهاتِ ما عندك من “الفطور”، ويدخل في ذلك سعيك أيها الإنسان في رؤية الفلك البعيد عبر المجاهر الحديثة فهي داخلة في نهاية مطافها في: “ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ”. إنه الاطراد العنيد!
منظورنا الإسلامي في العلم هو منظور شامل، فهو يشمل العلوم الطبيعية كما تحدثنا عنها في السياقات السابقة، والعلوم الإنسانية أيضاً بكل فروعها. ومن ذلك أن القرآن الكريم يؤكد في غيرة آيه وجود الاطراد في حياتنا عبر النواميس والسنن الاجتماعية، ومن ذلك قوله تعالى: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” (الأحزاب : 62 )، وقوله: “سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ” (الإسراء : 77). هذا النوع من الاطراد أو الانتظام النابع من الإيمان بهذا الخالق العظيم هو في عالَم الإنسان المعقد، وهو اطراد “عام” يجعلنا نُعيد الثقة في العلوم الإنسانية وقدرتها على التقاط قدر من الأسرار وبلورة القوانين “الفضفاضة” التي تحرك الإنسانَ لصناعة التاريخ. نحن مُطالبون بفهم التاريخ وفق هذا النوع من الانتظام الديناميكي المرن، لنكون قادرين من ثمَّ على نمنمة التاريخ ليكون أحجاراً منقوشة بألوان ثقافتنا، فنحركها بنور الله وفق سرديتنا الكبرى؛ متوسلين الحكمة والعلم والأدب والفن والجمال، لتحقيق الغايات الكبرى من وجودنا: التوحيد والإحسان والتزكية والعمران. إذا لم نحرك التاريخ، فسنكون أحجاراً، يحركها الآخرُ لتحقيق غاياته وسردياته الكبرى.
قد يقول البعض، كيف يباشر علماءُ العلمَ قائلين بالاطراد مع أنهم ملاحدة؟ هذه سؤال منهجي بامتياز، ويستحق معالجة مفصلة في نص مستقل. باختصار، أقول إن ذلك يؤشر على عدة أمور، ومنها أن هذا الصنف من العلماء يعيش تناقضاً هائلاً، ينعكس على البِنية الوجودية والإبستمولوجية والمنهجية، حيث يشعرون بالاضطراب المعرفي والتوتر النفسي، من جراء انخرام قاعدة التوحيد في عقولهم، فيلجأون إلى تلفيق فرضية ذكاء الطبيعة ونحو ذلك من الفرضيات الداحضة (=الداحضة لنفسها بنفسها)، كما في التعبير القرآني المدهش: “وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ” (الشورى: 16).
وقد يلجأ بعضهم إلى عدم الاعتراف بالاطرد من حيث الأصل، والخلوص من ثمَّ إلى مبدأ الفوضى في الطبيعة، مما ينقض أصل العلم وإمكانيته. وقد يستخدم بعضهم حيلة التجاهل أو التغافل، فيتعاطى مع البحث العلمي بقالب عملي نفعي صرف، غاضَّاً الطرف عن هذه المسألة، لكونها تنغَّص عليه تفكيره وتخلق له قدراً من التشوش والتوتر. وقد يرجع بعضُهم إلى حياض الإيمان، بعد التفكر والمدارسة للمسألة بعمق وصدق. والذي يهمنا هو أن عقل المسلم، هو عقل توحيدي معرفي بامتياز، خِلوٌ من الإشكالات، ومتأهبٌ للقبض على الحقائق “النسبية”، متى استخدم المنهجية العلمية الناجعة بصدق وتؤدة. والله الموفق.
نقلا عن موقع أثارة
واقرأ أيضاً:
الإنسانُ يُقرُّ سلبياتِه بالجملة ويُنكرها بالتقسيط ! / ما تحييه الإبستمولوجيا تميته السوسيولوجيا!