تبيع كِمامة في الشارع لتكون ابنتها طبيية في المشفى. هذه هي الحكاية باختصار، وإليكم التفاصيل. قد يستغرب البعض العنوان، إذ قد يُقال لم خصصتَ المرأة المصرية؟ أليس قلبُ الأم واحداً؟ أليست الأمهات يقدمن التضحيات الكبار لأولادهن؟ لمَ تُحجّر واسعاً، وما دليلك على هذا الزعم أو الادعاء؟ هذه أسئلة مشروعة، وفي محلها. نعم، صحيح، الأمهات يقدمن تضحيات كبيرة مقدرة، بيد أن الأم المصرية من حقها أن تُتوج على عرش التضحية في رأيي. التضحيات المقدمة من الأم المصرية، بالذات الفقيرة، هي تضحيات هائلة مدهشة بحق. عطاء بلا حدود أو منتهي. عطاء بلا تشكٍ أو تأفف. عطاء بلا مِنة أو انتظار مقابل. إنه العطاء المحض.
في أوائل فبراير 2022، وجدتُ امرأة تبيع الكِمامات (المستخدمة لجائحة كورونا) وسط شارع ملوث بعوادم السيارات والأصوات المزعجة. طوفان من البشر، يموج ذهاباً وإياباً. هذه المرأة تقوم بذلك من أجل أن تضمن لابنتها إكمال دراستها في كلية الطب. أمرها عجيب حقاً: تبيع كِمامات من أجل أن تكون ابنتها طبيبة. مَن مِن الأمهات يطيق فعل ذلك يومياً؟ هل تتصور الأم المترفة أو لنقل الأم غير الفقيرة في المجتمعات المعاصرة أن تجلس قرابة عشر ساعات في اليوم لبيع أشياء بسيطة على المارة مع قدر من الاستجداء غير المباشر من أجل تأمين دراسة لابنتها في كلية أو معهد راق؟ ألم تتورط الأم الحديثة في شعارات "دلعي نفسك"، "لا تحرقي نفسك من أجل أولادك"، وما قاربها من الشعارات التي تزيد من منسوب الأنانية والذاتوية، أو تقلل من سقف التضحية والعطاء؟
قابلتُها في شارع من شوارع مدينة نصر في القاهرة. أقعدتَها الحاجةُ على ساخن الأسفلت وخشنه. تفرش سجادة بالية، وتجلس عليها. توفي زوجها قبل قبل عدة سنوات، ومعاشه 3000 آلاف مصري فقط. هي امرأة في الخامسة والخمسين من عمرها، وهي تبدو أسنّ من ذلك، من جراء العمل المضني، وقلة العناية بصحتها وشكلها. لديها ابنتان وولد. الولد متزوج، ولكنه لا يقدم العون لأمه. لمَ؟ لأنه مشغول بقوت أولاده، فهو الآخر مضحٍ لأولاده في الضفة الثانية. وهنا، نصطاد هذه اللقطة المهمة: هذه المرأة قالت لي: الزوجات راهناً لا يدفعن أزواجهن إلى القيام بما يجب لأهله، بل يمارسن ضغوطاً لإيقاف الدعم، ولو كان يسيراً. ثم تقول: "أنا أسامحه. لستُ غاضبة عليه. ربنا يكون في عونه".
هذه السيدة العظيمة، تأتي كل يوم تقريباً وتتخذ مكاناً بارزاً بعض الشيء في الشارع، حتى لو عرّضها ذلك لقدر من المخاطر، حيث تجلس بجانب السيارات المصطفة من جهة وسط الشارع، وليس من جهة جانب الشارع، وفي هذا تعرّضُ لمخاطر الدهس أو الاصطدام بسيارة أو دراجة نارية. من يتحمل مثل هذه المخاطر العالية؟ هي تعمل من الصباح إلى الظهيرة، ثم تذهب إلى الغداء، فلتقط في بيتها أنفاساً من الراحة. تعاود الكر عصراً إلى قرابة الساعة العاشرة مساء، ويتكرر ذلك كل يوم تقريباً. بعد كل هذا الجهد والعناء والتعرض للمخاطر، تكسب يومياً ما بين 80-100 جنيه فقط (5-7 دولار).
هذا توصيف مقتضب. وفي ختام هذا النص الصغير ، أوضح جملة من الأمور:
هذا النص كُتب أساساً لتقديم الإجلال المستحق للأم المصرية الفقيرة، وإبراز الاعتزاز بها، وما تقدمه من دروس ملهمة في التضحية والوعي لبناء جيل متعلم ومنتج. نعم، كُتب لجعلها منصة للاقتداء في زمن بات يجود علينا بأنساق رديئة من تعامل الأمهات مع الأولاد، وبخاصة في سياقات المجتمعات المترفة، المشبوبة بنار الاستهلاك والمتعة والتفاهة والأنانية.
حديثي عن الأم المصرية الفقيرة، لا يعني البتة استبعاد الإعجاب بما يقدمه الأب المصري الفقير، حيث يبيع صحته ويرهن عمره ويؤجل نهمته؛ مصابراً مكافحاً من أجل قوت أولاده ومستقبلهم. هو أيضاً رمز للتضحية النقية العالية، وأحسب أنه ملهم للآباء حول العالم، إذ هو يتحمل ما لا يتحمله أكثر الآباء المترفين والأنانيين. إنه هو الآخر نموذج تربوي فاخر.
لعل هذا النص يفيد في بلورة باقة من الأفكار التي من شأنها تجسيد قصص واقعية للأم المصرية والأب المصري الفقيرين في قوالب متنوعة مناسبة؛ بطريقة تدفع نحو الإفادة من هذه الممارسات الراقية، وإعادة تعبئة خزان التعامل الوالدي مع الأولاد بوقود التضحيات من هذا النوع الباذخ.
تبقى مصر ملهمة في جوانب عديدة، فمن يلتقطها؟
واقرأ أيضاً:
ما تحييه الإبستمولوجيا تميته السوسيولوجيا! / لا معرفة بدون اطراد ولا اطراد بدون توحيد!