ذهبت إلى الإسماعيلية بصحبة زميل دراسة من أهلها المهجرين بعد نكسة 67، وكنا وقتها في مرحلة حرب الاستنزاف ورأيت الدمار المروع للمدينة التي بدت مثل مدينة أشباح، وكنت أعرفها قبل ذلك من أجمل مدن مصر وانتابتني وقتها مشاعر شديدة من الغضب والرغبة في الثأر ممن أحدث كل هذا الدمار في عروس قناة السويس. ثم زرت مدن القناة الثلاث بعد حرب أكتوبر 73 فرأيت دمارا وخرابا أكثر، وعايشت بالتوازي القصف الإسرائيلي لمدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل وقتل الأطفال والعمال الأبرياء، كل هذا كان يزيد شحنة الغضب والكراهية لهذا الكيان الإسرائيلي الدموي والوحشي.
ومرت السنين وتم عقد معاهدة كامب ديفيد وتنادى البعض بالسلام كحل فرضته الظروف الدولية، وحضرت مؤتمرا كبيرا في دار الإفتاء المصرية في السبعينيات من القرن الماضي وكان عنوانه حل الصراع، وحضره عدد كبير من المصريين والعرب والإسرائيليين والغربيين، وكان يناقش مدى إمكانية حل الصراع على المستويات المختلفة: السياسية والعسكرية والاجتماعية والنفسية، وتوقفت وقتها عند النفسية وأبديت في مداخلات مع بعض الإسرائيليين شكوكي حول إمكانية حل الصراع على المستويين الاجتماعي والنفسي نظرا لسلوك إسرائيل العدواني المفرط في الوحشية والذي ترك آثارا في نفوس العرب (الحقيقيين) جراحا ربما تحتاج لأجيال كي تنسى.
ولم يخيب الإسرائيليون ظني فقد كانوا حريصين على إعادة شحن الوجدان العربي والإسلامي بشحنات هائلة من الغضب والرفض والكراهية في اجتياحهم للبنان وارتكاب مذبحة قانا، واجتايحهم لغزة والضفة مرات عديدة باستخدام أقصى درجات العنف والتدمير والقتل والحرق للنساء والأطفال وتهجير السكان والتطهير العرقي وإبداء العنصرية البغيضة والسافرة تجاه كل ماهو عربي أو إسلامي.
والآن ومع العدوان الوحشي على غزة وتدمير معظمها بآلاف الأطنان من القنابل بما يوازي أكثر من قنبلتين ذريتين على مساحة صغيرة يقطنها مليونين وثلث من البشر المحاصرين منذ سنوات، وقتل آلاف الأطفال والنساء بدم بارد، بما جرح الضمير العالمي الذي كان قد تم تخديره بأكاذيب إسرائيل في وسائل الإعلام الموالية للصهيونية. وانتفض ذلك الضمير في صورة مظاهرات هائلة في كل مدن العالم يعلن عن رفضه وكراهيته لعنصرية وعدوانية هذا الكيان الذي يعيد للعالم صورة النازية التي خربت الحياة والنفوس في مساحات كبيرة من العالم. ومما زاد من صناعة الكراهية لهذا الكيان المحتل المغتصب النازي، أن صور الدمار وصور الأطفال الممزقين والمحترقين والقابعين تحت أنقاض القصف تتناقلها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي وتنشرها للعالم كله بصورة مزقت القلوب، وهذا مالم يكن متوفرا في حروب ومذابح أخرى قبل ذلك.
إذن أصبحت إسرائيل تعيد شحن الكراهية (التي ربما تكون قد نسيت أو بهتت لدى أجيال جديدة لم تشهد الحروب الكبرى بين العرب وإسرائيل) لدى أكثر من ثلاثمائة مليون عربي، ومليار وثلث من المسلمين (باستثناء قلة هنا أو هناك ربما يكون لها مصالح شخصية مع إسرائيل)، فكيف لكيان صغير كإسرائيل أن يواجه ويتحمل العيش وسط محيط هائل من الكراهية يمتد في كل ركن من العالم، ويعبر عن سخطه وغضبه تجاه هذا الكيان العنصري المحتل الغاصب الوحشي بأشكل مباشرة أو غير مباشرة . ومن المعلوم بالضرورة أن التطرف الديني الإسرئيلي الذي يمثل وقود هذه العنصرية والوحشية سيقابله نشأة تطرف ديني إسلامي ربما أشد عنفا ليواجه تلك الوحشية.
وعلى الرغم من سعي إسرائيل وأمريكا لمد سرطان التطبيع بالترهيب والترغيب في أكثر من دولة عربية قبل طوفان الأقصى، وكان البعض يتسابق ويتباهى باجتهاده في التطبيع، إلا أن الوضع اختلف الآن وأصبح أي مطبع يواجه سخطا أو غضبا شعبيا من أهل بلده حتى ولو تم منع التعبير عن ذلك بالقهر السياسي والعسكري، وهذا يجعل من الصعب على حلفاء وعملاء إسرائيل في المنطقة أن يجاهروا بتأييدهم أو تطبيعهم، ويضطروا تحت ضغط الكراهية الشعبية الممتدة أن يواكبوا – على الأقل في الظاهر – هذا الغضب الشعبي المشتعل، والذي تحرص إسرائيل بغباء شديد على زيادة اشتعاله وتوريثه للأجيال الجديدة، وكأنها تحفر لنفسها ولأجيالها القادمة قبرا هائلا، أو تهئ العالم لهولوكست جديد مدفوعا بكراهية صنعتها إسرائيل بغباء قادتها وحاخاماتها المتطرفون العنصريون المتعطشون لرائحة الدم ورائحة شوي الأجساد في ساحات غزة والضفة والأقصى.
ومهما حاول العقلاء والمعتدلون من هنا أو هناك ضبط طوفان الغضب والكراهية المتولد عن الأفعال الوحشية للكيان الصهيوني في فلسطين، حتى على الأقل لمنع حرائق هائلة في المنطقة والعالم، فربما لايستطيع ذلك لأن الصور الوحشية للقتل والتدمير خاصة للأطفال والنساء والبيوت الآمنة سوف يظل يشحن الملايين بشحنات هائلة ومتجددة من الغضب والكراهية خاصة أن هذه الصور والمشاهد ليست فقط محفوظة في الذاكرة الشخصية والجمعية، ولكنها محفوظة على الوسائل الإلكترونية الحديثة ويستدعيها أي شخص في أي وقت بضغطة من إصبعه على أي جهاز يحمله حتى بعد مئات السنين، فهل بعد كل هذا يمكن أن تنتصر إسرائيل أو أمريكا أو الغرب على رجال ونساء وأطفال غزة.
واقرأ أيضاً:
جائحة خطاب الكراهية / الدعم النفسي للأشخاص في زمن الأوبئة والحروب3