شجرة حبنا..
لسبب مجهول تصر الأفلام العربية القديمة أن يكون البطل طالبا جامعيا اسمه أحمد، أما البطلة فلا بد أن تكون فتاة نحيلة حالمة تصاب بعسر هضم إذا أكلت أكثر من حبة عنب واحدة في اليوم، واسمها - بالطبع- منى، تقريبا لا يوجد أسماء أخرى للإناث في هذا العصر.
وهناك الراقصة اللعوب التي تقع في غرام أحمد لسبب مجهول، وكأنه من الطبيعي أن تعشق تلميذا يأخذ مصروفه من بابا، وتحاول بكل وسيلة الإيقاع بين أحمد ومنى لتتزوجه.
قسط الثلاجة
سوف ترتدي الراقصة ثيابا محتشمة وتستأجر أطفالا لإيهام منى أنهم أبناؤها من أحمد، ستتوسل إليها طبعا أن تكتم السر عن أحمد، سذاجة منى تدفعها إلى التصديق والقبول دون أن تتساءل متى أنجب أحمد (وهو ابن العشرين) كل هذه القبيلة من الأطفال الملاعين الذين لا يقل عمر أصغرهم عن عشر سنوات، لكنها تصدق على كل حال وتتظاهر أمام أحمد -وقلبها يتمزق- أنها كانت تتلاعب بعواطفه.
أحمد يتعاطى الخمر في نفس الليلة وينحرف في الحال (وكأنه ما صدق)، تذوي منى كزهرة خريفية من فرط البكاء، أما الراقصة فيستيقظ ضميرها قبل نهاية الفيلم بدقيقة (لأن المخرج عليه قسط ثلاجة حان موعد سدادها) فتعترف بالمكيدة.
ويكون المشهد الختامي هكذا:
أحمد يجري صوب منى وهو يهتف:
منـــى..
ومنى تجري صوب أحمد وهي تهتف:
أحمـــد..
ثم ينتهي الفيلم بمشهد منى في أحضان أحمد، والراقصة مستيقظة الضمير ترقص في الفرح ابتهاجا بعودة الشمل وتكوين أسرة ولقاء أحباب. لا شك أن أي رجل اسمه أحمد كان محظوظا بشدة في هذا الزمان الجميل، لكن للأسف هذا السيناريو الرومانسي لم يعد قابلا للتكرار، والدليل ستعرفونه فورا.
رد قلبي
كان جالسا في استرخاء في أحد منتجعات شرم الشيخ حينما حمل إليه نادل الفندق رسالة مغلقة، بالطبع شعر بدهشة غامرة لأنه لا يعرف أحدا هنا، وبالطبع تساءل عن مصدرها، فأشار النادل في خبث إلى سيدة بدينة كأفراس البحر ترتدي نظارة سوداء على سبيل الغموض.
ولم يكن أمامه إلا أن يبتلع دهشته ويفض الرسالة ويقرأ:
حبيبي أحمد.
أخيرا وجدتك، وأخيرا تقرأ رسالتي الورقية بعد آلاف الرسائل الروحية طيلة أعوام الفراق الطويلة التي لم يساورني ريب أنها تلمس روحك النبيلة السامية.
منى تكتب لك الآن يا أحمد فهل تصدق هذا؟ منى التي أحبتك قبل أن تعرف أن اسمها منى وأن اسمك أحمد، وأنك جار في ذات المنزل.. كنا طفلين يتعلمان المشي معا فيتعثران ويسقط أحدهما على الآخر، هل تصدق أننا على بعد خطوات؟ مجرد خطوات كلفتنا عشرين سنة كاملة من الفراق، يمكننا أن نقطعها الآن في عشرين ثانية.
أي ذكريات تعبر ذهني في هذه اللحظة؟!
لحظات اللهو المشتركة والألعاب الطفولية والمغامرات الوهمية؟ أم الشكوى من صعوبة هجاء كلمة "ظريف" في الصف الأول الابتدائي؟ ذهابنا سويا إلى مدرسة الإمبابي بالهندام الأنيق والعودة بثياب ممزقة متسخة؟ أم أتذكر شجرة النبق العجوز -شجرتنا- وكيف حفرت اسمينا عليها بالبرجل (فرجار)؟ أم تلك "العلقة" المروعة من أستاذ اللغة العربية؟
أي فيضان من الذكريات..! تلك اللحظة التي تضرجت وجنتي خجلا إذ تلامست أيدينا عفوا؟ وكيف أدركت أنني لم أعد الطفلة منى، بل صرت منى العاشقة؟ أم تلك الغيرة الحمقاء التي عصفت بي إذ رأيتك ترمق سوسن بإعجاب؟ وكيف خاصمتك؟ وكيف عفوت عنك قبل أن تعتذر لي؟ ثم تلك المشكلة الكبيرة مع جارتنا أم بلبل.. تذكر طبعا حكاية نبيل وحمدي.. وكيف ضربتهما علقة وأثبت لي رجولتك وأنت مجرد طالب في المدرسة الثانوية.
كل شيء كان يشير إلى المستقبل الجميل الذي ينتظرنا، ولم يكن هناك ما يدل على النذير الغامض المشئوم حين قرر أبي أن يصطحب أسرته إلى إحدى الدول الشقيقة؛ لكي يصنع مستقبلا أفضل لأولاده دون أن يفطن أنه يمزق قلب ابنته تمزيقا.
أي شيء بوسع فتاة السابعة عشرة غير البكاء؟ وهل يجدي البكاء؟!
أذكر الأيام التي سبقت رحيلي كأنها لحظة سوداء طويلة، وعبثا ما حاولت إقناع نفسي أنه مجرد عام سوف ينقضي سريعا ويعود وجهك الحبيب، أبدأ به أجمل صباح، لكنني وقد تجرعت فجيعة الفراق لم أكن أتصور أن صباحا سوف يلي هذا الليل الطويل.
مر العام مثل قطيع هائل من الخراف السوداء يركض في أرجاء روحي، وعدت إلى الوطن لأجد الخبر المشئوم في انتظاري، لقد رحلت أسرتك هي الأخرى إلى حيث لا أدري.
سيد جمعة
والقصة معادة ومعروفة.. عشرات العرسان الذين أفتش فيهم عن عيب أبرر به رفضي المستمر. قلق أمي والشك يتشكل تدريجيا في عيون أبي خصوصا وتلك الخبيثة أم بلبل لا تكف عن بث سمومها في كل مكان، حتى تأتي تلك اللحظة التي يعلن فيها أبي عن اعتزامه تزويجي بالعريس القادم حتى لو كان بلبل نفسه (تصور!)، وهيامي في الطرقات أبحث عن وجهك بين آلاف آلاف الوجوه وأمسح الدمع المنهمر كيلا يحجب عني وجهك الحبيب.
وارتديت الفستان الأبيض الذي ما خلت أنني أرتديه لسواك.. تزوجت من سيد جمعة بطل مصر السابق في الملاكمة، إنه طيب القلب رغم تهوره أحيانا، ملامحه طفولية رغم جسد الثور الذي يمتلكه، وبرغم أني فشلت في حبه، فلا أنكر أنه تصدى لبهاء ودسوقي، وحتى أم بلبل يئست أن تغيره نحوي.
حتى رأيتك بوجهك النبيل الحزين في ذلك الفندق الذي اصطحبني إليه زوجي لمصالحتي بعد تلك "العلقة" الساخنة التي نلتها منه حينما سمعني أردد اسمك وأنا نائمة. كانت مشكلة كبيرة حقا صممت بعدها على الطلاق، لكن مصطفى رفض بإصرار.
طلقني.. طلقني.. طلقني
المهم -وكي لا أطيل عليك- شعرت أن قلبي يكاد يتوقف حين عرفتك، لم تتغير كثيرا، صحيح أنك ازددت نحافة وصرت أصلع، وفيما عدا ذلك فكل شيء على ما يرام.
والآن صار ممكنا يا حبيبي أن نتزوج، ذهبت إلى زوجي على الفور وصارحته بالحكاية كلها وكلي أمل في تفهمه وعطفه، ربما لم أكن -إذ رأيتك- متمالكة تماما لقواي العقلية، كنت شبه مسحورة، لم أتحمل ذلك الألم المروع الذي ارتسم على وجهك حين رأيتني برفقة زوجي، كان لسان حالك يقول: لقد التقينا بعد طول ضياع ولكن بغير جدوى.
لا أعرف ماذا يدور برأس زوجي الآن؟ لكني واثقة أنه سوف يطلقني، إنه ليس من ذلك الطراز الذي يمسك بعصمة امرأة تعلنه بحب رجل غيره، إنه ثور كما أخبرتك ويتمتع بكافة مزايا وعيوب الثيران، سوف يطلقني، ثق في ذلك.
والآن يا حبيبي، ها هي ذي منى حبيبتك عادت إليك بعد طول فراق.
دع الرسالة الآن وتعال، وكفى ما ضاع من العمر يا حبيبي.
المخلصة: منى.
مخيمر المسكين
انتهى من قراءة الخطاب ورأسه يدور.. أولا هو لا يدعى أحمد، لم يكن هذا هو اسمه أبدا، اسمه مخيمر، صحيح أنه ليس رومانسيا، ولكنه اسمه وهو فخور به، ثم إنه لم يكن أبدا في مدرسة الإمبابي، ولم ير هذه السيدة من قبل، وواضح أنها هستيرية وتثير المشاكل في كل مكان، والمؤكد أن أحمد هذا سعيد الحظ إذ أفلت منها، ثم ما هذا الحشد من الشخصيات التي لا يعرف عنها أي شيء؟
سوسن ونبيل وحمدي وبهاء ودسوقي، وسيد جمعة بطل الملاكمة الذي أرادت الطلاق منه، ومصطفى الذي يرفض بكل طريقة إتمام الطلاق، وأم بلبل التي لا عمل لها تقريبا سوى الكيد لها.. ما علاقته بكل هؤلاء؟!
أما مسألة الألم الفظيع الذي ارتسم على ملامحه فكان بسبب قلقه من فاتورة الفندق اللعينة. الأمر المهم الآن هو زوجها الثور بطل الملاكمة الذي أخبرته الحمقاء بأنها تحبه، هل سيمهله الوقت الكافي لإقناعه بأنه ليس المدعو أحمد خصوصا و"العلق" والمشاجرات تملأ هذا الخطاب اللعين؟
يجب أن يفر فورا من هذا الفندق النحس الآن وبغير انتظار.. بغير وقار.
واندفع صديقي هاربا، لكنه وجد نفسه في أحضان رجل ضخم الجثة شرس الملامح، يحتشد الشر على وجهه، كانت "العلقة" مؤلمة بالطبع حتى تدخل أولاد الحلال وأنقذوه من براثن الوحش.
المرأة الهستيرية كانت تصرخ بلا انقطاع: حرام عليك، اترك أحمد واقتلني أنا.
أما هو فلم يكن يردد إلا كلمة واحدة:
أنا مش أحمد يا ناس، أنا مخيمر.
واقرأ أيضًا:
اللحظة الفارقة