مقدمة:
اضطراب نتف الشعر Trichollomania هو اضطراب نفسي يعاني فيه المريض/المريضة، معاناة كثيرا ما يحاول إخفائها طويلا لكنها غالبا ما تنفضح، فهؤلاء أناس يعتادون نزع الشعر من أماكن نموه في أجسادهم، ويعرفون أن سلوكهم غير طبيعي، لكنهم طويلا ما يخفونه خجلا وخوفا، خاصةً في غفلة من الأهل في الطفولة، ومع تنامي السماح بالخصوصية للمراهقين، وإلى حد ما للمراهقات، وهن الأكثر عذابا لأن من الصعب أن يقبل المجتمع من تنتف شعرها برغبتها حتى الصلع أو حتى القرع، فهو وإن قبل امرأة خلقت ملساء صلعاء فلن يقبلها تفعل ذلك بنفسها، ونستطيع تعريف اضطراب أو هوس نتف الشعر بشكل عام بأنه النتف الاندفاعي Impulsive أو القهري Compulsive أو التلقائي Automatic للشعر، لأنه قد يأخذ أيًّا من هذه الأشكال وإن كنا في رؤيتنا لنطاق الوسواس القهري قد صنفناه تحت الوساوس الاندفاعية كما يتضح من مقال وساوس الحب والرغبة
*واضطراب نتف الشعر هو واحد من الاضطرابات النفسية حديثة الدخول على تصنيفات الاضطرابات السلوكية وذلك رغم قدم وصف الاضطراب، وبينما ترجع كل المراجع الغربية والعربية التابعة لها أول وصف لهذا الاضطراب إلى سنة 1889 حيث قام طبيب أمراض جلدية فرنسي Hallopeau بوصفه (Arnold,2000Christenson & Mansueto 1999, Christenson etal 1994b, Stein etal 1999)، إلا أن ما تبقى من التراث العربي الإسلامي يوضح لنا غير ذلك، ومن المهم هنا أن أبين لمتصفحي مجانين أن نتف الشعر في الحالات المقصودة في هذا المقال أي المرضى باضطراب نتف الشعر لا يكون بغرض التجمل، وهو بذلك مختلف وبعيد عن التنمص أو النمص، فما نتحدث عنه هو حالة مرضية تؤدي عادة إلى صورٍ كالمعروضة هنا.
وقد جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما يلي: "يا علي، ثلاثة من الوسواس: أكل الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان، وأكل اللحية"، وهذا الحديث الشريف يشير إلى ثلاثة اضطرابات نفسية بدأ التفكير الغربي في اعتبارها واقعة ضمن نطاق اضطرابات الوسواس القهري فقط في العقد الأخير من القرن العشرين، وهذه الاضطرابات هي أكل الطين أو العقعقة Pica التي تعني الاشتهاء المُلحّ أو الأكل المستمر لمادة غير مغذية أو غير مأكولة حسب المتعارف عليه ضمن إطار ثقافة معينة، وأما تقليم الأظفار بالأسنان Onychophagia فهو أيضًا أحد الاضطرابات القريبة من اضطراب نتف الشعر Trichotillomania ومن نطاق الوسواس القهري، وأما أكل اللحية فهو الإشارة إلى ما يفعله كثيرون من مرضى نتف الشعر في الشعر بعد نتفه؛ فمنهم من يمرر الشعر بين شفتيه، ومنهم من يثنيه عدة ثنيات بين أصابعه، ومنهم من يأكله حتى إن بعضهم يصاب بانسداد معوي بسبب التهام كمية كبيرة أو متراكمة من الشعر Trichophagia وتبين الصورة المقابلة كتلة من الشعر أزيلت من الأمعاء بعد الجراحة.
وما أوردت ذلك الحديث الشريف إلا لأبين كيف أن الفهم الغربي للكثير من الظواهر يجيء متأخرًا في الوقت الذي نظنه فيه جديدًا، فرغم أن الفهم الإسلامي القديم للوسواس كان أن الوسواس هو الشيطان فإن طريقة التناول والربط بين الظواهر القهرية في كل من نتف الشعر وقضم الأظافر والعقعقة وبين الوسواس القهري، هي التي يهمني أن أشير إليها.
* تعريف مبدئي:
ونستطيع تعريف نتف الشعر (أو هوس نتف الشعر Trichotillomania) بشكل عام بأنه النتف الاندفاعي Impulsive أو القهري Compulsive أو التلقائي Automatic للشعر، لأنه كما قلت قد يأخذ أيًّا من هذه الأشكال:
٠ فى بعض الحالات يكون اندفاعيا، بمعنى أن المريض يفعله استجابة لرغبةٍ ملحةٍ في النتف الذي يكون مصحوبًا بما يشبه الشعور باللذة وعادة ما يتلوه شعور بالندم بسبب الاستجابة لتلك الرغبة، بل إن من مريضاتي من كان الشعور المصاحب لنتف الشعر عندها يشبه الشعور المصاحب لقمة النشوة في الاسترجاز أي كان له طعمٌ إرجازي، وقد اعتادت النتف بدلا عن الاسترجاز.
٠ وفي بعض الحالات يكون النتف قهريًا عندما يضطر المريض لفعل النتف استجابة لشعورٍ متعاظمٍ بالضيق يتخلص منه المريض بالنتف (أي أن النتف هنا يماثل الفعل القهري في اضطراب الوسواس القهري) فلا يكون مصحوبًا بلذةٍ معينة وإنما فقط بالتخلص من الضيق، فمثلا تستشعر المريضة التي عادة ما تكونُ كثيرة العبث في شعرها أن شعرة أو أكثر غير مستقيمة أو مستفزة بشكل أو بآخر فلا تستطيع الخلاص من إلحاح الرغبة في نزعها إلا بأن تفعل.
٠ بينما يكاد يكون سلوك النتف سلوكًا تلقائيا عند البعض فلا نسمع منهم أكثر من أنهم يفعلون ذلك دون انتباهٍ كامل أثناء انشغالهم بالتركيز في أي عمل أو نشاط.، فلا هم يستمتعون بعملية النتف نفسها كما في الحالات الاندفاعية، ولا هم يشعرون ضيقا لا يخلصهم منه سوى النتف كما في الحالات القهرية، بل نجد من تكاد لا تدري بفعل النتف أثناء فعلها له.
إلا أن من الممكن أن ننظر إلى النوع التلقائي بشكل مختلف عن النوعين الآخرين، ذلك أننا نستطيع أن نستنتج عاملا مشتركا بين كلٍّ من النتف الاندفاعي والنتف القهري بينما هو غائب في حالة النتف التلقائي وذلك هو اختيار فعل النتف في ذاته، ذلك أن النتف التلقائي عادة ما يحدثُ في حالات الانهماك الذهني في موضوع آخر كمشاهدة التلفاز أو المذاكرة أو تصفح الإنترنت، فبينما يكونُ المريض شارد الذهن يحدثُ النتف دون وعي منه وبالتالي دون اختيار، وأما في حالات النتف القهري فإن المريض/المريضة يختار النتف ليتخلص من الشعور المتعاظم بالضيق الذي يسبق فعل النتف، ونفس الكلام ينطبق في حالات النتف الاندفاعي حيث يشعر المريض/المريضة برغبة ملحة في النتف وبشعور لذيذ غالبا أثناءه بينما يقتصر الأمر في النتف القهري على الشعور بالخلاص من الضيق، بهذا الشكل نستطيع أن نقول أن لدينا نتفا اختياريا(رغم معرفتنا بعدم اكتمال الإرادة) ويشمل النتف القهري والاندفاعي، ونتفا غير اختياري ويشمل حالات نتف الشعر التلقائي، وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان النتف التلقائي منتميا إلى اضطرابات نطاق الوسواس القهري أم لا خاصة وأن النتف في هذا النوع الأخير يحدثُ تقريبا دون وعي.
* شيءٌ عن الصورة المرضية:
ويؤدي اضطراب نتف الشعر إلى حدوث فقدانٍ واضحٍ في الشعر نتيجة لفشلٍ متكررٍ في مقاومةِ دافعٍ للنتف، ونتف الشعر يسبقه عادة توتر متصاعد ويليه إحساس بالراحة أو الرضا، وإن كنا لا نجد ذلك التسلسل واضحًا في كل الحالات، فإن وجدناه واضحا في بعض الحالات الاندفاعية والقهرية فإننا لا نجده بهذا الشكل في الحالات التي تصنف تلقائية، كما بينا من قبل، وبخصوص هذا الفقد الواضح في الشعر فإنني شخصيا لا أنسى خبرة شخصية توضح للقراء ما قد يكون غير متخيل من وصف الفقد الواضح، أذكر مريضة أتت عيادتي وكانت الأولى في عيادتي بهذا التشخيص-الذي كنا نتعلم أنه نادر-، محجبة تعرف أنها تعاني من هوس نتف الشعر، ولم تكن تعالج من قبل إلا في القاهرة ولكنها عندما سمعت عن وجود تخصص الطب النفسي في الزقازيق قررت أن تجرب، المهم أنها وصفت معاناتها وعرضت عقاقيرها، وكانت في السادسة والعشرين من عمرها من أسرة طيبة الحال وتمتلك عملا فسألتها ماذا عن الزواج فاستغربت سؤالي فسألتها عن سبب استغرابها فما كان منها إلا أن نزعت غطاء رأسها لتصدمني ولم أستطع إخفاء ذهولي فقد كنت حتى تلك الليلة أحسب أن النتف يؤدي مثلا إلى نقر في الشعر أو بعض الصلع أما ما رأيته فكان قرعا كاملا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وليس معدل انتشار اضطراب نتف الشعر معروفًا على وجه الدقة، وإن كان من المعروف أنه أكثر في النساء منه في الرجال، ورغم أن الحالات العابرة قد تصل إلى 1% أو أكثر قليلاً فإن الحالات التي تصل إلى مستوى الاضطراب النفسي لا يزيد معدل انتشارها عن 0.6%، وإن كان ميل الغالبية العظمى من المرضى إلى السرية وعدم البوح بمثل هذه الأعراض إضافة إلى غياب الدراسات المسحية التي تجرى على أفراد المجتمع العاديين بعيدًا عن عيادات الأمراض الجلدية أو الطب النفسي.. كل ذلك يجعل الحديث عن معدلات حدوث أو انتشار لهذا الاضطراب بعيدة عن الدقة إلى حد كبير.
وتشير التقارير الطبنفسية إلى احتمال وجود نوعين من اضطراب نتف الشعر، أحدهما يبدأ في سنوات الطفولة ما بين السنة الثانية والسنة السادسة من العمر، وهو نوع عابر في أغلب الأحيان (Stein etal 1994). وأما النوع الآخر فيبدأ في سنوات المراهقة وعادة ما يحتاج إلى تدخل علاجي حاسم، نظرًا لأن كَمَّ الأمراض النفسية المصاحبة له تكون أعلى من النوع الذي يبدأ في الطفولة، وبينما يمثل الأولاد أكثرية في الحالات التي تظهر في سن ما قبل المدرسة(62%)، إلا أننا في التوزيع العام للمرضى من مختلف الأعمار نجد أن70% من الإناث، وما تزال حالات نتف الشعر في سن المراهقة وما يليه من أصعب الحالات التي يواجهها الطبيب النفسي من ناحية العلاج.
ونادرا ما يقابل الطبيب النفسي مريضًا أو مريضةً تشتكي من أعراض اضطرب نتف الشعر ولا يجد في الصورة المرضية ما يشير إلى وجود اضطرابات نفسية أخرى مواكبة Comorbid، فبينما تشيع اضطرابات القلق والاكتئاب خاصة القلق المتعمم generalized anxiety والاكتئاب الجسيم major depression واضطرابات نطاق الوسواس القهري obsessive-compulsive disorders وأحيانا اضطرابات سمات الشخصية وربما الفصام في المراهقين والبالغين، نجد في مرضى نتف الشعر من الأطفال شيوع صعوبات التعلم learning problems، وأحيانا النقص العقلي mental retardation، وكذلك كثيرا ما نجد نقص الحديد iron deficiency، إضافة إلى وجود عادت عصبية مثل قضم الأظافر بالأسنان nail-biting ، وأيضًا مص الإبهام thumb-sucking، وهو ما يجعل البعض يصنف نتف الشعر مع اضطرابات العادات habit disorders، وأما مريض نتف الشعر الذي لا يوجد لديه اضطراب نفسي مواكب فهو الأقل ظهورا في عيادات الطب النفسي وربما كثيرون لا يعرفون أن نتف الشعر مرض نفسي.
المراجع العلمية:
Arnold LM (2000): Dermatology, in psychiatric care of the Medical patient, 2nd Edition. Edited by Stoudemire A, Fogel BS, Greenberg DB. New York, Oxford University Press, pp821-833.
Christenson GA, Faber RJ, de Zwaan M (1994b): Compulsive buying: descriptive characteristics and psychiatric comorbidity. J Clin Psychiatry 55:5-11.
Christenson GA, Mansuero CS (1999): Trichotillomania; descriptive characteristics and phenomenology, in Trichotillomania. Edited by Stein DJ, Christenson GA, Hollander E. Washington, DC, American Psychiatric Press, pp1-41.
Stein DJ, Christenson GA, Hollander E (eds) (1999a): Trichotillomania. Washington, DC, American Psychiatric Press.
Swedo S.E, Leonard H.(1992): Trichotillomania An Obsessive Compulsive Spectrum Disorder? Psychiatric Clinics of North America,1992: 15(4):777-790.
Stein, D.J, Simeon, D, Cohen, L and Hollander, E.(1994): Trichotillomania and obsessive-compulsive disorder. Journal of Clinical Psychiatry, 1994: 56(4): 28-34
وسنبدأ هنا على مجانين وضمن إطار طيف الوسواس القهري في محاولة تعريف الناس بهذا الاضطراب وكذلك محاولة الوصول لوضع أسس برنامج علاجي مناسب، ونحتاج خبرات أصدقائنا من متصفحي مجانين، ومبدئيا نعرض الروابط التالية من على استشارات مجانين: اضطراب نتف الشعر: نطاق الوسواس/ أكل الشعر: لا نتف الشعر فقط/ نتف واسترجاز وسحاق: إلا الطبيب النفسي/ نتف الشعر في غرفة الاستجواب/ نتف الشعر.. إشارة وإنارة!
يتبع ..............: اضطراب نتف الشعر: الأسباب أو العلية