فور بداية العدوان على غزة كان اتحاد الأطباء النفسانيين العرب Arab Federation of Psychiatrists في مقدمة الهيئات الطبية التي تحركت لتقديم الدعم النفسي المطلوب في مثل هذه الظروف وأصدرت بيانا جاء فيه: أننا ينبغي أن ننتقل من تاريخ طويل اعتدنا فيه ردود أفعال الشجب والاستنكار إلى تطوير أشكال الدعم الشعبي كل بحسب قدراته وتخصصه، وأن كثيرين من العاملين في مجال الصحة النفسية أبدوا الاستعداد للعمل.
وبعدها تداعت الجهود من جميع أنحاء العالم العربي ومن زملاء متخصصين يعملون في دول غير عربية، وتجاوبا مع هذا الزخم أصدر أ.د أحمد عكاشة رئيس اتحاد الأطباء النفسانيين العرب قرارا بتأسيس شعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث Emergency and Disaster Psychiatry، لتكون جهة التعامل مع هذه الأزمة ومثيلاتها من الآن فصاعدا، وفي ضوء المراسلات بين الدكتور وائل أبو هندي رئيس الشعبة والزملاء المتخصصين داخل غزة وخارجها وعبر الشبكة العربية للعلوم النفسية تم الاستقرار على تنظيم سفر أفواج متتابعة من الأطباء النفسانيين والاختصاصيين النفسانيين
وفي يوم الأربعاء 28 يناير 2009 انعقدت بمقر اتحاد الأطباء العرب بدار الحكمة بالقاهرة ورشة تدريبية تحت عنوان "الجوانب النفسية للعدوان على غزة" حضرها أكثر من ستين من المتخصصين في المجال النفسي والاجتماعي وألقيت فيها محاضرات عن طب نفسي الطوارئ والكوارث Disaster Psychiatry و كرب ما بعد الصدمة لدى أطفال فلسطين PTSD in Palestine Children والآثار النفسية لمشاهد الحرب على المشاهدين وتبع ذلك ورشتي عمل عن التعامل مع الأطفال والراشدين من ضحايا الحروب والكوارث.
وفي يوم الأحد 1 فبراير ذهب الوفد الأول (المكون من أ.د. وائل أبو هندي رئيس الشعبة ود. أحمد محمد عبد الله مدرس الطب النفسي بجامعة الزقازيق ود. أحمد أحمد ضبيع أخصائي طب نفسي بالمنصورة ود. وليد وصفي طبيب نفساني، وأستاذ عبد الرحيم الريفي أخصائي نفسي وأستاذة نانسي نبيل أخصائي اجتماعي من ذوي الخبرة في هذا المجال) كوفد استطلاعي لإجراء تقييم مبدئي للأوضاع على أرض الواقع والاحتياجات النفسية بعد العدوان، وتم تنظيم الرحلة بالتعاون مع اتحاد الأطباء العرب وهو المظلة التي تضمنا جميعاً.
ورغم أن الوقت الذي سُمح لنا بقضائه في غزة كان قصيرا (وصول الأحد 1/2 مساء وخروج الأربعاء 4/2 عصرا، وذلك بسبب إصرار السلطات المصرية على المعبر على أن يوقع أعضاء الوفد على إقرار بالعودة إلى مصر قبل يوم الخميس 5 فبراير)، فقد قام الوفد بمقابلات مع السيد الدكتور الوزير باسم نعيم وزير الصحة ووكيل وزارة التعليم كما قمنا بزيارة المستشفى النفسي بغزة بصحبة د. عايش سمورة مدير عام الصحة النفسية بغزة ود. حسن الخواجه رئيس مركز علاج الصدمات النفسية بوزارة الصحة، وقمنا بزيارة لمقر برنامج غزة للصحة النفسية حيث عقد الوفد اجتماعا مع د. إياد السراج ود.أحمد أبو طواحينه، إضافة إلى زيارة عدة مواقع ميدانية تضمنت حي الزيتون وزيارة لشمال القطاع منطقة العطاطرة ومدرسة القاهرة الابتدائية الأساسية للبنات، والتقى بعض أعضاء الوفد مع أطفال المدارس المقامة في الخيام.. إضافة إلى زيارات منزلية لأكثر من عشرين حالة منهم 14 طفلا وبقيتهم من الراشدين.
وتم إجراء يوم تدريبي للمتخصصين والمتطوعين تضمن تدريبا على مناجزة الكرب واستراتيجيات المجابهة Stress Management and Coping Strategies... والطرق التفاعلية في استراتيجيات حل المشكلات Problem Solving Techniques: Interactive Methods .
ومن خلال هذا كله تبدو الصورة كما يلي:
(1) بدا واضحا أن إحداث الأذى النفسي الشديد والمستمر على أوسع نطاق ولفترة ممتدة مقصود ومتعمد، وأن القائمين به كانوا على يقين تام بأنهم سيفلتون بغير عقاب لأن أحدا لن يستطيع رصد كل هذه البشاعة والبربرية وملاحقتهم بشأنها، وإجمالا فإن جانب الحرب النفسية والدعائية والإعلامية له اليد العليا فيما رأيناه وما هو مستمر حتى الآن.
(2) كان من الواضح أن حجم الأزمة أكبر بكثير من طاقة كل الجهات العاملة في مجال الصحة النفسية في غزة، بينما نكاد نجزم أن جهود بعض المتخصصين في الطب النفسي وعلم النفس على الجانب الإسرائيلي قد تضافرت مع العسكريين لتعظيم حجم وفداحة الأذى النفسي في هذا العدوان.
(3) العدوان بمنتهى الوضوح كان على البشر والحيوانات والشجر والحجر... وكان التعمد واضحا وضوحا لا لبس فيه... فمثلا شاهدنا في حي الزيتون ومنطقة العطاطرة مزارع دواجن مدمرة ومزارع ماشية مدمرة
(4) شوهدت بعض جثث الحيوانات وقد قتلت نتيجة للتصويب المباشر بالأعيرة النارية
(5) شوهدت أراضي ومزارع زيتون وبرتقال مجرفة وبعضها محروق كما شوهدت أشجار جميز مقتلعة ومحرقة وبعضها كانت أشجار معمرة.
(6) كان من الواضح استهداف المدارس والمساجد وبعض المستشفيات بشكل واضح... وحتى تلك التي لم تهدم قوضت دعائمها أو كسرت مآذنها إضافة إلى مئات البيوت المدنية وشاهدنا بيوتا ضربت بالقنابل الفسفورية في الشمال وبقايا الفسفور ما تزال قابلة للاشتعال على أسطح المنازل فضلا عن الاحتراق الكامل للمنازل وكل هذا موثق لدينا بالصور.
(7) تكرر التصويب المباشر على الأطفال، وتكررت رؤية الأطفال للتصويب المباشر على ذويهم
إذن فهناك تأثر واضح على مستوى الأطفال- البالغ عددهم أكثر من 780,000 ويشكّلون 55% من سكان القطاع- من الناحية النفسية، وتكررت الشكوى من التبول اللا إرادي Nocturnal Enuresis وزيادة الاستثارة Hyper arousal واضطرابات النوم والكلام Sleep and Speech Disturbances، وبالتالي فمن الواضح وجود احتياج شديد لطب نفسي الأطفال... وهذا نداء استغاثة لكل المتخصصين في طب نفس الأطفال في العالم ومعاونيهم. ولابد كذلك من تسهيل دخول الأدوات المطلوبة للعمل النفسي مع الأطفال.
وقد بدأنا كذلك في تطبيق مقاييس للقلق والاكتئاب والهلع ونخطط لقيام الوفود التالية باستكمال ذلك والإضافة إليه.
هناك نقص كمي وكيفي خاصة فيما يتعلق بالقطاع الصحي ككل والنفسي بصفة خاصة وهذا يحتاج تدخلاً على مستويات متعددة تشمل الدعم الفوري والتدريب وتطوير الكفاءات،... وهناك مناطق منكوبة لم تصلها الخدمات الإغاثية النفسية بعد..... كذلك لاحظنا بشكل عام أن الجهود الإغاثية النفسية ما تزال مبعثرة وقاصرة كما وكيفا مما يستلزم تدخلا فوريا من خارج قطاع غزة وعليه فإننا نستنفر جهود الزملاء العاملين في مجال الصحة النفسية عموما وفي مجال التعامل مع مثل هذه الظروف خاصة، كذلك من المهم بيان أن التدخل النفسي المطلوب يحتاج وقتا لإجراء المقابلات وإنشاء علاقة مع المتضررين، وهو ما ينبغي على الراغبين في المشاركة الاستعداد له.
والشعبة تواصل جهودها في أداء مهمتها في ظل حصار خانق على قطاع غزة بالتواصل مع من يهمه الأمر، ويستطيع تقديم جهد على أي مستوى، سواء بالتدخل المباشر في الميدان أو جهود تدريب وتطوير العاملين فيه، أو توثيق الحالات وإجراء الأبحاث والدراسات، أو تسهيل مهمة الشعبة في القيام بأدوارها.
لقد رأينا أن ما حدث في غزة هو عار يجلل جبين الإنسانية وإن من واجب كل إنسان حر وفي مقدمتهم المتخصصون في الصحة النفسية والاجتماعية أن يجتهد في محو وصمة هذا العار ما استطاع إلى هذا سبيلا, ونقول لكل زملائنا من المتخصصين أن تحدي الكارثة رهيب، وأن مصداقيتهم المهنية والأخلاقية على المحك..... ألا هل بلغنا اللهم فاشهد.