الوحدة وكره النفس!
السلام عليكم.. أنا شاكر لكم على مجهودكم القائم في هذا الموقع الرائع. مشكلتي بدأت منذ سن الـ 16 سنة، فقبل هذا العمر كنت أعاني من مشاكل في الأسرة لاحصر لها، ولم أجد الدافع من أسرتي أو البيئة المحيطة من حولي لدعمي ودفعي نحو أشياء تشجعني لأستمر فيها.
كانت أغلب أيام حياتي تتأرجح بين مشاكل أبي وأمي وبين مشاعر ومشاكل المراهقة المتعسرة التي مررت بها، وكنت أتهرب من واقعي المرير إلى كثرة الخيالات، وكنت كثيراً ما أرى نفسي في خيالي أني ذلك الشخص الذي يحقق أهدافه وطموحاته، وأني أمتلك الموهبة ولدي إنجازات كثيرة، ولكن بالواقع يُعكَس ما يعرضه لي خيالي فما ألبث حتى أجد نفسي عدت إلى واقعي المرير.
وفي صغري تقريباً في سن الـ 9 تعرضت لحادث اختطاف مما أدى بي إلى الشعور بالخوف من العالم الخارجي وعدم تقبلي لفكرة الخروج من المنزل خشية تعرضي لمثل هذا الأمر مما جعلني ذا شخصية انطوائية أكثر على نفسي.
مرت الأيام وتحسنت وأصبحت أخرج وأخالط الناس ولكن لا أملك صداقات فعلياً، أعرف أشخاصاً كثر وأصبحت أتحدث مع الكل، وفي عمري هذا _ولله الحمد_ أنا مؤذن لمسجد، ولكن مازلت أشعر بالوحدة فكل من أعرفهم أعرفهم معرفة سطحية، ولا أجد من يعرفني كثيراً، ولا أثق بالجميع، وتأتيني أفكار بأني أتمنى لو كان هناك شخص بحياتي يحبني، ولكن أنبذ هذه الفكره وأرى أنه ضعف في نفسي فلست بحاجة إلى شخص يحبني أكثر من تقبلي لنفسي.
مشكلتي الأخرى أنني كلما حاولت تطوير ذاتي بأن أجد ما يشغلني بالحياة من موهبة أو مهارة أحبها أعود بلا شيء، فقد خضت بجميع الأمور ولكن لم أجد شغفي أو رغبتي في فعل هذا، ولكم مثال: فقد جربت أن أخصص من وقتي لتعلم الرسم ولكن لم أفلح فيه، وكنت أعطي نفسي أوقاتاً طويلة فجلست في هذا الأمر ما يقارب ال6 شهور ولم أجد نتيجة، ولم يكن لي دافع في الاستمرار وانطلقت من شيء لآخر فتارةً أغني وتارةً أكتب قصصاً وأخرى أصور مشاهد قصيرة، ولكن لم يفلح معي الأمر في سد وقتي ومحاولة العثور على ما يلهيني، وأنا على هذا الحال فأصبحت في دوامة أكبر فكنت أنتقد وأجلد ذاتي كثيراً وأنعت نفسي بالفشل مع أني كنت أحاول كثيراً وفي كل مرة كنت أطمح للوصول لأمر، لكن لم يجد نفعاً معي أيٌ من الأمور التي جربتها، وكنت أرى أغلب الناس موهوبون ويملكون ما يقضون فيه أوقاتهم فكنت أشعر بالحزن وكانت تمر علي أوقات أشعر بها في ضيق بالصدر شديد وأبكي بلا سبب.
وصلت سن الـ 19 والحمدلله أنا في كلية الهندسة، دخلتها وأنا كنت أحبها جداً فتمنيت أن أجد فيها ما يلهمني لأستمر في اكتشاف ذاتي وتطويرها، ولكن تمر السنين ولا شيء يتغير، فما وجدت الجامعة إلا كابوساً يتكرر من المعلومات التي أحفظها وقت الامتحان لأنساها عند انتهاء الامتحان، ولم أعثر على ما يحفزني في هذا الأمر فعزلت نفسي عن كل شيء وأصبحت أكره الخروج من المنزل، وأصبحت منطوياً على نفسي أكثر وأكثر، ودائماً ما يتملكني التفكير في أنني إنسان لا طموح له مهما حاولت وأني فاشل وصلت سن ال 20، وحاولت محاربة الأفكار الهدامة وأن الحزن لن يغير شيء فأصبحت أذهب للنادي الرياضي، كنت مستمتعاً بوقتي وكنت أعطي كل وقتي له بترتيب مواعيد الذهاب وما يجب علي فعله ونظام غذائي، واستميت على هذا الحال حتى بلوغي سن ال 21 ولكن للأسف لم أصل بعد هذه المدة لما طمحت إليه فعادت إليَّ حالتي القديمة وأصبحت أرى كل ماحولي كئيب ولا يستحق العناء لأني أعلم أن ما سوف أصل إليه من نتائج في كل مرة وهو الفشل في نهاية كل خطوة أخطوها لأنجز أمر... مشكلتي ليست في الحزن لما أفعل، مشكلتي أنني كلما أقدمت على أمر تمنيت لو أنه يساعدني في حل مشكلتي أفشل فيه ويزيد علي الأمور.
هذه الفترة طرأ عليَّ أمر غريب فأنا بطبيعتي كثير الخيال والتفكير، ولكن أصبح الأمر معي أنني أنغمس في التفكير لدرجة أنني أنسى الواقع، فمرة من المرات كنت في طريقي للعودة للمنزل وكنت أفكر حتى أنني غفلت عن الطريق وانغمست بعالم آخر، وبسرعة نظرت من حولي فقلت "أين أنا؟!" وخفت كثيراً من الأمر وتناسيته، حتى تكرر الموقف معي في الصلاة فكنت في الصلاة وتعمقت في التفكير وإذ بالناس ينهون الصلاة وأنا مازلت واقفاً حتى تداركت الأمر وأنهيت الصلاة معهم، وظلت مثل هذه الحوادث تتكرر معي.
والآن أنا في صراع مع ذاتي بين أفكار سلبية وتجارب سابقة لم تنجح، أصبحت شارد الذهن كثير التفكير بأمر تملكي لموهبة أو هواية تملأ فراغي، وعانيت من سلوكيات خاطئة في سن المرهقة ووقعت في العادة السرية ولكن كبحت جماح شهوتي ومازلت أحاول السيطرة عليها حتى عادت الأمور لطبيعتها فأصبحت لا ألقي لها بالاً، وظل ما يشغلني هو محاولة لتطوير ذاتي وارتقائي في معرفة نفسي والوصول لما أحبه وأرغب في فعله بالحياة.
أرجو منكم مساعدتي في حل هذه الأزمة،
وشاكر لكم على كل الجهود في مساعدتي.
18/8/2020
رد المستشار
صديقي
مشكلتك تكمن في أنك صنعت واخترعت قوانين وتعريفات تجعلك تدخل في اليأس والاكتئاب... تعريفك للنجاح والفشل والموهبة وتوجهك أو وجهة نظرك في آليات الحياة والمعاني التي اخترتها (بدون وعي أو فهم عميق) يجعلك سجيناً... كما قررت أو تقبلت معان معينة، يمكنك أن تصنع معانٍ أخرى مبنية على تعريفات ومعلومات صحيحة.
كل المواهب موجودة في كل الناس... بعض الناس مواهبهم تظهر أثناء ممارسة شيء أو تعلم مهارة ما، وبعض الناس يرغبون في تنمية مهارة معينة والبراعة فيها فيسميهم الناس موهوبين بسبب براعتهم وانطلاقهم أثناء ممارستهم للمهارات المكتسبة... في كل الحالات، الشيء الأساسي في التعلم الحقيقي هو الفضول والرغبة في المعرفة والبراعة... هذه الرغبة لا يعطلها شيء أو ظروف أو إمكانيات مادية أو بيئية... نحن الآن نعيش في عالم كل المعلومات ومجالاتها المختلفة متاحة عبر الكتب والإنترنت... ليس هناك ما يمنع أي شخص من تحقيق أي شيء، ولكن من يحققون النتائج لا يستعجلونها ولا يملُّون ولا يسأمون من السعي نحو البراعة والإنجاز لأنهم يفعلون ما يفعلون بدافع شخصي... في حالتك ومن هم مثلك في هذه الأحاسيس اليائسة (وهم كثيرون)... رغبتك في الإنجاز وراءها رغبة في إبهار الآخرين فتجعلك تبحث عن شيء ما تملأ به فراغك، وهذا لا يجدي... السأم والملل يدل على قلة المعلومات وعدم وجود فضول أو رغبة في المعرفة والبراعة... شاهد كيف يلعب الأطفال في ألعاب الفيديو أو أية مهارة مثل كرة القدم، تجدهم في منتهى الفضول، منتهى التركيز، منتهى الرغبة في البراعة والإنجاز، منتهى الاستمتاع، عدم الشعور بالوقت، منتهى الاستغراق، منتهى الجدية، منتهى المرح..... هكذا يجب أن نعيش ونمارس ما نختار من مجالات.
تعريف النجاح الصحيح هو: خطوات مستمرة نحو هدف محدد.... بهذا التعريف، طالما أنك مستمر في السعي نحو هدف محدد فأنت ناجح على طول الخط أثناء رحلتك إلى الهدف حتى وإن وافتك المنية قبل الوصول الى الهدف. الإخفاق هو أن تدع العقبات تثنيك عن استمرارك في طريق النجاح... ولكن من المستحيل على المدى الطويل أن يستمر الإنسان في الإنجاز بدون رغبة داخلية في البراعة في مجال يستهويه (هذا معناه رغبة دائمة في معرفة المزيد عن كيفيات البراعة وممارستها والتدرب عليها)... عندما تقول أنك مارست أو تدربت على الرسم لمدة ستة أشهر بدون نتيجة فهذا يدل على استعجالك للنتائج بشكل مبالغ فيه.... من في العالم أصبح خبيراً أو ماهراً في شيءٍ فنيٍ في ستة أشهر؟؟ ومن ناحية أخرى: ما هو تعريفك للنتيجة المرجوة؟
من ناحية تحديد الأهداف فيجب أن تكون أهدافاً ذكية:
1_ يجب أن يكون الهدف محدداً.
2_ يجب أن يكون هناك مقياساً محدداً أو محطات على طريق المحطة النهائية.
3_ يجب أن يكون الهدف ممكناً في إطار قوانين الطبيعة (وليس من وجهة نظر العرف أو الناس أو التفكير المعتاد).
4_ يجب أن يكون الهدف منطقياً، وأن تكون هناك معلومات عنه ومعرفة بسبب الرغبة في تحقيقه (لماذا تريد الهدف بعيداً عن رأي الآخرين؟).
5_ يجب وضع ميعاد معقول للوصول إلى الهدف.
دعنا نفكر في الهدف، مثلاً الهدف أن تكون سعيداً وتمارس نشاطات ممتعة ومفيدة في حياتك.... تحديد الهدف هنا يعني أن تسأل نفسك ليل نهار عن ما الذي تريد الاستمتاع بالعمل فيه أو ممارسته لذاته لو كان النجاح مضموناً على المدى الطويل (عدة سنوات)؟ ما الذي تريد أن تفعله دائماً؟ ولماذا؟ ما هو المعنى الشخصي لهذا الشيء في حياتك ومستقبلك؟ هذه الاسئلة هي محور حياتك وبالتالي لا مجال للسأم أو الملل أو الضجر لأنك لا تجد الإجابة السحرية المثالية فوراً..... أعط نفسك ثلاثون يوماً على الأقل من التساؤل المستمر وتحري المعلومات والحقائق حتى تصل لما تريده في حياتك.... لو أخذ منك التساؤل ستة أشهر أو سنة فلا بأس أيضاً، ولكن لا تقضي وقتك في التساؤل فقط.... جرب أشياء عديدة بكثير من الفضول فيها لتجد المجال الذي تحبه..... ثم ما هي العلامات الدالة على استمرارية الإنجاز في هذا المجال (الخطوات أو علامات الطريق التي تعلمك أنك على الطريق الصحيح مثل علامات الكيلومترات أو الأميال في طريق السفر)؟ هل وصل أي شخص في التاريخ البشري لمثل ما تريد أن تصل إليه؟ كيف فعلوا هذا؟ كيف تتبع خطواتهم؟... إن لم يكن هناك من وصل إلى هدفك المختار من قبل، فهل هناك طريقة علمية منطقية تمكنك من إنجاز ما لم ينجزه آخر من قبل؟ (ابحث في الإنترنت عن قصة روجر بانيستر الذي استطاع لأول مرة في التاريخ أن يحقق الرقم القياسي في العدو لمسافة الميل في أربعة دقائق).
الحياة رحلة ولعبة تعليمية تمارسها بكل ما فيها بمحض اختيارك..... ليست المسألة سباقاً.... السأم والضجر السريع علامات على التفكير الطفولي... لك أن تختار أن تظل طفلاً وتخسر حياتك أو أن تنضج وتأخذ الأمور ببساطة ومرح مع الجدية النابعة من الفضول في مجالك المختار والاستمتاع بأصغر الإنجازات فيه وحبك لذاته.
وفقك الله وإيانا لما فيه الخير والصواب.