السلام عليكم ورحمة الله
لي بعض الاستفسارات في موضوع "الزوجة الثانية":
1 - أرى أنكم ضد التعدد في الزواج أصلاً وموضوعًا... ما السبب؟
2 – أعتقد أن الباعث الشرعي والنفسي والاجتماعي يؤيد التعدد، والإحصائيات العددية بين الرجال والنساء دليل على ذلك
3 – لماذا ارتبط فكرة خراب البيوت ودمار الزواج الأول وإهمال الأولاد بموضوع الزوجة الثانية؟
أرجو مناقشة الموضوع من جميع زواياه، وأقترح طرحه للحوار؛ حيث أوجه سؤالاً لأية أخت مسلمة:
هل تفضلين العنوسة عن كونك الزوجة الثانية خاصة إذا كان الزوج يتقي ربه، ويعدل بينكما؟
أرجو اعتبار الموضوع هامًّا
وشكرًا.
15/5/2022
رد المستشار
الأخ العزيز، يبدو أن الموضوع أهم مما نتصور أنا وأنت؛ ليس لأن الباعث الشرعي والنفسي والاجتماعي يؤيد التعدد أو يعارضه، وليس لأن الإحصائيات العددية للفروق الديموغرافية بين عدد النساء والرجال قد أظهرت خللاً في نسبة هؤلاء إلى أولئك على مستوى الأمة الإسلامية، وليس لأن الزواج الثاني في حد ذاته هو المسؤول عن خراب البيوت أو إهمال الأولاد أو شيوع الظلم الأسري والاجتماعي كما يتصور البعض ويصور، فهذا كله غير صحيح.
الموضوع هام؛ لأننا أصبحنا نتخبط يا أخي العزيز، في عالم يضغط على أمثالنا من أصحاب الإيمان الديني، ويتحداهم بأنظمة اجتماعية وذهنية وتنموية وثقافية تبدو براقة في الوقت الذي عجزنا نحن، أو توقفنا عن إنتاج أنظمة الحياة والحضارة منذ وقت طويل، وعليه فنحن نترنح تلفيقًا وتردداً بين الدين والدنيا، وتختلط لدينا الأمور والألوان والمفاهيم حتى يصدق فينا قول من قال: "لا تعجب لمن هلك كيف هلك، ولكن اعجب لمن نجا كيف نجا!!"
وقد نطرح الموضوع للنقاش في "حوار حي" أو صفحة "قضية للحوار" ... ولكن دعني الآن أتعرض لبعض الجوانب لعلّي بها أستكمل تبيان معالم موقفي من مسألة الزواج الثاني، وقد سبق ورددت على بعض الإخوة أصحاب مشكلات محددة في هذا الصدد، وهو ما أفضله دائماً؛ لأنني أرى أن كل حالة تقدر بقدرها، وأن نجاحنا يتمثل في وصف وتبيان ما يخفى على صاحب المشكلة في مشكلته دون أن نتورط في أحكام عامة؛ لأن الأحكام العامة في المسائل الاجتماعية والأسرية والنفسية كثيراً ما تكون مضللة أو على الأقل غير دقيقة ..... وبالتالي اسمح لي أن أعترض أولاً على قولك بأننا ضد التعدد في الزواج أصلاً وموضوعًا؛ لأننا لا نملك أن نكون ضد مباح، ولا نريد ذلك، ولا نسعى إليه، ولا نجرؤ عليه، ووضع المسألة في حقيقتها هو على غير هذا النحو تماماً.
الواقع أن بعض السائلين قد أرسلوا يسألوننا عن رأينا في ظروفهم، وكانوا "جميعاً" وأكرر "جميعاً" لا يعيبون على زوجاتهم خلقاً ولا ديناً، ولا عقماً، أو تقصيراً في رعاية البيت أو الأولاد، إنما كانوا يشتكون من فوران شهوة لديهم أو انخفاضها لدى زوجاتهم لسبب أو لآخر، ويرون في الزواج الثاني حلاًّ سحريًّا لهذه المشكلة، وفي حالة واحدة فقط كان السائل على علاقة بامرأة أخرى، ويفكر بالزواج منها، وتطليق الأولى - أم أولاده -؛ لأنه لا يستطيع الزواج باثنتين ... ولو أن زوجة أرسلت تشكو أن زوجها قد "أجرم" بالزواج من ثانية، أو أن رجلاً أرسل يقول: أعشق أخرى ولن أتزوجها، بل سأكتفي بزوجة واحدة، والأخرى عشيقة، لكانت لنا ردود أخرى؛ لأن محض الزواج الثاني ليس مشكلة ولا جريمة، ولكنه أحياناً، وأكرر أحياناً يكون حلاًّ.
الواقع أننا وجدنا أنفسنا أمام حالات من الظلم الفادح لزوجات خرجن من خدورهن، وحفظن أنفسهن، وبذلن طاقتهن لبعولتهن وأسرهن فانكسر منهن الظهر، وظهرت التجاعيد على الوجه، وتهدل القوام الذي كان ممشوقاً، وصاحبنا أصبح في منتصف عمره يريد أن يجدد شبابه، وينفق من ماله، ويدعم استقراره في زواج ثان، وينسى أن هذا الرصيد الذي توفر أو تراكم من المال أو الاستقرار ساهمت فيه شريكته بنصيب موفور خاصة في نمط الحياة الحديثة الذي أصبحت فيه المرأة/ الزوجة تتحمل مع زوجها أعباء الحياة دون عون يذكر من الأسرة الممتدة، أو الشبكة الاجتماعية الأوسع كما كان في وقت سابق، فهل من العدل - ابتداء - أو المروءة أن يشرك الرجل وافدة جديدة فيما اشترك في بنائه - هو والأُولى - حجراً فوق حجر لا لشيء إلا لمجرد شهوة نفس، وأزمة منتصف العمر، وأعراضها النفسية التي تطحن البعض طحناً؟!!!
هذا هو الباعث النفسي يا أخي، ولو أن الراغب في زواج ثانٍ في مثل هذه الحالات قال: إنها شهوة نفس أريد التجاوب معها – حتى النهاية – في إطار المباح، إذن لهان الأمر، ولكنه يتحدث عن الأمر – الزواج الثاني - وكأنه مقدم على ملحمة جهادية، أو مكرمة اجتماعية، أو مهمة جليلة يخدم بها الإسلام والمسلمين، ونحن نحب أن تُسمى الأشياء بأسمائها، ونحرص على ذلك اتباعاً لسنة المصطفى الكريم الذي نبهنا وحذرنا من تسمية الأشياء بغير اسمها.
وعليه فقد قلنا: إن الزواج الثاني يكون في مثل الحالات التي تقدمت إلينا تسأل الرأي مجرد شهوة حاولنا أن نرشد إلى عواقب الاستسلام لها، ولا يخفى على أحد أن كل اختيار دنيوي - مهما كان - يحمل في طيَّاته جوانب سلبية، وأخرى إيجابية، وحيث إن السائل يرى - من نفسه - الجوانب الإيجابية، رأينا أنه من الواجب والأمانة أن نبرز له العواقب والجوانب السلبية بدءاً من الإضرار بالزوجة الأولى، وانتهاءً بأن العائد الذي ينتظره، ويأمل تحقيقه سيكون مقابله ثمنًا كبيرًا، وعليه أن يحسب أموره جيداً.
وموقف الشرع واضح، ولكن الإنسان أكثر شيء جدلاً، فالإسلام "يبيح" تعدد الزوجات للرجل، وفي مقابله يبيح الخلع وغيره للمرأة، فالارتباط الأسري في الإسلام يقوم على الاختيار، وعلى الحرية المسئولة، ولا يرى الشارع الحكيم أن الأسرة يمكن أن تقوم على امرأة كارهة لزوجها أو بيتها ومعيشتها، وإن ارتضى للرجل غير ذلك فجعل أمامه اختياراً ثالثاً غير الطلاق، أو الإمساك الكاره، وذلك بأن يتزوج أخرى لإصلاح خلل فادح في الأسرة الأولى، أو لوقف الاندفاع إلى الحرام مع ثانية طابت له، وطاب لها وتجاوزا الخطوط الحمراء؛ فيصبح الزواج الثاني هنا أفضل من الحرام، وبالمناسبة فإننا نتوقف ونتأمل كثيراً في آيات القرآن التي عالجت مسألة التعدد، ونرى فيها إحكاماً من لدن الحكيم الخبير، ونرى فيها تقييداً منضبطاً يرسم البديل – الدقيق في بنائه الداخلي – للتحلل والفساد والظلم الذي تورطت فيه الأنماط الاجتماعية غير الإسلامية، وعليه فإننا أشرنا إلى أن الشارع يبيح دون فرض أو تحريم، وعلى الإنسان أن يختار مسئولاً عن اختياره، ورأينا أن من واجبنا أن ننبه إلى جوانب هذا الاختيار من واقع الحياة والخبرات في الممارسة، وحالات سابقة مشابهة تسرع بعضها في اعتماد التعدد حلاًّ ثم ندموا بعد ذلك، ودفعوا غالياً ثمن اختيارهم على المستوى الشخصي والأسري والاجتماعي والنفسي، والذي أردنا قوله هنا أننا أمام مسألة لا يلزم فيها وحي السماء، أو خلاصة التجارب باختيار محدد عام نتجاسر فيه – كما يحلو للبعض - على أن نكون مع أو ضد، إنما الأمر خاضع للاختيار المسئول الذي يراعى الله ثم أموراً أخرى كثيرة متشابكة تشابك الحياة ذاتها.
ويضعنا هذا أمام ما أسميته أنت الباعث الاجتماعي، ونلاحظ فيه أن الرجل يقول زوجتي توافق أو تهدد أو ترفض، وتقول أنت اسألوا العانس هل تختار الزواج الثاني أم البقاء على حالها؟!
ولو كان التعدد أمراً واجباً مفروضاً قلنا آسفين سنضرب برغبة الزوجة الأولى، ورغبة المرشحة الثانية عرض الحائط؛ لنطبق أوامر الله سبحانه، ولكن لأن الأمر "مباح" في أحسن الأحوال قلنا أن على الرجل أن ينظر في أسبابه ودوافعه للتعدد مراعيًا وقفته أمام الله، وأن يحسب كل أموره بناءً على ذلك، ولو كانت زوجته راضية وموافقة، والعانس راضية وموافقة، وأضيف لك هنا أن المرء يتحمل أيضاً وزر من يعمل مقتدياً به في شططه إذا اشتط، وهو في أمر التعدد شائع حين ينظر أحدهم إلى من هم رؤوس الناس وقدوتهم، ويقول مالي لا أفعل مثل فلان، أو لست أفضل من فلان.. هكذا دون تبصر بالفوارق الفردية أو التفاصيل التي قد تبرر لهذا ما لا تبرره لذاك .... اعترف لك يا أخي أن الظلم – رغم شيوعه – ما زال يفزعني، وقد نعجز عن رفع أشكال كثيرة منه، لكننا نستطيع التخفيف من جوانب أخرى، وأنا أرى أن الرغبة في الزواج من أخرى - أية أخرى - لمجرد دافع الشهوة، ودون وجود مقدمات من جهة الزوجة الأولى تتمثل في سوء المعاشرة، أو خيانة الود، أو استحكام الخلاف والكراهية، أرى أن ذلك ظلماً، وأن الإقدام عليه ليس من المروءة ولا الحكمة في شيء، وأن مرتعه وخيم يلزم التحذير منه، فكيف والحال أحياناً يكون من قبيل مقابلة الإحسان وجميل المشاعر، والتفاني في الرعاية، مثل من استخدم آلة ثم لما بليت أراد استبدالها بأخرى "على الزيرو"، وقلنا أن من سمات الدنيا النقص، وأن البحث عن الكمال أو الاستكمال مثل السعي وراء السراب بغية الارتواء منه، وقلنا أن الصعود في سلم الحياة الذي تعين عليه الأولى، وتبدو الثانية مدعاة للمزيد منه قد يكون وهماً فيكون الزواج الثاني صعوداً إلى الهاوية، ودَعَوْنا الأزواج إلى تجديد عواطفهم، ومعاونة زوجاتهم على حسن التبعُّل لهم باستخدام من يساعدهن في شئون المنزل، وإتاحة الفرصة أمامهن لتحسين أدائهن الجنسي والعاطفي، وأعجب حين أقرأ وأشاهد عن المرأة الغربية التي تظل محتفظة بنضارتها وقوامها ورغبتها المتوقدة حتى ما بعد الستين!!!
والمرأة عندنا حبيسة مشاكلها ومشاغلها، وميراث طويل من الإهمال، والتقدير، ولو أن الظلم الاجتماعي الذي نعيشه يجد من يتصدى له لرأيت من نساء المسلمين عجباً في هذا الشأن، وفي غيره.
آسى معك على ملايين النساء المسلمات اللائي يعشن وحيدات - رغم أن الوحدة أحياناً تكون خير من جليس السوء - يشتكين حظهن من عنوسة أو طلاق أو ترمل، ولكنني لا أرى الحل في الزواج المتعدد، بل في أن يكون لملايين الرجال الذين يعانون الوحدة لنفس الأسباب قرينات تسكن إليهن نفوسهم، وتقر بهن عيونهم، إن النظام الاجتماعي لدينا فيه مظالم كثيرة، وللأسف لا نجد من يسلط الضوء عليها مثل ما يحظى الظلم السياسي والاقتصادي بالاهتمام، ومن حقنا - بل من واجبنا - أن نسعى ونجاهد من أجل نظام اجتماعي أكثر عدلاً، كما كان المسلمون الأوائل يرونه خللاً أن يبيت الرجل وحيداً، أو تبيت المرأة وحيدة، فلنجاهد معاً ضد هذه الأوضاع؛ لتعمير هذه البيوت الموحشة التي تشبه القبور؛ لينعم ساكنوها بحلال الله سبحانه، ونعمته لعباده.
فالبيت الذي فيه امرأة ورجل خير من البيت الذي فيه امرأة ونصف رجل ... والله أعلم.